وموسم نضوج مختلف الثمار هنا، أو إن شئت فقل الحصاد، يكون أبكر، بطبيعة الحال، عن نظيره في سوريا، ناهيك عن أوروبا، ومشمش الجوف يكتمل نضجه بانتهاء شهر مايو، ويجيئ أفضله في شهر يوليو؛ أما الخوخ، فيتأخر نضجه إلى شهر أغسطس، وكذلك التمور تنضج في شهر أغسطس وسبتمبر، وفي أقصى الجنوب، في نجد، على سبيل المثال، تزيد هذه المواقيت بمعدل شهر تقريباً، وتزيد في عُمان، بمعدل شهرين على أقل تقدير، ولقد ندمت كثيراً، وأنا في هذه الأماكن لأني لم أصطحب معي جهازاً لقياس الحرارة، أو أي جهاز آخر مماثل، أستطيع به التأكد من درجات الحرارة وطبيعة الجو؛ غير أن اصطحابي عتاداً من هذا القبيل، يبدو، في أعين العرب، غير متناسق مع الشخصية التي انتحلها، بمعنى أنني قد أبدو لهم أوروبي تماماً؛ أضف الى ذلك، أنه فيما بين خبب الجمال، والأخراج المحملة بطريقة غير منتظمة، إذا ما وضعت أنبوبة زجاجية طويلة، فإنها يصعب الحفاظ عليها سليمة، إلى أن نصل الجوف، ولكني أستطيع التوصل الى تقدير تقريبي لمتوسط درجات الحرارة، مما قلته عن مواعيد نضج الثمار في هذه المناطق، ومن بعض الظروف المماثلة الأخرى؛ ولو قدر لنا أن نقول: إن وضع ترمومتر في الظل، في الجوف، عند الظهيرة، في شهري يونيو ويوليو، يمكن أن يسجل درجة حرارة تتردد ما بين 09 ه و 59 ه درجة فهرنهيت، لن يكون أمراً مستغرباً في ذلك الوادي، وأثناء الليل، يكون الهواء، مع قليل جداً من الاستثناءات، بارداً بشكل نسبي على أقل تقدير، إلى حد أن فارقاً في درجة الحرارة، يقدر بأكثر من عشرين درجة، يحدث خلال فترة زمنية قصيرة.
اكرام النخيل
والحدائق التي أتينا على وصفها هنا تحيط بها أسوار عالية مصنوعة من اللِّبن وتتخللها شبكة مجاري مائية صغيرة تربط بين شجرة وأخرى وتنتقل من أخدود الى الذي يليه، ويجد المرء نفسه بين ذلك التباين الكبير في الأنواع المختلفة التي تنتجها هذه الحدائق، أمام قضية بيع وتصدير هذه المنتجات وبخاصة التمر؛ ويحصل سكان الجوف، من التمر، على دخل معقول، لا، بطبيعة الحال، من خلال نقله وبيعه في كل أنحاء الجوف، الذي يحصل كل مواطن فيه على كمية وفيرة منه، من نخيله الخاص، وإنما من إثمان التي يحصلون عليها مقابل بيع هذا التمر في كل من تبوك أو حائل، دمشق، وبغداد، إذ ينقل أهل الجوف التمر الى هذه الأماكن، وأنا أكاد لا أصدق حجم الدور الذي يلعبه التمر في حياة العرب؛ التمر هو الخبز الذي تعطية الأرض للعرب، التمر هو مادة الحياة، وهو العنصر الثابت في التجارة، بل إن محمداً (ص)، الذي يعزي نجاحه الفريد الى قوميته الخالصة والأصيلة وإلى أسباب أخرى سواء أكانت أسباباً طبيعية أو أسباباً خارقة للعادة، يقال أنه حدَّث قومه وأتباعه عن النخلة بأن قال:" اكرموا النخلة، فهي أمكم" (1)؛ وهذا القول بحد ذاته امتداد طفيف للوصية الخامسة، رغم أن هذه الوصايا، يصعب أن تتفوق على قوى التشريع عند النبي، ومع ذلك، فأنا مع كل احترامي وتقديري وإذعاني له (ص)، ومع كل اذعاني لحجيته وعلمه، أجدني لا أتفق تماما مع إضفاء هذه الوصية غير المتحفظة على هذه الأم الورقية (2) ، وأنا لا أنكر أن التمر غذاء حلو المذاق، ولا جدال في ذلك، عندما يكون رطباً؛ وعندما يكون تمراً، يعطي كمية من الحرارة، تترتب عليها بعض الأخطار، إذا ما تناول الإنسان التمر بكميات هائلة مثلما يفعل الناس هنا، والواقع، أنني إذا ما سمح لي بالانتقاد فإنني قد أعزو إلتهاب غشاء المعدة المخاطي المزمن، بل قرحة المعدة المميتة، التي تنتشر بشكل ملحوظ بين عرب المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية، إلى استمرار اتخاذهم التمر غذاءً لهم.
والجوف لكونه مجرد مجموعة من المنازل والحدائق مختلطة ببعضها اختلاطاً عشوائياً، من الطبيعي أن يكون بلا أسوار؛ وعدد سكان الجوف وشجاعتهم كافيان أن يحرسا هذه المنازل من تحرشات البدو، ولم يحدث أن كان لسكان الجوف عدو آخر غير البدو على امتداد سنوات طويلة، إلى أن جاء الاستبداد الوهابي في القرن الماضي، وقوة جبل شومر المتزايدة، في فترة لاحقة، ليتناوبا الهجوم على سكان الجوف وامتصاصهم.
