- كانت الأنظمة المجالسية (المبنية على رفض الحكم الفردي ومن ثمة يجوز اعتبارها أول براعم النظام الديمقراطي) جدّ شائعة في كل المجتمعات البشرية.
- لم تكن أثينا القرن الخامس قبل الميلاد أول مدينة عرفت حكم المجالس، فقد كان ذلك الحكم هو النظام المعمول به في مدن ما بين النهرين 3 آلاف سنة قبل التجربة الإغريقية.
- لما غزا الإسبان في القرن الـ 16 المكسيك ذهلوا -هم القادمون من الدكتاتوريات الملكية الأوروبية العريقة- لاكتشاف شعوب تعيش تحت نظم سياسية لا يمكن وصفها إلا بالنظم الجمهورية والديمقراطية.
- لما غزا الفرنسيون كندا في القرن الـ 17 ذهلوا أمام "متوحشين" يقدسون الفردانية والحرية والمساواة ولا يخضعون إلا لمن يختارونهم لمناصب القيادة.
- يروي الكاتبان دهشة الرهبان الفرنسيين أمام هذه التصرفات وخاصة دهشة "المتوحشين" أمام هؤلاء البيض الذين يستكينون لحكم شخص ولا يعرفون الحرية والمساواة والتآخي.
لا علاقة عضوية أو خاصة للديمقراطية بالمركزية الغربية. وكل ما في الأمر أن الديمقراطية الغربية هي مرحلة تاريخية من تطور النظام المجالسيوما يثبته الكاتبان استنادا إلى وثائق تاريخية متينة أن شعارات الثورة الفرنسية "حرية، مساواة، أخوة" كانت في جزء كبير منها من وحي السكان الأصليين لأميركا الشمالية.
وكم غريب أننا نحن العرب الذين أخذنا كثيرا من الأفكار الديمقراطية عن الغربيين بصدد اكتشاف أنهم أخذوها من شعوب غابات البحيرات الكبرى في شمال أميركا!
الحقيقة الأولى: لا علاقة عضوية أو خاصة للديمقراطية بالمركزية الغربية. وكل ما في الأمر أن الديمقراطية الغربية هي مرحلة تاريخية من تطور النظام المجالسي.
(2)
من الماضي القريب
عن الماضي القريب، أي بمقاس القرنين الأخيرين، وإذا اعتبرنا أن المساواة أمام القانون والحق في الانتخاب شرطان لا وجود لديمقراطية كاملة دونهما، فإنه يمكننا القول إن:- بريطانيا لم تصبح دولة ديمقراطية "مقبولة" إلا عندما أعطت لنصف سكانها حق الانتخاب، وذلك لم يحصل إلا سنة 1928.
- أما أميركا التي أعطت للنساء حقوقهن السياسية سنة 1919، فيمكن القول إنها دولة حديثة الديمقراطية، إذ لم تتحسن ديمقراطيتها إلا سنة 1964 عندما اعترفت للأميركيين الأفارقة بحقوقهم السياسية.
- أما فرنسا التي لم تعط حق الانتخاب للرجال دون تمييز إلا سنة 1851، فإنها لم تتقدم في ديمقراطيتها إلا سنة 1944 عندما أعطت حق الانتخاب للنساء.
- كل هذه الدول التي نظنها معقل القيم والمؤسسات الديمقراطية هي التي ترفض للأجانب الذين يعيشون في أراضيها المساواة والعدالة (مواصلين نفس النهج الذي اعتمدته أثينا القرن الخامس في إقصاء الغرباء من البت في شؤون الحياة العامة للمدينة) مما يدل على أنه ما زال أمامها شوط هام قبل أن تكمل نضجها الديمقراطي.
(3)
ومن العقود الماضية
ثمة دروس الماضي الذي نحسبه بالعقود لا بالقرون.وكيف ننسى أن أكبر الشعوب الأوروبية عاشت تحت أفظع الدكتاتوريات بالقرن العشرين في التاريخ: أي الدكتاتورية النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، ودكتاتورية فرانكو في إسبانيا وسالازار في البرتغال والكولونيلات في اليونان، مهد الديمقراطية المزعوم!
وللتذكير أيضا فإن الشعب الفرنسي العريق في الديمقراطية عانى ما بين 1941 و1944 من النظام الدكتاتوري الذي فرضه عليه المارشال بيتان. وإن الذين قاوموا النظام كانوا قلة. ومن الطرائف التي يرويها المؤرخون الفرنسيون أن الجماهير -التي كانت في استقبال الجنرال ديغول بعد التحرير واحتشدت بكثافة- قامت بالتصفيق للماريشال بيتان في نفس الساحة بباريس.
الحقيقة الثالثة: الديمقراطية كمحطة نهائية تتوجه إليها كل الأنظمة السياسية هي خرافة، من نوع خرافة التوجه الحتمي للاشتراكية التي كان التقدميون بداية القرن الماضي يشيعونها. والواقع أنه يمكن للديمقراطية أن تتراجع حتى في أقدم معاقلها، مثلما لا شيء يمنع من ظهورها وثباتها أين لا نتوقع.
