نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان

هل يشعل العراق حرباً إقليمية؟

09/11/2024 - عاصم عبد الرحمن


الموسيقى تحلق وراء القضبان





يجهل هذا الجيل المتعطش للحرية والفن والثقافة والموسيقى الكثير عن حي صغير بائس يضم رتلا من البشر الفقراء والمدقعين .. وكان آنذاك نقطة تجّمع فنية هائلة لم تسلط عليها الضوء الكافي في التاريخ الفني لبلادنا. هذا الحي المسمى ’’ العدامة ’’ والواقع جنوب منطقة التلغراف وجنوب غربي حي الحورة . العدامة الآن أصبح في الخارطة السكانية في عداد المجهول بعد أن انقرضت تلك البيوت المبنية من سعف النخيل بفعل الحرائق المتعمدة والعفوية حتى أصبحت هذه المنطقة أرضا سوداء لمدة من الوقت ’ وفي بداية الستينات بدأت تستنهض هذه المنطقة ويعاد تعميرها بشكل جديد ’ حيث توافد إليها مواطنون من مناطق مختلفة من البحرين ’ وظهرت للوجود البيوت الجديدة والعمارات ودمجت في التسمية كجزء من منطقة القضيبية ’ بالرغم من أن منطقة العدامة معروفة ألان شعبيا لدى سكان المنطقة المجاورة تحت اسم ’’ ارض مصطفى ! ’’


هذا المدخل فقط لتعريف القارئ بالمنطقة المسماة ’’ العدامة ’’ والتي هي مسقط رأس الفنان / الموسيقي مجيد مرهون والذي يطلق عليه في البحرين نلسون منديلا البحرين ’ حيث عاش وترعرع فيها حتى اعتقاله في عام 1968’ وتم اطلاق سراحه عام 1991*** . وظلت عائلة هذا الإنسان من العائلات القليلة المعدودة على أصابع اليد التي مكثت أو انزرعت في موقعها السكني منذ مرحلة بيوت السعف حتى التغيرات العمرانية في المنطقة ’ والتي دشنت مع بداية الستينات ’ ومن عرق عائلة هذا الفنان الكادح والعامل بشركة النفط (بابكو) استطاعت تجميع مبلغ صغير لبناء بيت متواضع ما عاد ألان مناسبا لفترة الثمانينات’ حيث الحجرات الصغيرة والرطوبة وانعدام الضوء الكافي والاكتظاظ السكاني ’ هذا المنزل المتواضع ضمن العائلات الصغير المحدودة والتي تنتمي إلى طابور الكادحين في هذه المنطقة مازالت تتنفس بأمل أن يخرج فنانها المسجون ’ وابنها البار المثقل بكآبة سجن طويل الأمد .

الولادة في يوم قائظ .