المارد وسكاكه
وقلعة الجوف وبرجها الوحي الذي يطلق عليه اسم المارد من الأشياء التي يجب أن أفرد لكل منها وصفاً مستقلاً، ولذلك فمن الأفضل أن أرجئ ذلك الوصف إلى ما بعد الزيارة التي سنقوم بها إليهما.
وعلاوة على الجوف نفسها، أو العاصمة، هناك أيضاً قرى عديدة تنتمي الى هذه المنطقة المتجانسة، وتخضع كل هذه القرى للحاكم المركزي نفسه، وأكبر هذه القرى هي قرية سكاكه Sekakah؛ وتقع على مسافة حوالي اثني عشر ميلاً ناحية الشمال الشرقي، وبرغم أن سكاكه تقل عن العاصمة من حيث الأهمية، ومن حيث خصوبة التربة، إلا أنها تتساوى معها في عدد السكان، وأنا أقدر عدد سكان الجوف العاصمة وسكاكه، رجالاً، ونساء، وأطفالاً- بثلاثة أو أربع وثلاثين ألفاً تقريباً، وقد بنيت تقديري هذا شأنه شأن التقديرات الأخرى التي رجعت إليها، وأنا أكتب هذا المتاب، بنيته من ناحية، على مسح تقريبي لعدد المنازل، وعلى السجلات العسكرية من ناحية ثانية، وعلى ما سمعته، أنا بنفسي، عن هذا الموضوع، من المواطنين أنفسهم، والمواطنون هنا، لا يعرفون أي شيء عن الإحصاء، فضلاً عن عدم وجود سجلات لقيد المواليد، أو الزواج، أو الوفاة، ومع ذلك، يمكن بمساعدة قائمة الحرب، والتي تمثل في أغلب الأحيان معشاراً من إجمالي عدد السكان تقريباً، فكرة، معقولة، لكن غير كاملة، عن عدد السكان.
أخيراً، وعلى مقربة من هذين المركزين الرئيسيين، توجد عدة قرى أو كفور (هجر) صغيرة، يصل عددها الى حوالي ثمانية أو عشرة، مثلما قالوا لي، ويحتوي كل منها على ما يتراوح بين عشرين الى خمسين أو ستين منزلاً؛ ولكني ليس لدي الفرصة أو الوقت الذي أستطيع أن أزور من خلاله كل قرية وكل كفر (هجرة) من هذه الكفور، على حدة. وقرية جون، التي أتيت على وصفها في أواخر الفصل السابق، واحدة من هذه القرى: وهناك قرية قارا kara أيضاً التي تقع في مواجهة جون، أو إن شئت فقل ناحية الشرق؛ وهناك قرية ضرَّه Dorrah القريبة من مدينة الجوف على الطريق المؤدية الى سكاكه، علاوة على قرى وكفور أخرى، وتتجمع تلك القرى حول بعض العيون المائية المتواضعة، ولها بعض سمات وخصائص مدينة الجوف العاصمة، وإجمالي عدد سكان الجوف كله لا يزيد على أربعين أو اثنين وأربعين ألف نسمة، وهي نوعية من السكان الشجعان.
وليس لدى سكان الجوف ما يقولونه عن المكان الذي جاءوا منه أو تاريخ أول مستقر أقيم في هذا المكان، وليس لديهم أيضاً أي نوع من أنواع السجلات القيمة عن هذه الموضوعات، وكل ما يستطيعون تأكيده هو أنهم كانوا مسيحيين في يوم من الأيام، وأن دخولهم في الإسلام، جاء عن طريق الاقتناع بالحجة والدليل، اللذين كانا سيفاً، في يد كل من علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد، وفي مرحلة لاحقة، شأنهم شأن سكان الجزيرة العربية بشكل عام (3) ارتدوا عن الإسلام الى الوثنية من جديد وعبادة الجن، أو إن شئت فقل الجان، كما يسمونه، إلى أن أحيا سيف الفاتح الوهابي إسلامهم من جديد، وهذت هو ما سنقف عليه فيما بعد، ومن حيث النسب يدعي أهل الجوف أنهم ينحدرون من عشيرة الطائي، تلك العشيرة في التاريخ اللعربي القديم؛ أن ما أعرفه على وجه اليقين عن مواقع وامتدادات تلك القبيلة في شمالي الجزيرة العربية، وعن التشابه في العادات والتقاليد، بالقدر الذي تسمح لنا به مقارنة وضع هؤلاء السكان الحالي بما ورد في سجلات الماضي المتناثرة، الواقع أن ما أعرفه عن هذا الموضوع، يؤكد انتمائهم الى تلك السلالة النسبية، برغم كلامهم مع القبائل المحيطة بهم، وبخاصة بكر Bekr والعوازم Howazim وكل ما عدا ذلك، هو مجرد نقد أو كلام غير معقول وربما غير مفيد تماماً، ولم التقي في الجزيرة العربية كلها بسكان يذكرون عبق الماضي ولديهم المشاعر القبلية القديمة غير سكان الجوف.