(4)
ماذا الآن عن الحاضر؟
حسب تصنيف مجلّة ذي إيكونوميست The Economist سنة 2017، من بين الـ 167 دولة التي تمت دراستها (من أصل 193 دولة عضوة في الأمم المتحدة)، توجد فقط 19 دولة ديمقراطية أساسا في أوروبا وشمال أميركا، و52 دولة دكتاتورية أساسا في أفريقيا وآسيا والعالم العربي، والباقي أي 96 دولة تتأرجح بين ديمقراطيات غير مكتملة أو دكتاتوريات "مخففة".وعندما تنظر لأعداد سكان هذه الدول، تجد أن البشر الذين يتمتعون بالحد الأدنى من الحريات الفردية والجماعية، الذين لا يشكل الانتقال الدوري للسلطة أي خطر عليهم، ويتمتعون بحماية بالقانون والمؤسسات، وخاصة الذين يعيشون في مأمن من شطحات الزعيم الأوحد والعصابة المحيطة به… أقل من 10% من سكان العالم.
حتى ما نحسبها أعرق الديمقراطيات ما زالت في الواقع حديثة عهد بالديمقراطية، وما زالت ديمقراطيتها ناقصة بحاجة إلى التطويروالأهم من الأرقام هو تشخيص التوجه العام للوضع. وأحسن تشخيص وجدته تضمنه تقرير سنة 2021 للمنظمة السويدية "المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية" (IDEA) حيث راجع هذا التقرير حالة الديمقراطية في العالم من سنة 2015 إلى 2020 وخلص إلى الاستنتاجات التالية:
- تباطأت الموجة الديمقراطية لسبعينيات القرن الماضي التي بدت وكأنها ستغزو العالم.
- أصبحت نزاهة الانتخابات موضع شكّ حتى في أعرق الديمقراطيات. وعدد البلدان المتوجهة نحو مزيد من التسلط authoritarianism سنة 2020 يفوق عدد البلدان المتوجهة نحو الديمقراطية.
- ثمة تفاقم في انتهاج السياسات التسلطية أي قمع الحريات من قبل كل الأنظمة غير الديمقراطية.
- حتى في دول ديمقراطية كبرى مثل البرازيل والهند والولايات المتحدة و3 دول من الاتحاد الأوروبي (المجر، بولونيا، سلوفينيا) التوجه العام هو نحو مزيد من التسلّط.. وهذا بدعم متزايد من طرف "الشعب".
عندما تستحضر معطيات الماضي والحاضر تجد نفسك بين موقفين متناقضين.
وبديهي أن هناك ما يشرّع لتواصل الأمل في الديمقراطية. فهذا نظام سياسي آت من أعماق التاريخ وليس وليد التقدم الغربي. وهذا نظام يتوسع شيئا فشيئا لكي يضمن الحد الأدنى من الحرية والكرامة للجنسين ثم لعدد متزايد من الشعوب.
وهذا نظام يُطاح به أكثر من مرة لكنه يعود أقوى من ذي قبل -ألمانيا نموذجا- مما يعني أنه لا يوجد استبداد محمي من طفرة ديمقراطية مفاجئة ترحل به في أي وقت.
الديمقراطية كمحطة نهائية تتوجه إليها كل الأنظمة السياسية هي خرافة، إذ يمكن للديمقراطية أن تتراجع حتى في أقدم معاقلها، ولا شيء يمنع ظهورها وثباتها حيث لا نتوقعوالقاعدة أن فشل الديمقراطية هو الذي يفرش البساط الأحمر للاستبداد، وفشل الاستبداد هو الذي يفتح كل الأبواب أمام الديمقراطية.
وطبقا لهذا القانون، ثمة اليوم في العالم ديمقراطيات إن لم تبادر لإصلاحات جذرية فزمنها معدود.. وأيضا هناك أمام الديمقراطيين العرب فرص هائلة لا يجب أن يضيعوها هذه المرة، وأنظمتنا الاستبدادية تلفظ آخر أنفاسها وإن حُسب زمن البعض منها ببضعة عقود وأخرى ببضع سنوات.
(6)
الحديث عن الديمقراطية من قديم الزمان اختصاص الفلاسفة والمؤرخين والباحثين في العلوم السياسية. وعندما دعتني جامعة هارفارد السنة الماضية لتدريس الثورات الديمقراطية العربية، نبّهت الطلبة آنذاك أنني لن أتناول الموضوع بعقلية المحلل المنظر أو الباحث في العلوم السياسية الذي تحتل مراجعه من الصفحات أكثر مما تحتله محاضرته، وإنما كشاهد على العصر، كفاعل سياسي مجنّد لخدمة قضية يؤمن بها.. وأساسا بعقلية ومنهجية المهنة التي زاولتها لأكثر من ربع قرن.
وما الأمراض التي تفسر ما ورد في التقرير بخصوص تراجع الديمقراطية في العالم، والتي قد تكون وراء سهولة الإطاحة بها، كما وقع في تونس ومصر أو في بعض البلدان الأفريقية. أو التي تنذر بما لا يحمد عقباه حتى في الديمقراطيات التي نظنها مبوبة للبقاء إلى نهاية التاريخ؟
وسأحاول في المقالات التالية تشخيص أهمّ هذه الأمراض، لعلّنا ننجح يوما في تفادي أو علاج بعضها لبناء ديمقراطيات تواصل وتحسّن أحلاما ومشاريع قادمة من أعماق التاريخ.
ألم يقل مؤسس علم التشريح الطبي فرشيو Virchow إن السياسة ليست إلا الطب على مستوى مجتمع بأكمله؟
المقالة المقبلة ستكون عن أكبر أسباب تصدّع وانهيار الأنظمة الديمقراطية.
--------
الجزيرة