الشمس تطل كل صباح من الجهة الشرقية من حي العدامة والواقع جنوب غرب منطقة الحورة القديمة ’حيث المجموعات الواسعة من بيوت الفقراء البسيطة المبنية من سعف النخيل والخشب والصفائح . هذه البيوت التي كانت رمزا صارخا للبؤس والحرمان للعائلات البحرانية التي كانت تقطن هناك ’ هذه البيوت استمعت ذات يوم إلى صراخ طفل يولد محتجا على هذا العالم الجاحد ’ لقد جاء إلى الوجود الطفل مجيد الأبنوسي البشرة وفي عينيه تتقد اضاءات الموهبة المبكرة ’حيث عاش منذ سنوات حياته الأولى ينام ويستيقظ على ضربات أنغام الموسيقى من البيوت المتناثرة من حوله والتي لا تقف عن ممارسة هواية الرقص والغناء والطرب . هذه النشأة المبكرة في هذه البيئة علمت مجيد مرهون مذاقا خاصا لسحر الإيقاع في حياته ’فهناك تشربت شرايينه نغمات الإيقاع الأفريقي والطرب الشعبي المحلي ’ وقد تخرج وعاش ابرز وأشهر عازفي الآلات والموسيقى في الليوة ’ والفجري ’ والطنبورة . في هذه البيئة المضاءة بعالم زاخر بالغناء والرقص والموسيقى’ هذا المناخ أيقظ الحس الفني في أعماقه ونبش الموهبة المدفونة بين جوانح الصبي الأسمر الصغير ’حيث كان يهرب نحو الشاطئ الشرقي للحي في ساعات الغروب التي كان يعشقها ويتأملها ويبدأ في الرحيل بمخيلته الطرية الحالمة ’غارقا مع آلته الصغيرة ’’ الهارمونيكا’’ . لقد صارا يتداخلان معا : ’’ الهارمونيكا ’’ والصبي مجيد ويراقصان بعضهما بعضا مثل راقصي التانغو ويغزل بأحلامه للشمس التي كان يعشقها عند الغروب أحلاما من المجهول . ومع الوقت نما عوده ودخل المدرسة وهناك تعلم الحرف والكتابة وتجلت مواهبه المتعددة وكان هاو في سنواته المبكرة للتمثيل بجانب حبه الكبير للنحت والرسم والقراءة ’ولكن كل تلك الاهتمامات والمواهب لم تجذب هذا الصبي وتحرفه عن معشوقته الموسيقى .. تلك القوة الغامضة في أعماق روحه وقد برهن طوال فترات حياته الدراسية عن جدارته وتفوقه ’ فكان دائما في الصفوف المتقدمة ’ وقد تخرج ضمن الدفعة الأولى للمرحلة الابتدائية من مدرسة القضيبية ’ كان ذلك في عام 1958 وكان أمام الصبي المرهق العينين والجسد الضامر خياران : إما الالتحاق بالمدرسة الثانوية الوحيدة في المنامة آنذاك أو يختار مركز التدريب المهني ( برنتس ) في شركة نفط البحرين (بابكو) التي كان مندوبوها يترددون على المدارس بحثا عن أيدي عاملة فنية على قدر من التعليم لتأهيلها لمهن فنية مختلفة ’ والفقراء اغلبهم كانوا يختارون مركز التدريب لأن هناك سيجدون وقتا للعمل والدراسة وأجور مدفوعة يحسّنون بها أوضاعهم المعيشية .
سنوات بين الدراسة والعلم في مركز التدريب عاصر فيها الفنان مجيد مرهون في ريعان شبابه ’ تربة عمالية مبكرة وتعلم بين تروس آلة الاستغلال الرأسمالية كيف يضطهد العمال وكيف تسلب أجمل سني حياتهم بين العرق والتعب ’ هناك تفتحت عيناه على رفاق دربه وتلقى دروسه الكفاحية بين صفوف الطبقة العاملة ’ أما رفاقه في مركز التدريب فإنهم كانوا يشهدون له بالنشاط والحيوية والمرح مرددين قائلين بأنه كان مثابرا في دروسه ومحبوبا بين زملائه في الدراسة وكسب أصدقاء كثيرين إلى جانبه . وفي فترة التحركات الطلابية في الشركة قام بنشاط فعال بين جموع الطلبة في بث الأفكار الثورية والتحريضية في صفوفهم . وبعد تخرجه والتحاقه بالعمل في مصنع التكرير أيضا لم يهمل واجباته الثورية حيث كسب صداقة العمال بأخلاقه وبتواضعه وثقّف العديد من العمال الشباب وجذبهم إلى جانبه . وأثناء الانتفاضة العمالية في عام 1965 قام بدور تحريضي بين صفوف العمال في مصنع التكرير وكان نشطا يؤدي واجباته بكل أمانة وإخلاص .

صورتان مضيئتان للفنان مجيد.

لقد تعرفت الحركة العمالية وأصدقائه العمال الشباب على صورة مجيد الثورية .. تلك النجمة اللامعة في مركز التدريب ومصنع التكرير ’ صورتان للإنسان الكادح القادم من أعماق الفقر والبؤس والحرمان والتي تحولت إلى طاقة ثورية تنشر أفكارها النبيلة بين صفوف العمال ’ تلك الأفكار والمعاني السامية للعدالة والمساواة ’ هذه الصورة ما زالت عالقة في ذهن الذين عاش بينهم الفنان الموسيقي فترة من الزمن ’ أما الصورة الأخرى فأنها تجلت أكثر في الحياة الاجتماعية والثقافية منذ بداية الستينيات لميلاد فرقة ’’ الزولوس ’’ الشهيرة حيث تعرف الناس على موسيقى الجاز والحان الإيقاعات الكاريبي والإفريقية ’ فقد بدءوا يشاهدون في الحفلات آلة الساكسفون والكونغا درام ويتذوقون لونا موسيقيا جديدا من الألحان واستطاع الفنان مجيد أن يصبح العازف المرموق بلا منافس على آلته ’’ الساكسفون ’’ وان يدخل بعض الألحان من تأليفه والتي كانت تعزف جزءا منها في مواكب عاشوراء ’ وبفضل هذا التجديد والمنافسة إدخلت في بعض المآتم الآلات النحاسية كالترموبيت والساكسفون .

