بدأ الوالد بالحديث نيابة عن ابنتيه، وكأنه يريد أن يعبّر عن عميق فخره واعتزازه بما وصلتا إليه من علم ومعرفة رغم حالتهما الصحية، ويسابق كلامهما، مخاطباً مراسل الأناضول: "حدود زميلتك بتخصّص العلوم السياسية، وحنين دكتورة ومؤلفة وشاعرة".
عبارة اختصر من خلالها الأب العطوف كلّ المشاعر الكامنة داخله تجاه ابنتيه، ولسان حاله يقول: "هذا أمر الله، فماذا نحن فاعلون".
بدأت القصة مع حدود أثناء وجودها مع والديها في منطقة الجولان السورية، خلال زيارتهم أحد معارفهم هناك عام 1988، وكانت في الثانية من العمر في ذلك الوقت، حين ظهرت عليها علامات التعب، وانهمار غير مسبوق للدموع، وفق ما يروي الوالد.
وأضاف: "ذهبنا إلى أحد الأطباء هناك، وبيّن لنا أنها تعاني من ارتفاع الضغط في عينيها، وبعد عودتنا إلى الأردن، بدأ مشوار المراجعات للأطباء والمستشفيات، ليبيّن التشخيص أن لديها ماء أسود في عينيها".
وعند سؤال الوالد عن علاقة ظهور تلك الأعراض على حدود بصِلة القربى بينه وبين زوجته (ابنة خالته)، أجاب: "نعم هذا ما قالوه لنا، ولكننا لم نكن نعلم أن لذلك علاقة بظهور الأمراض".
وأشار: "خضعت حدود لأكثر من 20 عملية، حتى بلغت عمر العشرين"، لتدخل هي على الحديث وتقول: "آخر شيء قيل لي بأن العصب البصري مات أو لم يعد له علاج".
وعلى الرغم من قساوة الموقف، إلا أنها كانت تبتسم، ومضت تقول: "زرعت قرنية وصمام وعدسات، ولكن لا فائدة".
وأضافت: "أول حياتي كنت من المبصرين، ودرست حتى الصف الخامس، ولكنني لم أكن طالبة ذات فعالية، رغم أنني كنت أقرأ وأكتب بشكل طبيعي".
وتابعت: "سمعت عن مدارس للمكفوفين عام 1993، والتحقت بها منذ الصف السادس وحتى الصف العاشر، لكن المدرسة أُغلقت وكان التدريس بنظام برايل الخاص بالمكفوفين".
بعد ذلك، عادت حدود إلى مدارس المبصرين في قريتها، وأكملت دراستها ونجحت بالثانوية العامة، وحصلت على معدّل 65 بالمئة.
وزادت: "درست الدبلوم بتخصص تربية طفل، ونجحت بالامتحان الشامل، وحصلت على وظيفة أمينة مكتبة في بلدية السرحان".
بـِ عصا بيضاء لا تفارقها، وبخطواتٍ تحفظها، تصل حدود إلى مكان عملها الذي يبعد عن بيت والدها 15 دقيقة، وفق ما تقول.
طموحها لم يقف عند ذلك الحد، فقررت حدود أن تعيد دراسة الثانوية العامة لترفع درجتها، وتلتحق بالدراسة الجامعية، وبالفعل فعلت ذلك، ولكن المجموع لم يرتفع عن سابقه إلا بمعدل واحد.
واستدركت وقد بانت على ملامحها علامات الرضا الواضح عما فعلت "التحقت بجامعة آل البيت الحكومية، وتمكنت من إكمال درجة البكالوريوس في العلوم السياسية بتقدير امتياز".
لم يكن موضوع الدراسة الجامعية سهلاً عليها، فقد أوضحت أنها كانت تصطحب معها كاتباً إلى الجامعة وقت الفحوصات، ليضيف الأب بِغصّة وحُرقة "كنت أذهب معها أحياناً لأكتب عنها".
وفي ظلّ هدوءٍ تامّ أثناء حديثها، كانت شقيقتها حنين هادئة لا يتحرّك لها ساكن، إلا شفتيها التي كانت تردّد بهما "الحمد لله، الحمد لله...".
حنين اختلفت ظروفها عن حدود، فقد استمرت بالإبصار الكامل حتى الصف الثامن في المدرسة عام 2004، وبدأت مشكلتها في العام ذاته.
وقالت : "ظهر في عيني اليمنى انزلاقٌ بالعدسة، وأجريت لي عملية وزُرعت لي عدسة، وعاد النظر لي، ولكن لم يستمرّ ذلك طويلا، فقد انعكست الأمور بعد نحو 20 يوماً، وكان عمري حينها 14 عاماً".
وأردفت: "بقيت بعين واحدة حتى عام 2019، ولكن فقدت النظر بها هي الأخرى، وكنت حينها أكمل مرحلة الماجستير بالأدب العربي".
واستطردت وهي تكرّر: "يا رب لك الحمد.. التحقت بالجامعة لإكمال الدكتوراة في فلسفة الأدب العربي، وقد أنهيت المتطلبات وسأناقش أطروحتي في شهر آب (أغسطس) القادم".
صمتت حنين قليلاً، وكأنها تريد أن تقول "انتهى الكلام"، إلا أن والدها وكأنه يسعى إلى تذكيرها يقول: "حنين ألّفت كتاب وهي شاعرة".
وهنا قالت: "ألّفت كتاباً باسم (أثر التراث العربيّ الإسلامي في شعر عبد الكريم أبو الشيح)، وطُبع على حساب وزارة الثقافة، ويُباع في الأسواق".
ولدى سؤالهما في ختام الحديث عمّا إذا كان لديهما ما تريدان إضافته، قالت حدود: "لديّ رسائل لذوي الاحتياجات الخاصة وبخاصة البصرية ولأسرهم وللمجتمع".
ورسائلها كانت: "لا تدعوا إعاقتكم محبطة لكم، واجعلوها واقعاً لتحقيق آمالكم وأحلامكم والوصول إلى طموحكم، وكلّ أسرة عندها طفل من ذوي الإعاقة، كن مُعيناً وداعماً له لمواجهة صعوبات الحياة".
أما رسالتها للمجتمع، وكانت تبدو عليها نبرة العتب من ممارساتٍ ربما لا تليق، فهي: "اقبلونا بينكم".
وفي عبارةٍ تنمّ عن عظم الأمل وقوة الطموح داخلها، أكدت حنين: "قد ترى العالم من خرم إبرة، والإرادة تقطع بك الجبال".