ـــــــــــــــــــــــ
ولم أسمع من سكان الجوف شيئاً جديراً بالتسجيل عن الأحداث التي أخضعتهم للملك الوهابي في أواخر القرن الماضي، أو بداية القرن الحالي، غير أنه بعد أن أطاح ابراهيم باشا، بالإمبراطورية النجدية، في العامين 1917 و1918 الميلاديين، استعاد الجوف استقلاله، ولكن ضعف حاله وقلة حيلته لم تمكنه من الحفاظ على ذلك الاستقلال، وعلاوة على الآثار التي نجمت عن السلب والاستبداد الوهابي، عانى سكان الجوف كثيراً من الصراعات الدموية المستمرة التي دارت بين أسواق (أحياء) العاصمة، زد على ذلك، أن كل رئيس من رؤساء هذه الأحياء حاول توسيع سلطته، أو بالأحرى، فرض استبداده على الأحياء الأخرى، وبذلك دخل سكان الجوف حرباً أهلية معقدة ومدمرة، ألى حد أن كثيراً من المسنين أكدوا لي، إنه كان من المعتاد، بل من الشائع تماماً، أيام الحرب الأهلية، أو يولد الرجل ويعيش، ويموت في حي من أحياء الجوف دون أن تتوقف المعارك والاشتباكات بالقدر الذي يسمح له بزيارة الحي الآخر.
وبعد ذلك الدمار الذي أصاب الجوف، نتيجة الغزو الأجنبي والنزاع الداخلي، بدأ سكان الجوف التعساء يتعرضون لمزيد من الإهانات من البدو المحيطين بهم، إلى أن استطاعت قبيلة الروالة القوية – التي لاحظت أن مراعيها الصيفية تكون في سوريا، ويقضون شتاءهم بشكل عام، في منطقة الجوف- فرض سيطرتها عليهم، وأجبرت الجوف على أن يدفع لها جزية سنوية، يطلقون عليها اسم الخوا، وذلك من باب الابتزاز الحدودي الذي كان يمارسه أسلافنا السكسونيون.
وفي ذات الوقت، كان عبدالله بن الرشيد، والد الملك الحالي طلال بن الرشيد، مشغولاً بتأسيس وتدعيم مملكته الجديدة في جبل شومر الذي لا يبعد سوى مسافة قصيرة عن الجوف من ناحية الجنوب، وقد أعطت الصراعات القائمة بين مختلف الرؤساء، عبدالله بن الرشيد ذريعة للتدخل في شؤون الجوف، الذي كان يود وضع يده عليه، وعندما وجد، عبدالله بن الرشيد، أن الفرصة أصبحت مواتية له، أصدر أوامره إلى أخيه عُبيد، بأن يقود جيشاً كافياً لإخضاع تلك المنطقة، ولكن سواء أحس عُبيد بأن قوته لم تكن كافية للحفاظ على هذا الغزو والإبقاء عليه، أو لأسباب أخرى، فقد اكتفى بتسوية الخلافات تسوية مؤقتة بين العديد من رؤساء الأسواق ثم عاد عبيد، إلى شومر بعد أن عيَّن أحد أفراد عائلة حابوب، نائباً للحاكم باسم أخيه عبدالله بن الرشيد، وأجبر عبيد أهل الجوف على إقامة شعائر دين محمد (ص).
وبعد أن توقفت الصراعات، فترة مؤقتة، بسبب الخوف الذي أصاب الجميع، اندلعت مرة أخرى؛ وبعد وفاة الرئيس الذي عينه عُبيد حاكماً، انقسمت أسرة حابوب على نفسها الى فئتين متعاديتين، يرأس كل فئة منهما شخص يطالب بالحكم والسلطة، كان ضيفنا غافل، واحداً من أنشط أفراد هذه الأسرة في فترة غليانها المشؤومة وكان عبدالله بن الرشيد، قد توفي في تلك الأثناء، وخلفه على عرش مملكة شومر ابنه الأكبر طلال، الذي كان محارباً متحمساً أكثر من والده، بل إنه فاق والده في الشؤون السياسية في مملكته، وقد استعان غافل بالأمير طلال، وطلب مساعدته له هو وفئته، بعد الهزيمة الأخيرة التي حلت بهم، حدث كل ذلك في العام 1855 الميلادي. وهنا وجد طلال أن الفرصة قد تهيأت له ليككمل ذلك الذي بدأه والده وعمه وبينما راح يمنّي اللاجئين بوعود خادعة، جمع قوة كبيرة، تساندها قطعتان كبيرتان من المدفعية، واصطحب كل ذلك معه واتجه الى الجوف، وعلى مقربة من مدينة الجوف، العاصمة، نصب معسكره وخيامه، وراح يتسلى مع سكان الجوف، عدة أيام مرة بتقديم العروض المختلفة، ومرة أخرى عن طريق المفاوضات، وراح طول الوقت يكشف عن تردده في الاحتكام الى السيف، وقد أدى سلوك طلال هذا الى خروج أسرة حابوب، التي كانت تتمترس خلف أسوار القلعة الحجرية القديمة لتكشف عن استهزائها بعدوها أكثر وأكثر، كما رفضت أيضاً الوصول معه الى أي اتفاق، وهنا