أما فرقة ’’ الزولوس ’’ فأخذت تنشط منذ نشوئها في إحياء الحفلات المقامة في الأندية ومناسبات الزواج وغيرها وتنفرد الفرقة في تلك الفترة بأنها كانت بجانب طبع موسيقاها المتميز فان أغلبية أفرادها كانوا يقرؤون النوتة الموسيقية . هذه الظاهرة دفعت بالعديد من الشباب المتحمس للموسيقى بالتوجه بتشكيل فرقهم الموسيقية التي كانت علامات تأثرها بنمط الموسيقى الغربية آنذاك هو السمة البارزة مع غياب أية دراسة عميقة في علم الموسيقى وعلى وجه الخصوص الهارموني والكونتربوينت . إن شخصية الفنان مجيد توازن بين طبيعته النضالية التي هي بحاجة ماسة لأن تكون عنيدة ومتمرسة وصلبة وبين طبيعته الفنية المرهفة والشفافة المفرطة وإحساسه الجمالي بعذوبة الإلحان وحسن اختيارها ’ بحيث تتلاءم والذوق الاجتماعي السائد في تلك الفترة . واستمرت روحية مجيد المتداخلة والمتباينة مع استمرار الوقت ‘ تلك الطبيعة التي انعكست علي حياته وسلوكه وكانت التناقض الدائم في حركته النفسية والفكرية والفنية. والتزامه السياسي قاده لأن يكون فنانا ثوريا وتبقى الصلة بالجماهير في سكنه وعمله ’ وفي ذات الوقت التجديد والتطوير وكسر السائد سمة دائمة لديه طوال فترة تعاطيه مع العزف الموسيقي أو الولوج في مرحلة التأليف ’ حيث كان دائما ضد الجمود والتخلف في الموسيقى ’ ضد أن يظل وطنه على هامش الحضارة العالمية في هذا المجال .

عازف السكسفون الحزين .

