وفي الواقع يمثِّل انبعاث الفكر الأصولي والسلفي، المتجسد في حركات حزبية وجهادية، عنصراً مهماً في صعود وانتشار ثقافة التخوين في المجتمعات العربية. وينسحب الأمر نفسه على أصوليات غير دينية لجهة تصنيف نفسها وحدها القادرة على فهم الوقائع، واعتبار نظرتها تحمل التحليل الصحيح الذي يستوجب التزامه من دون الأخذ في الاعتبار الرأي الآخر. ويشير الكاتب السعودي تركي الحمد، في كتابه “السياسة بين الحلال والحرام” إلى هذه المسألة فيقول: “إذا كانت جماعات الإسلام الحزبي تستخدم على وجه القطع، ثنائية الكفر والإيمان، الحلال والحرام، في تحديد علاقتها بالآخر، الذي قد يكون جماعة إسلاموية أخرى، وفي الحكم على الأحداث والأشياء، فإنّ التيارات غير الدينية، بل والتي يضع بعضها نفسه أحياناً على طرف نقيض مع الخطاب الديني جملة وتفصيلاً، إنما تفعل نفس الشيء حين تلجأ إلى القطيعة في الإدراك، والحكم على أحداث وأشياء هي بطبيعتها من المتغيِّرات غير القابلة للحكم القطعي”.
ولا شك أنّ البنى العصبية، المتمثلة بالقبائلية والعشائرية والطائفية والإثنية، تشكِّل عنصراً وازناً اليوم في ازدهار هذه الثقافة، ويتغذى هذا النمو لمفاهيم العصبيات من تدهور موقع الدولة في العالم العربي وانحسار تمثيلها العام والمشترك، وتراجع قدرتها عن حماية المواطن. ويترتب على الانبعاث العصبوي الفئوي زيادة وتيرة التعصُّب والانغلاق والنظرة المشككة بالآخر، ناهيك بـ “الإقفال” العقلي أمام رؤية تسمح بالتلاقي مع سائر القوى في المجتمع. ويتمثل صعود العصبيات اليوم في التوترات والحروب الأهلية التي تشهدها بعض المجتمعات العربية، والتي تحمل كل حالة منها منظومة فكرية متشابهة في اعتبار الآخر عدواً يتوجب القضاء عليه.
ويصل التخوين في العالم العربي ذروته عندما يتصل الأمر بالقضايا الوطنية، حيث يتحوُّل الاجتهاد أو المخالفة إلى العمالة والولاء للأجنبي. في كل الأحوال، لا تنفصل اتهامات التخوين عن الفكر السائد في السياسة والثقافة العربيتين، والذي بطبيعته فكر يعبِّر عن عقلية شمولية واختزالية واحتكارية للحقيقة والصواب، وهي أفكار تلازم سلطات الاستبداد والتسلُّط، سواء مارسته أنظمة سياسية أم قالت به حركات سياسية معارضة على مختلف تنوُّعاتها.
وإذا كان الغالب على ثقافة الحركات الدينية الأصولية نشر التكفير جواباً عن الخلاف في الرأي، فإنّ البعض من الأحزاب القومية واليسارية مارست وتمارس تكفيراً ضد مخالفيها في التوجهات والآراء. وفي الوقت نفسه، تنتشر ظاهرة التكفير بين أوساط مثقفة، وإن كانت غير ملتزمة حزبياً، فتكفِّر بعضها بعضاً، وتمتنع عن الاحتكام إلى الموضوعية واحترام الرأي في علاقتها المتبادلة.
وليس من شك أنّ ثالوث (المؤامرة – التخوين – التكفير) قد مارس، ولا يزال، دوراً معوِّقاً لتطور المجتمعات العربية وتلمُّس طرق خروجها من التأخر المديد الذي تقيم به. فقد ساهم هذا الثالوث، حسب تعبير الأستاذ خالد غزال، الذي يرخي بكلكله على العقل والفكر والممارسة، في إعاقة المجتمعات العربية عن الدخول في الحداثة والإفادة من منتجاتها. فبديلاً عن الرحابة في العلاقة مع الآخر والاعتراف به والتعامل معه ضمن الاختلاف، وبديلاً عن الانفتاح على الأفكار والاحتكام إلى صراعها وتناقضها وما تولِّده من جديد، فإنّ هذا الثالوث يقدم التعصب والكراهية ونبذ الآخر المختلف، وهي أفكار تجد، بالطبيعة، ترجمة لها في العنف المادي والمعنوي، بكل ما يعنيه من إثارة لمنطق العصبية والاضطهاد.
وهكذا، نلاحظ مفارقة حادة تتمثل في اتساع دائرة الظلامية من طرف وضحالة الفكر التنويري، الذي يتوجه نقدياً إلى هذه الأخيرة من طرف آخر. ولعلَّ أحد الأسباب الكامنة وراء ذلك يتمثل في تضاؤل تأثير المجموعات العربية التنويرية، الناجم عن أنّ العناصر المهيمنة داخل النظام السياسي العربي تخشى تصاعد تأثير تلك المجموعات في أوساط الشعوب العربية من ناحية، ومن ناحية أخرى تحرص على بقاء تأثير القوى الظلامية، كي تُحدث نمطاً من “التوازن” بين الفريقين ترتد ثماره لصالحها.
ومن شأن هذا أن ينتج خطاباً تلفيقياً تحوِّله تلك الرؤوس إلى خطاب سلطوي، يوجَّه إلى الجمهور العربي على النحو التالي: إما أن تقبلوا بنا، فتكسبوا التوازن الاجتماعي والسياسي بين مختلف المجموعات الناشطة، وإما أن نؤلِّب عليكم الظلاميين وتقعون فريسة للتنويريين المتهمين بأنهم “عملاء حضاريون” للغرب يستهترون بالعقائد الدينية والخصوصيات الوطنية.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ طرفاً آخر من أطراف السجال بين التنوير والظلامية والنظم السياسية العربية هو القوى الأجنبية يفرض نفسه بقوة، تصل أحياناً إلى درجة الهيمنة في مسار السجال.
-----------
سوريا المستقبل