ـــــــــــــــــــ
بدأ طلال الاشتباك الفعلي، ولكن على نطاق صغير في البداية، بأن ارسل بعض المبارزين، والمخربين، بقصد الاستثارة والازعاج وليس الهزيمة، في الوقت الذي أحتفظ فيه بقوته الرئيسية للحظة الحاسمة، ونجحت خطة طلال؛ فقد ازداد أعداؤه شجاعة على شجاعتهم،ودخلوا معه في معركة شاملة، رفض هو الدخول فيها أكثر من مرة، وأخيراً، استطاع طلال ذات يوم أن يفيد من الضباب، تلك الشبورة التي تغطي الأرض الخفيضة في هذا المناخ الصافي، في إخفاء قوته الرئيسية في منحنيات الوادي القريب، في حين راح خيَّالة طلال يستثيرون رجال الجوف ويستحثونهم على الخروج لملاقاتهم بأعداد أكبر من المعتاد، ومع اشتداد وطئ المعركة، قام أمير شومر بتحريك مدفعية الكبيرين إلى الأمام، والواقع أنهما كانا مدفعين قديمين عتيقين، ولكنهما كانا ماكينتين قويتين من ماكينات الحرب من منظور هذه البلاد، ووجه نيرانهما صوب مباني القلعة، التي لا تقوى إطلاقاً على مواجهة صدمة من هذا القبيل، وبعد أن شاهد رؤساء أسرة حابوب إنذار المدافع المخيف، وبعد أن شاهدوا مكونات قوتهم تتهاوى أمام دانات المدفعين اضطربت صفوفهم اضطراباً مخيفاً، وهذا هو ما ينتظره طلال؛ وهنا أمر طلال جيشه كله بالتوقف، وبذلك تكون هزيمة العدو قد اكتملت خلال لحظات قصيرة، ودخل المطاردون والمطاردين المدينة، ودارت مذبحة كبيرة، واستولى طلال على القلعة، وتم الاستيلاء على الجوف قبل الظهر.
كان أول شيء يفعله طلال بن الرشيد، بعد الاستيلاء على الجوف، هو هدم جميع منازل الفئة المعادية لبيت حابوب كما قطّع نخيلهم، وطرد رؤساء هذه الفئة من المدينة الى منفى بعيد، لم يوافق مطلقاً على عودتهم منه، برغم التوسلات والالتماسات العديدة التي تقدم بها أصدقاؤهم واقاربهم نيابة عنهم، كان غافل في تلك الأثناء، يتطلع إلى تعيينه حاكماً؛ غير أ، الغازي، طلال بن الرشيد، قرر أن تكون الجوف له وحده بكاملها، وهذا بدوره كان يتطلب حكماً مختلفاً وأكثر متانة، وسرعان ما عين طلال أحد أتباعه- اسمه حامود- المخلصين حاكماً لمنطقة الجوف وللعاصمة، في حين أنكر، في الوقت ذاته، على الرؤساء المحليين، ومن بينهم غافل، أي نفوذ في السلطة الادارية، وعين بدلاً منهم ثلاثة من مشايعيه المخلصين، من مواطني عاصمته حائل، ليكونوا مساعدين أو مجلسا، لمراقبة الحاكم الجديد، طبقاً للظروف والأحوال؛ ثم اختار في النهاية من بين رجال الجوف نفسها عدداً من الرجال، شكَّلهم على هيئة حرس خاص لنائبه، ونبَّه إلى أنهم يجب أن يتسلموا أسلحتهم ورواتبهم من حامود نفسه، ثم احتفظ بأربع من كبار الأعيان ليكونوا رهائن عنده مقابل سلوك إخوانهم المواطنين سلوكاً حسنأً، وعند عودته الى جبل شومر اخذ معه هؤلاء الأعيان الأربعة.
واعتباراً من ذلك التاريخ أصبح الجوف يدار بواسطة حامود ومجلسه الثلاثي باسم طلال بن الرشيد، ولم يسمح ابن الرشيد بأي شكل من أشكال الاضطرابات الداخلية، وبدلاً من الخوا والابتزاز لصالح الروالة وأتباعهم البدو، فرض طلال بن الرشيد على أهل الجوف ضريبة منتظمة على العقارات وعلى الماشية يدفعونها للحكومة وفي ظل هذه الترتيبات الجديدة استعادت منطقة الجوف الكثير من عافيتها ورفاهها السابق، وخطى السكان، الذين أرهقتهم الصراعات الداخلية وكادت توصلهم الى مرحلة البداوة، خطوا خطوات واسعة نحو الحياة المتحضرة، كما واصلوا مضيهم قدماً، نحو زيادة ثرواتهم، وإعدادهم ونشاطهم التجاري، زد على ذلك، أن إدراك سكان الجوف لهذه المزايا، أكثر من إدراكهم للرعب الذي توحى به القوة الكبيرة، هو الذي جعل عدداً كبيراً من هؤلاء السكان، يصبرون على تحمل نير الحكم الأجنبي والحاكم الأجنبي، إلى يومنا هذا دون أن يظهر عليهم أي عرض من أعراض التمرد أو أية محاولة، مهما كانت صغيرة للعصيان.