هناك مقولة علمية تقول إن الإنسان ابن البيئة . فهل اختار الفنان مجيد آلة السكسفون صدفة عندما نضج عوده ؟ أن هنالك عاملين أساسيين في الاختيار. أولا موهبته الطبيعية في القدرة على العزف على هذه الآلة وتوافقها مع نفسيته فهو في طفولته جرب عشقه للهارمونيكا وبينهما علاقة مشتركة كالنفخ في الفم ’ فالسكسفون آلة نفخ أيضا مع تباين كبير في الطبيعة والإمكانية التقنية للآلتين ’ كما انه عزف على الطبلة والاوركاديون والبيانو والكمان ’ وبالرغم من كل التجارب مع الآلات وإجادته لها ’ ظل القطب الجاذب في قلبه ومشاعره هو آلة السكسفون التي أصيب بسببها بالآم حادة في الإذنين ’ وهذه الآلام تصيب غالبية عازفي السكسفون ’ ولكن طفولة الفنان البائسة كانت عاملا جوهريا في التعجيل بمضاعفة هذه الآلام .. أما العامل الثاني فهو توافق بيئة عازفي ’’ الليوة ’’ و’’ الفجري ’’ و’’ الطنبورة ’’المنتمين لجذور زنجية وفارسية تلتقي مع طبيعة الموسيقى الزنجية لعازفي الجاز وعلى وجه الخصوص الحان البلوز الحزينة والروحية ’ والتي تلتقي كقاسم مشترك مع طبيعة زنوج أمريكا وهم يعملون على نهر المسيسبي حينما يغنون أغاني العمل ’ وفي المساء يعودون إلى أكواخهم ليبدءوا بالأغاني التي تعبر عن الطبيعة الحزينة لحياتهم . مثلما يفعل مغنو وعازفو الإلحان في ’’ الليوة ’’ الذين حملوا صلبان عبوديتهم ردحا من الزمن عند سادة القبائل ’ وظلوا يسكبون أحزانهم في الألحان المثقلة بالكآبة والعذاب والمعاناة . إن الألحان ذات الطبيعة الدرامية في كلا الجانبين تشكل المصادر والمؤثرات النفسية والفنية التي استقى من ينبوعها الفنان مجيد مرهون وتراكمت مصائب الدهر في حياته ابتدءا بإحزان الطفولة الميتمة والتي تلاحقت بموت شقيقته بين يديه ’ وكانت شريكا موسيقيا معه منذ نعومة أظفاره ’ وتواصلت مأساوية الحزن في عمقها عندما وجد نفسه بين قضبان الحديد محكوما بالمؤبد على أيدي السلطات البريطانية في البحرين عام 1968 . هذا الثالوث الرهيب في تعميق ظلال الحزن وتحويلها إلى مخزون هائل من المعاناة ستعطينا لاحقا أعمالا موسيقية متطورة من جوانبها الفنية والفكرية ’ ومرهفة بدرجة عالية من المعاناة الممتزجة بالحنين لكل ما هو جميل وحزين. هذا التداخل المعقد يبقى نقطة الضوء في ذاكرة الفنان الذي يحلم أن يجد نفسه خارج القضبان حرا وطليقا مع أسراب الحمام المسافرة نحو عالم السلام والسكينة ’ أما الآن فهو يواسي عالمه الباطني الحالم بذلك الأمل الذي سيطرق باب زنزانته ذات يوم ’ من هذا الواقع المرير المثقل بالهموم عبر لغة الموسيقى تمنحه ذاكرته إجازة الهروب من سجنه السوداوي مرددا في مذكراته الموسيقية : ’’ الدخول للواقع بالخيال ’’ انه الحلم في ساعات اليقظة والتحليق في الفضاء الرحب . وليس مستغربا أن تصبح حياة الفنان مجيد مرهون علامة مميزة في حياتنا السياسية والموسيقية والثقافية مما عكس نفسه في نتاجات الحركة الأدبية البحرانية ويتحول بطلها الحقيقي إلى نموذج شخصية مجسدة كقصة ( عازف السكسفون ) للقاص البحراني محمد عبد الملك في مجموعته القصصية (نحن نحب الشمس ) والقاص عبد الله خليفة في مجموعته القصصية ( لحن الشتاء ) .

الموسيقى تحلق وراء قضبان السجن .

’’ أنا سجين في جزيرة جدا ’وليس لدي أية إمكانيات ’ وبمعنى أخر ليست لدي أية آلة موسيقية ’ وظروفي صعبة وقاسية ولكني أحاول التغلب على هذه الظروف بكتابة الموسيقى ’’
مجيد مرهون
5 نوفمبر 1974

’’ في أكتوبر 1975 أرسلت نصا لبعض الألحان إلى الأكاديمية الملكية السويدية وكان الرد الذي أرسله الموسيقار الشاب Mr.Sevn David sandsten ’ مشرفا إذ ذكر في رسالته حسن قدرتي في التلوينات الصوتية والاركسة واعتبر مستواي في الكونتربوينت في درجة الوضوح ومدح وضوح تعبيراتي في التدوين الموسيقي سواء من ناحية الجمال أو التحكم في تحديد نماذج الألوان الصوتية وقواها المتناسبة عبر تلك الألحان ’ ولكنه طلب مني أن اهتم بناحية الإثراء الهارموني ’ واستحسن لي لو أقوم باستخدام طرق في البناء الهيكلي غير تقليدية في صياغة أعمالي الموسيقية ’’ .
مجيد مرهون
5 نوفمبر 1976

هاتين الفقرتين اقتطفناهما من البومات الموسيقي مجيد مرهون عام 1985’ حيث نلاحظ في الفقرة الأولى كيف أن غياب الآلة الموسيقية عن يديه يجعل من أمر إبداعه صعبا ’ ولكن صموده وإرادته الصلبة تجعله ينهل ما يمكنه من دراسة الموسيقى نظريا مع اعتماده على شحذ مخيلته في تطبيق الأفكار الموسيقية الواردة على خاطره .
غير إن هذا لا يكفي ’ فهو لم يعد ’ كما في السابق ’ عازفا في فرقة صغيرة تحتاج لمعرفة موسيقية أولية وإجادة في العزف على آلة السكسفون ’ فالمسالة اختلفت في السجن جملة وتفصيلا ’ بعد أن نفذ قراره بالتوجه الجاد لدراسة الموسيقى كعلم واسع المدى ’ والذين أتيح لهم أن يعيشوا مع مجيد مرهون فترة من الزمن في سجن جزيرة جدا يعرفون إلى أي مدى هو مأخوذا بالموسيقى : كيف يعيشها ويتنفسها مقاوما تحديات السجن وقساوته والصعوبات النفسية بإرادة حديدية ’ ويعرفون كيف أن ينبوع الإبداع عنده يشكل مخزونا هائلا . انه في النهار مسئول عن التصليحات الميكانيكية والكهربائية في السجن لكونه عاملا فنيا ’ وعندما يزحف الظلام على الجزيرة وتطفئ الأنوار الخافتة التي لا تصلح للقراءة أو الدراسة ’ فان شمعة الفنان مجيد الخافتة تلازمه وهو يعمل على تنفيذ مشاريعه حتى وقت متأخر من الليل ’ يقرأ في المؤلفات الموسيقية ويكتب كل ما يجول بخاطره من الحان ويشطب ويعيد الكتابة على أوراق مختلفة تصلح لأي شيء ماعدا التدوين الموسيقي ’ وفي ظل صعوبة حصوله على أوراق التدوين الموسيقي يحاول جاهدا تصغير خطه إلى أقصى حد ’ مع أن هذا كان يسبب له آلاما في عينيه ويؤثر على قدرته البصرية ’ ومنذ السنوات الأولى لسجنه ظل يطالب إدارة السجن بالسماح له بإحضار آلة موسيقية ’ ولكن دون جدوى .

مرحلتان في تطور الموسيقي

المرحلة الأولى: منذ اعتقاله عام 1968 حتى 1973

وفي هذه الفترة اخذ في التركيز على الدراسة المكثفة والاطلاع بشغف وعمق على كل ما يقع في يده من المؤلفات الموسيقية ’ وكتابة القطع الموسيقية والألحان والأناشيد ’ وتجميع وتدوين النوت والإيقاعات للاغاني الشعبية القديمة في البحرين كأغاني الغوص والليوة والطنبورة وأغاني الفنان محمد فارس والفنان ضاحي بن وليد ’ بالإضافة إلى وضع الأسس الأولية لفكرة ( القاموس الموسيقي ) هادفا بذلك حفظ وشرح والتعريف بالمصطلحات الموسيقية المحلية والخليجية والعالمية للقارئ والمبتدأ في الميدان الموسيقي . وبين 1970-1974 استطاع أن يستوعب الأسس النظرية في تأليف وتوزيع المبادئ الأولية في علم الموسيقى وبالذات في جوانبها الكلاسيكية .
وهكذا بدأ في تجربة كتابة أعمال معدة للعزف المنفرد للفلوت والقيثارة ’ وبعض الرباعيات للاغاني الوترية وأشكال السوناتا والسوناتينا . وشابت هذه الأعمال بعض الثغرات الموسيقية رغم جودتها العالية حسبما ذكر الموسيقي السويدي الشاب . كان بذاته الموسيقار مجيد بحاجة إلى إزالة غمامة الشك لتبيان جوانب الأخطاء في علمه بالخصوص في الكونتربوينت وحجر الزاوية في التأليف الموسيقي والإمساك بزمام السيطرة على علم الهارموني بحد ذاته ’ وكانت تلك الرسالة نقلة جديدة ودفعة قوية في تطوير أعماله اللاحقة والتي قام بإعادة تدوينها من جديد ’حيث اطّلع أيضا على كتب جديدة في مجال التأليف والتوزيع الموسيقي . وما بين رسالة مجيد المؤرخة في 15/11/74 إلى أكتوبر 75 تاريخ استلامه الرد من السويد ’ نستطيع أن نلاحظ غزارة الإنتاج ومستوى التأليف ما بعد هذه ’ وان ما بين أيدينا من مؤلفات للموسيقي مجيد مرهون غيض من فيض قياسا لنوتاته الموسيقية التي تتراكم في زاوية زنزانته . وبين الحين والأخر يشرع بتشذيبها وتعديلها متوخيا نتاجا موسيقيا أرفع من السابق بعد أن قطع شوطا من الاطلاع والدراسة والتأليف والتلحين .