-------------------
(1) هذا القول ليس بحديث ولا تصح نسبته الى الرسول (ص) وقد ورد نص رواه السيوطي في الجامع الصغير، ورواه السخاوي في المقاصد الحسنة وهو " امروا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران فأطعموا نساءكن الوُلَّد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" وفي هذا النص ضعف وانقطاع، ولا يصلح للاحتجاج به- (د.حلمي عبد المنعم)
(2) إن الاعتراض لا معنى له ما دام النص الذي استشهدت به ضعيفاً ومنقطعاً ولا يصلح للاحتجاج به، وهذا الخطأ يقع فيه كثير من المستشرقين حينما يبنون أحكاماً ويقيمون إعتراضات مؤسسة على أخبار غير دقيقة أو نصوص غير ثابتة وغير صحيحة، وكما يقول أهل العلم (إذا كنت ناقلاً فالصحة، وإذا كنت مُدَّعياً الدليل)- (د.حلمي عبد المنعم)
(3)من سمات البحث العلمي أنه يقوم على التثبت والتحقق، وليس من باب إصدار الأحكام المطلقة بحقكم العام، وأنا أتعجب من إطلاقات المؤلف في أحكامه على أن سكان الجزيرة العربية ارتدوا الى الوثنية وعبادة الجن فهل بنى هذا الحكم على استقرار تام؟ إن الواقع يكذب ذلك في الجوف كما عايشناه وخبرناه (د.حلمي عبد المنعم).
اكرام النخيل
والحدائق التي أتينا على وصفها هنا تحيط بها أسوار عالية مصنوعة من اللِّبن وتتخللها شبكة مجاري مائية صغيرة تربط بين شجرة وأخرى وتنتقل من أخدود الى الذي يليه، ويجد المرء نفسه بين ذلك التباين الكبير في الأنواع المختلفة التي تنتجها هذه الحدائق، أمام قضية بيع وتصدير هذه المنتجات وبخاصة التمر؛ ويحصل سكان الجوف، من التمر، على دخل معقول، لا، بطبيعة الحال، من خلال نقله وبيعه في كل أنحاء الجوف، الذي يحصل كل مواطن فيه على كمية وفيرة منه، من نخيله الخاص، وإنما من إثمان التي يحصلون عليها مقابل بيع هذا التمر في كل من تبوك أو حائل، دمشق، وبغداد، إذ ينقل أهل الجوف التمر الى هذه الأماكن، وأنا أكاد لا أصدق حجم الدور الذي يلعبه التمر في حياة العرب؛ التمر هو الخبز الذي تعطية الأرض للعرب، التمر هو مادة الحياة، وهو العنصر الثابت في التجارة، بل إن محمداً (ص)، الذي يعزي نجاحه الفريد الى قوميته الخالصة والأصيلة وإلى أسباب أخرى سواء أكانت أسباباً طبيعية أو أسباباً خارقة للعادة، يقال أنه حدَّث قومه وأتباعه عن النخلة بأن قال:" اكرموا النخلة، فهي أمكم" (1)؛ وهذا القول بحد ذاته امتداد طفيف للوصية الخامسة، رغم أن هذه الوصايا، يصعب أن تتفوق على قوى التشريع عند النبي، ومع ذلك، فأنا مع كل احترامي وتقديري وإذعاني له (ص)، ومع كل اذعاني لحجيته وعلمه، أجدني لا أتفق تماما مع إضفاء هذه الوصية غير المتحفظة على هذه الأم الورقية (2) ، وأنا لا أنكر أن التمر غذاء حلو المذاق، ولا جدال في ذلك، عندما يكون رطباً؛ وعندما يكون تمراً، يعطي كمية من الحرارة، تترتب عليها بعض الأخطار، إذا ما تناول الإنسان التمر بكميات هائلة مثلما يفعل الناس هنا، والواقع، أنني إذا ما سمح لي بالانتقاد فإنني قد أعزو إلتهاب غشاء المعدة المخاطي المزمن، بل قرحة المعدة المميتة، التي تنتشر بشكل ملحوظ بين عرب المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية، إلى استمرار اتخاذهم التمر غذاءً لهم.
والجوف لكونه مجرد مجموعة من المنازل والحدائق مختلطة ببعضها اختلاطاً عشوائياً، من الطبيعي أن يكون بلا أسوار؛ وعدد سكان الجوف وشجاعتهم كافيان أن يحرسا هذه المنازل من تحرشات البدو، ولم يحدث أن كان لسكان الجوف عدو آخر غير البدو على امتداد سنوات طويلة، إلى أن جاء الاستبداد الوهابي في القرن الماضي، وقوة جبل شومر المتزايدة، في فترة لاحقة، ليتناوبا الهجوم على سكان الجوف وامتصاصهم.
المارد وسكاكه
وقلعة الجوف وبرجها الوحي الذي يطلق عليه اسم المارد من الأشياء التي يجب أن أفرد لكل منها وصفاً مستقلاً، ولذلك فمن الأفضل أن أرجئ ذلك الوصف إلى ما بعد الزيارة التي سنقوم بها إليهما.