المرحلة الثانية 1974-1984

تتميز هذه المرحلة بغزارة الإنتاج وتطورها التقني والسيطرة على مفاتيح فن التأليف والتلحين والتوزيع ’ وبالتدريج يوما إثر يوم يحلق مجيد في السماء الرحبة برغم قضبان سجنه الرهيب بأعمال تعبر عن أن هذا الإنسان طاقة إبداعية هائلة أثارت دهشة مجموعة من الشباب البحرانيين الذين درسوا في معهد الكونسرفتوار لمدة سبع سنوات قائلين : نحن لا نستطيع أن نضع ألحانا بهذا المستوى . وحقيقة القول هو أن تدرس الموسيقى أو تكون عازفا على آلة ما في فرقة اوركسترا السيمفوني شيء ’ وان تكون موسيقيا موهوبا قادرا على إبداع أعمال موسيقية والحان متطورة سواء من حيث موضوعاتها أو تقنيتها في البناء الموسيقي شيء آخر .
كما شهد عدد من المدرسين في بلدان مختلفة بقدرات وموهبة الفنان مجيد مرهون. واليكم بعض من مؤلفاته الموسيقية مع تسليط الضوء بتحليل بسيط على موضوعاته وطبيعتها التي تنحو اغلبها إلى جانب الحزن والحنين والذكريات لتعكس حقيقة الواقع المرير الذي يعيشه إلا إننا نجد في داخل هذه الأعمال دائما يبرز خيط من النور والأمل ’ فتأتي ضربات ’’ الليغرو ’’ الحيوية ورقصات التانغو الباعثة على الفرح . ولنتابع أعماله حسب تسلسل التواريخ ضمن المجموعة الموجودة لدينا .
في كراسة كونشرتو لثلاثة أجزاء ’ وهذه الألحان كل له موضوعه الخاص وآلاته وتوزيعاته ولكنها تتشابك من حيث فترتها الزمنية الواحدة . اللحن الأول بعنوان ’’ ازميرالدا /Azmiralda رقم العمل 82 والمؤرخ في 14-6-74 . تبدأ المقدمة بحركة بطيئة متماهلة Adagio ’ أما التوزيع الآلي لمجموعتي آلة الفلوت والكلارنيت والاوبوا والسكسفون والترومبيت وآلات نافخة ومجموعتين للفيولين ومجموعة الفيولا والشيلو والكوانترباص وآلات وترية .
أما اللحن الثاني المسمى ’’ بالحنين / Nostalgia ’’ كتبها للسلم فا الصغير ’ العمل رقم 74’ المقدمة تبدأ بالآلات الوترية بحركة Lento( بتريث وببطء ). ولكي لا نتوه في مضمون عبارات الحنين يضعها الفنان تحت تعبير مفسر موسيقيا بجملة Pathetique( محزن) لتحديد طبيعة الحنين المثقل بالحزن. كتبه بتاريخ 28-6-74.
اللحن الثالث مؤلف بتاريخ 15-6-74 على نفس السلم فا الصغير ’ عمل رقم 39 وسماه راقصات التانغو بمقدمة عزف للبيانو المنفرد بحركة سريعة مرحة ومفعمة بالحيوية Allegro viva ’ والتوزيع موضوع لآلات الابوا ’ الباصون ’ الفيولين والفيولا والشيلو والبيانو .
كونشرتو جزيرة الأحلام ( سجن جزيرة جدا) العمل رقم 26 كتبه بتاريخ 15-11-74 على السلم - G MINOR ( صول الصغير ) بمقدمة البيانو كعزف منفرد بالطريقة الارتجالية ’ وبحركة معتدلة / moderato . التوزيع الآلي ’ مجموعتين للآلات الابوا ’ الكلارنيت ’ الفيولين ومجموعة الفيولا والشيلو والبيانو المنفرد .
كونشرتو ’’ وداعا يا حبي ’’ كتبه عام 1970 وأعاد كتابته في 18-12-75 رقم العمل 14 على السلم صول الصغير بمقدمة مسرعة مرتجلة . أما الحركة الأولى فإنها تبدأ متماهلة Larghetto . وبتاريخ 21-4- 76 أعاد من جديد صياغة وكتابة الكونشرتو ( الذكريات ) الذي كتبه في الأصل في عام 1974 تحت عمل رقم 14 للسلم الصغير بحركة معتدلة (moderato ) موزع للات التالية : الفلوت ’ السكسفون ’ القيثارة ’ ومجموعتين للفيولين ’ والفيولا ’ الشيلو والكونترباص .
عزف منفرد على الناي كتبه في 15-4-76 العمل رقم 2 للسلم الصغير ’ وهذا اللحن بالأساس كتبه سنة 1966 دون اعتبار لشكل النموذج الهيكلي في بنائه ودون معرفة بالهارمونية ولكن أعاد صياغته من جديد بعد عشر سنوات على أسس نموذج السوناتا ولكن بشكل مصغر ’ ألا انه بالإمكان تحويل اللحن الميلودي الموضوع أصلا لآلة منفردة إلى لحن مصاغ لفرقة موسيقية لعدد من الآلات من مختلف أنواع التجمعات الآلية (Ensembles) .
- مقطوعة سوناتا (sonata) للفيولين المنفرد من نموذج الحركة الأولى لنموذج السوناتا ’ عمل رقم 62 للسلم دو الصغير . تبدأ بحركة اداجيو (Adagio) . بطيئة وكتب هذا المؤلف في 27-5-1976.
وفي 29-9-78 ينتهي الموسيقي الفنان والمناضل مجيد مرهون من لحن موضوع للسلم الكبير لاوركسترا الآلات الوترية رقم العمل 19 من البومه رقم 4 وتبدأ بحركة معتدلة (moderato) .
أما مقطوعته المسماة أنغام للميلوديكا العمل رقم 13 من الألبوم 16 فتبدأ بحركة سريعة معتدلة أو بالأحرى سريعة الاعتدال (allegro moderato ) فقد كتبها في 6 -11-1978 .
ويحتوي الألبوم رقم 15 على ثلاث مقطوعات للعزف المنفرد لآلة القيثارة كتبها ما بين 12-2-79 -13-3-79 باسم العمل رقم 18و19’ وعمل ثالث من نموذج الفالس البطيء slow vales بتاريخ 13-3-79 موزعا للآلات التالية : الأرغن ’ القيثارة ة الكمان ’ الفيولا ’ الشيلو والكونترباص . هذه المجموعة الفريدة الطابع قدمها كباقة من الألحان هدية بمناسبة زواج أحباء له تعبيرا عن مشاعر حبه تجاههم .
- في بداية السنة اللاحقة (1980) اخذ على عاتقه تنفيذ عمل جديد من نوعه ’ وهو عبارة تلحين قصيدة شعرية باسم ( حبيبتي ) وهي عبارة عن مقتطفات اختارها من قصيدة بعنوان ( رسالة مسجونة ) من ديوان الشاعر عبد الحميد القائد ( عاشق في زمن العطش )’ والتوزيع الغنائي المنفرد معد لمغني من طبقة التينور وهي أعلى طبقات الأصوات الرجالية ’ والتوزيع الآلي بالفلوت ’ الاوبوا ’ السكسفون ’ قيثار كهربائي ’ البونكوز ’ الكونغا ’ الكمان ’ ومجموعتي الفيولا والشيلو والكونتر باص . وانتهى من هذا العمل في 6 -10-1980 .
وقد واجه عزف هذا العمل صعوبة في البحرين لسببين : الأول ’ هو عدم وجود عازفين يستطيعون تغطية عدد الفرقة المطلوبة لأداء ذلك ’ والثاني هو غياب المغني صاحب حنجرة من طبقة التينور . ولا زلنا بحاجة لفترات طويلة لاكتشاف طراز هذا النوع من الحناجر أو الأصوات .
ومن خلال هذا العرض السريع والموجز لمؤلفات مجيد مرهون المناضل والفنان التي وضعها في سجني جدا والقلعة ’ نجد إن هناك البومات وقطع موسيقية والحان لا تزال تنتظر تذليل الصعوبات الجمة التي تواجه عزفها وإيصالها للناس . كما أن الفنان في الفترة الواقعة ما بين 1975-1980 انكب على وضع أسس العمل السيمفوني الكامل بكل حركاته وأجزائه.