وعلاوة على الجوف نفسها، أو العاصمة، هناك أيضاً قرى عديدة تنتمي الى هذه المنطقة المتجانسة، وتخضع كل هذه القرى للحاكم المركزي نفسه، وأكبر هذه القرى هي قرية سكاكه Sekakah؛ وتقع على مسافة حوالي اثني عشر ميلاً ناحية الشمال الشرقي، وبرغم أن سكاكه تقل عن العاصمة من حيث الأهمية، ومن حيث خصوبة التربة، إلا أنها تتساوى معها في عدد السكان، وأنا أقدر عدد سكان الجوف العاصمة وسكاكه، رجالاً، ونساء، وأطفالاً- بثلاثة أو أربع وثلاثين ألفاً تقريباً، وقد بنيت تقديري هذا شأنه شأن التقديرات الأخرى التي رجعت إليها، وأنا أكتب هذا المتاب، بنيته من ناحية، على مسح تقريبي لعدد المنازل، وعلى السجلات العسكرية من ناحية ثانية، وعلى ما سمعته، أنا بنفسي، عن هذا الموضوع، من المواطنين أنفسهم، والمواطنون هنا، لا يعرفون أي شيء عن الإحصاء، فضلاً عن عدم وجود سجلات لقيد المواليد، أو الزواج، أو الوفاة، ومع ذلك، يمكن بمساعدة قائمة الحرب، والتي تمثل في أغلب الأحيان معشاراً من إجمالي عدد السكان تقريباً، فكرة، معقولة، لكن غير كاملة، عن عدد السكان.
أخيراً، وعلى مقربة من هذين المركزين الرئيسيين، توجد عدة قرى أو كفور (هجر) صغيرة، يصل عددها الى حوالي ثمانية أو عشرة، مثلما قالوا لي، ويحتوي كل منها على ما يتراوح بين عشرين الى خمسين أو ستين منزلاً؛ ولكني ليس لدي الفرصة أو الوقت الذي أستطيع أن أزور من خلاله كل قرية وكل كفر (هجرة) من هذه الكفور، على حدة. وقرية جون، التي أتيت على وصفها في أواخر الفصل السابق، واحدة من هذه القرى: وهناك قرية قارا kara أيضاً التي تقع في مواجهة جون، أو إن شئت فقل ناحية الشرق؛ وهناك قرية ضرَّه Dorrah القريبة من مدينة الجوف على الطريق المؤدية الى سكاكه، علاوة على قرى وكفور أخرى، وتتجمع تلك القرى حول بعض العيون المائية المتواضعة، ولها بعض سمات وخصائص مدينة الجوف العاصمة، وإجمالي عدد سكان الجوف كله لا يزيد على أربعين أو اثنين وأربعين ألف نسمة، وهي نوعية من السكان الشجعان.
وليس لدى سكان الجوف ما يقولونه عن المكان الذي جاءوا منه أو تاريخ أول مستقر أقيم في هذا المكان، وليس لديهم أيضاً أي نوع من أنواع السجلات القيمة عن هذه الموضوعات، وكل ما يستطيعون تأكيده هو أنهم كانوا مسيحيين في يوم من الأيام، وأن دخولهم في الإسلام، جاء عن طريق الاقتناع بالحجة والدليل، اللذين كانا سيفاً، في يد كل من علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد، وفي مرحلة لاحقة، شأنهم شأن سكان الجزيرة العربية بشكل عام (3) ارتدوا عن الإسلام الى الوثنية من جديد وعبادة الجن، أو إن شئت فقل الجان، كما يسمونه، إلى أن أحيا سيف الفاتح الوهابي إسلامهم من جديد، وهذت هو ما سنقف عليه فيما بعد، ومن حيث النسب يدعي أهل الجوف أنهم ينحدرون من عشيرة الطائي، تلك العشيرة في التاريخ اللعربي القديم؛ أن ما أعرفه على وجه اليقين عن مواقع وامتدادات تلك القبيلة في شمالي الجزيرة العربية، وعن التشابه في العادات والتقاليد، بالقدر الذي تسمح لنا به مقارنة وضع هؤلاء السكان الحالي بما ورد في سجلات الماضي المتناثرة، الواقع أن ما أعرفه عن هذا الموضوع، يؤكد انتمائهم الى تلك السلالة النسبية، برغم كلامهم مع القبائل المحيطة بهم، وبخاصة بكر Bekr والعوازم Howazim وكل ما عدا ذلك، هو مجرد نقد أو كلام غير معقول وربما غير مفيد تماماً، ولم التقي في الجزيرة العربية كلها بسكان يذكرون عبق الماضي ولديهم المشاعر القبلية القديمة غير سكان الجوف.
ـــــــــــــــــــــــ
ولم أسمع من سكان الجوف شيئاً جديراً بالتسجيل عن الأحداث التي أخضعتهم للملك الوهابي في أواخر القرن الماضي، أو بداية القرن الحالي، غير أنه بعد أن أطاح ابراهيم باشا، بالإمبراطورية النجدية، في العامين 1917 و1918 الميلاديين، استعاد الجوف استقلاله، ولكن ضعف حاله وقلة حيلته لم تمكنه من الحفاظ على ذلك الاستقلال، وعلاوة على الآثار التي نجمت عن السلب والاستبداد الوهابي، عانى سكان الجوف كثيراً من الصراعات الدموية المستمرة التي دارت بين أسواق (أحياء) العاصمة، زد على ذلك، أن كل رئيس من رؤساء هذه الأحياء حاول توسيع سلطته، أو بالأحرى، فرض استبداده على الأحياء الأخرى، وبذلك دخل سكان الجوف حرباً أهلية معقدة ومدمرة، ألى حد أن كثيراً من المسنين أكدوا لي، إنه كان من المعتاد، بل من الشائع تماماً، أيام الحرب الأهلية، أو يولد الرجل ويعيش، ويموت في حي من أحياء الجوف دون أن تتوقف المعارك والاشتباكات بالقدر الذي يسمح له بزيارة الحي الآخر.
وبعد ذلك الدمار الذي أصاب الجوف، نتيجة الغزو الأجنبي والنزاع الداخلي، بدأ سكان الجوف التعساء يتعرضون لمزيد من الإهانات من البدو المحيطين بهم، إلى أن استطاعت قبيلة الروالة القوية – التي لاحظت أن مراعيها الصيفية تكون في سوريا، ويقضون شتاءهم بشكل عام، في منطقة الجوف- فرض سيطرتها عليهم، وأجبرت الجوف على أن يدفع لها جزية سنوية، يطلقون عليها اسم الخوا، وذلك من باب الابتزاز الحدودي الذي كان يمارسه أسلافنا السكسونيون.
وفي ذات الوقت، كان عبدالله بن الرشيد، والد الملك الحالي طلال بن الرشيد، مشغولاً بتأسيس وتدعيم مملكته الجديدة في جبل شومر الذي لا يبعد سوى مسافة قصيرة عن الجوف من ناحية الجنوب، وقد أعطت الصراعات القائمة بين مختلف الرؤساء، عبدالله بن الرشيد ذريعة للتدخل في شؤون الجوف، الذي كان يود وضع يده عليه، وعندما وجد، عبدالله بن الرشيد، أن الفرصة أصبحت مواتية له، أصدر أوامره إلى أخيه عُبيد، بأن يقود جيشاً كافياً لإخضاع تلك المنطقة، ولكن سواء أحس عُبيد بأن قوته لم تكن كافية للحفاظ على هذا الغزو والإبقاء عليه، أو لأسباب أخرى، فقد اكتفى بتسوية الخلافات تسوية مؤقتة بين العديد من رؤساء الأسواق ثم عاد عبيد، إلى شومر بعد أن عيَّن أحد أفراد عائلة حابوب، نائباً للحاكم باسم أخيه عبدالله بن الرشيد، وأجبر عبيد أهل الجوف على إقامة شعائر دين محمد (ص).
وبعد أن توقفت الصراعات، فترة مؤقتة، بسبب الخوف الذي أصاب الجميع، اندلعت مرة أخرى؛ وبعد وفاة الرئيس الذي عينه عُبيد حاكماً، انقسمت أسرة حابوب على نفسها الى فئتين متعاديتين، يرأس كل فئة منهما شخص يطالب بالحكم والسلطة، كان ضيفنا غافل، واحداً من أنشط أفراد هذه الأسرة في فترة غليانها المشؤومة وكان عبدالله بن الرشيد، قد توفي في تلك الأثناء، وخلفه على عرش مملكة شومر ابنه الأكبر طلال، الذي كان محارباً متحمساً أكثر من والده، بل إنه فاق والده في الشؤون السياسية في مملكته، وقد استعان غافل بالأمير طلال، وطلب مساعدته له هو وفئته، بعد الهزيمة الأخيرة التي حلت بهم، حدث كل ذلك في العام 1855 الميلادي. وهنا وجد طلال أن الفرصة قد تهيأت له ليككمل ذلك الذي بدأه والده وعمه وبينما راح يمنّي اللاجئين بوعود خادعة، جمع قوة كبيرة، تساندها قطعتان كبيرتان من المدفعية، واصطحب كل ذلك معه واتجه الى الجوف، وعلى مقربة من مدينة الجوف، العاصمة، نصب معسكره وخيامه، وراح يتسلى مع سكان الجوف، عدة أيام مرة بتقديم العروض المختلفة، ومرة أخرى عن طريق المفاوضات، وراح طول الوقت يكشف عن تردده في الاحتكام الى السيف، وقد أدى سلوك طلال هذا الى خروج أسرة حابوب، التي كانت تتمترس خلف أسوار القلعة الحجرية القديمة لتكشف عن استهزائها بعدوها أكثر وأكثر، كما رفضت أيضاً الوصول معه الى أي اتفاق، وهنا
ـــــــــــــــــــ
بدأ طلال الاشتباك الفعلي، ولكن على نطاق صغير في البداية، بأن ارسل بعض المبارزين، والمخربين، بقصد الاستثارة والازعاج وليس الهزيمة، في الوقت الذي أحتفظ فيه بقوته الرئيسية للحظة الحاسمة، ونجحت خطة طلال؛ فقد ازداد أعداؤه شجاعة على شجاعتهم،ودخلوا معه في معركة شاملة، رفض هو الدخول فيها أكثر من مرة، وأخيراً، استطاع طلال ذات يوم أن يفيد من الضباب، تلك الشبورة التي تغطي الأرض الخفيضة في هذا المناخ الصافي، في إخفاء قوته الرئيسية في منحنيات الوادي القريب، في حين راح خيَّالة طلال يستثيرون رجال الجوف ويستحثونهم على الخروج لملاقاتهم بأعداد أكبر من المعتاد، ومع اشتداد وطئ المعركة، قام أمير شومر بتحريك مدفعية الكبيرين إلى الأمام، والواقع أنهما كانا مدفعين قديمين عتيقين، ولكنهما كانا ماكينتين قويتين من ماكينات الحرب من منظور هذه البلاد، ووجه نيرانهما صوب مباني القلعة، التي لا تقوى إطلاقاً على مواجهة صدمة من هذا القبيل، وبعد أن شاهد رؤساء أسرة حابوب إنذار المدافع المخيف، وبعد أن شاهدوا مكونات قوتهم تتهاوى أمام دانات المدفعين اضطربت صفوفهم اضطراباً مخيفاً، وهذا هو ما ينتظره طلال؛ وهنا أمر طلال جيشه كله بالتوقف، وبذلك تكون هزيمة العدو قد اكتملت خلال لحظات قصيرة، ودخل المطاردون والمطاردين المدينة، ودارت مذبحة كبيرة، واستولى طلال على القلعة، وتم الاستيلاء على الجوف قبل الظهر.
كان أول شيء يفعله طلال بن الرشيد، بعد الاستيلاء على الجوف، هو هدم جميع منازل الفئة المعادية لبيت حابوب كما قطّع نخيلهم، وطرد رؤساء هذه الفئة من المدينة الى منفى بعيد، لم يوافق مطلقاً على عودتهم منه، برغم التوسلات والالتماسات العديدة التي تقدم بها أصدقاؤهم واقاربهم نيابة عنهم، كان غافل في تلك الأثناء، يتطلع إلى تعيينه حاكماً؛ غير أ، الغازي، طلال بن الرشيد، قرر أن تكون الجوف له وحده بكاملها، وهذا بدوره كان يتطلب حكماً مختلفاً وأكثر متانة، وسرعان ما عين طلال أحد أتباعه- اسمه حامود- المخلصين حاكماً لمنطقة الجوف وللعاصمة، في حين أنكر، في الوقت ذاته، على الرؤساء المحليين، ومن بينهم غافل، أي نفوذ في السلطة الادارية، وعين بدلاً منهم ثلاثة من مشايعيه المخلصين، من مواطني عاصمته حائل، ليكونوا مساعدين أو مجلسا، لمراقبة الحاكم الجديد، طبقاً للظروف والأحوال؛ ثم اختار في النهاية من بين رجال الجوف نفسها عدداً من الرجال، شكَّلهم على هيئة حرس خاص لنائبه، ونبَّه إلى أنهم يجب أن يتسلموا أسلحتهم ورواتبهم من حامود نفسه، ثم احتفظ بأربع من كبار الأعيان ليكونوا رهائن عنده مقابل سلوك إخوانهم المواطنين سلوكاً حسنأً، وعند عودته الى جبل شومر اخذ معه هؤلاء الأعيان الأربعة.
واعتباراً من ذلك التاريخ أصبح الجوف يدار بواسطة حامود ومجلسه الثلاثي باسم طلال بن الرشيد، ولم يسمح ابن الرشيد بأي شكل من أشكال الاضطرابات الداخلية، وبدلاً من الخوا والابتزاز لصالح الروالة وأتباعهم البدو، فرض طلال بن الرشيد على أهل الجوف ضريبة منتظمة على العقارات وعلى الماشية يدفعونها للحكومة وفي ظل هذه الترتيبات الجديدة استعادت منطقة الجوف الكثير من عافيتها ورفاهها السابق، وخطى السكان، الذين أرهقتهم الصراعات الداخلية وكادت توصلهم الى مرحلة البداوة، خطوا خطوات واسعة نحو الحياة المتحضرة، كما واصلوا مضيهم قدماً، نحو زيادة ثرواتهم، وإعدادهم ونشاطهم التجاري، زد على ذلك، أن إدراك سكان الجوف لهذه المزايا، أكثر من إدراكهم للرعب الذي توحى به القوة الكبيرة، هو الذي جعل عدداً كبيراً من هؤلاء السكان، يصبرون على تحمل نير الحكم الأجنبي والحاكم الأجنبي، إلى يومنا هذا دون أن يظهر عليهم أي عرض من أعراض التمرد أو أية محاولة، مهما كانت صغيرة للعصيان.
-------------------
(1) هذا القول ليس بحديث ولا تصح نسبته الى الرسول (ص) وقد ورد نص رواه السيوطي في الجامع الصغير، ورواه السخاوي في المقاصد الحسنة وهو " امروا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران فأطعموا نساءكن الوُلَّد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" وفي هذا النص ضعف وانقطاع، ولا يصلح للاحتجاج به- (د.حلمي عبد المنعم)
(2) إن الاعتراض لا معنى له ما دام النص الذي استشهدت به ضعيفاً ومنقطعاً ولا يصلح للاحتجاج به، وهذا الخطأ يقع فيه كثير من المستشرقين حينما يبنون أحكاماً ويقيمون إعتراضات مؤسسة على أخبار غير دقيقة أو نصوص غير ثابتة وغير صحيحة، وكما يقول أهل العلم (إذا كنت ناقلاً فالصحة، وإذا كنت مُدَّعياً الدليل)- (د.حلمي عبد المنعم)
(3)من سمات البحث العلمي أنه يقوم على التثبت والتحقق، وليس من باب إصدار الأحكام المطلقة بحقكم العام، وأنا أتعجب من إطلاقات المؤلف في أحكامه على أن سكان الجزيرة العربية ارتدوا الى الوثنية وعبادة الجن فهل بنى هذا الحكم على استقرار تام؟ إن الواقع يكذب ذلك في الجوف كما عايشناه وخبرناه (د.حلمي عبد المنعم).