تبقى ضرورة تسليط بعض الضوء على الموضوعات التي يختارها المناضل الفنان مجيد لإعماله وهو الرازح في سجون السلطات الرجعية ’ والتي ما زالت تديرها أجهزة المخابرات الانجليزية الحاقدة المعادية ليس للإنسان وحسب بل لجميع القيم الإنسانية الرفيعة كالموسيقى والشعر والأدب .
إن نظرة متأملة وعميقة وتحليلية للمضامين والأفكار الواردة في جميع أعماله ترينا ميلا ملحوظا لاختيار مواضيع يكون أبطالها يعانون في الحياة ويواجهون الصعوبات بدرامية ’ أبطالها بشر محّملون بالآلام ’ وكل شخصية أو موضوعة ’ تتداخل مع عذابات الموسيقي الفنان مجيد ذاته ’ فالبطلة المعذبة في رواية ( احدب نوتردام ) في لحنه ( ازميرالدا) ما هي إلا مقارنة بين مأساته ومأساتها ’ ففي هذا العمل يصور حقيقة جوهرية هي التجاذب بين اليأس والأمل . المسقط من شخصية ازميرلدا ذاته المتنازعة بين أحاسيس ومشاعر متداخلة التاريخ والمسافات والأزمنة مختلفة ’ ولكن المأساة متشابهة . وحين يتم اختياره لموضوع شعري بعنوان رسالة مسجونة ’ فلا داعي للبحث عن السر ’ فواقعه المعاش له جاذبيته غير المرئية ’ عليه أن يتحسسها كمبدع ويراها في وعيه الباطن تتحرك كحلم بعيد يمتد عبر الأفق. في تلك الجزيرة – السجن كتبت أيضا القصيدة التي اختارها ’ والملحن والشاعر يلتقيان في معاناة واحدة هي معاناة البحث عن الحبيبة بالتذكار المجنون للحب البعيد في صراعه مع الرياح والقراصنة ’ مذكرا حبيبته بأن لا تنسى ذلك المسافر الذي غاب عن الوطن رغما عن إرادته ’ بسبب ذلك الكابوس المظلم الجاثم على فرسان المدينة ’ العاشقين للحرية والحب والربيع . أما اللحن الذي أطلق عليه الحنين (Nostalgia )الممتزج ببكائية حزن عميق وحنين للماضي بكل آلامه ’ فان أي إنصات بسيط لأي منا لهذا العمل يشعره بمدى الحزن المنهمر من الآلات الوترية أو آلة النفخ الاوبوا والفلوت التي تخترق أنياط القلب مباشرة ’ وتخال نفسك أمام جنازة ممدة لإنسان عزيز على قلبك يفارقك فجأة والى الأبد ’ فما بالنا بمشاعر الموسيقي الفنان مجيد حينما تتراكم عليه المحن متوالية بلا شفقة أو رحمة .
لقد كتب بقلمه حول هذا اللحن قائلا: ’’ لحن موسيقي اعبر فيه عن خيالات الماضي الجميل الذي فات ’ وأنا من موقعي لكوني في السجن ‘ فالذكريات هي ما تبقى لي في الوجود ’ التمس منها قبس الأمل والمجد. وكذلك اجتر أحزاني من خلال هذه النظرة الخيالية برومانسية وشفافية وقد وضعتها مبينا دور (الاوبوا) معبرا عن دخولي في أجواء الخيال متشبثا به هاربا من واقع مرير ارسف في قيوده المقيتة ’ منطلقا من خلال قضبان زنزانتي إلى ماض يبدو أمامي وكأنه بعيد وله طعم خاص ’ اشعر فيه براحة نفسية عميقة ’ متلذذا باجترار أحزاني القديمة أحزان طفولتي اليتيمة ’ أحزان فشل حبي الأول ’ أحزان موت أختي الحبيبة بين يدي وأنا انظر إليها فانفجع بها عارفا حقيقة الموت لأول مرة في حياتي ’ أحزان القلق النفسي الذي يلازمني أثناء الانحسار الثوري الذي يفرض عليّ العمل السري سنوات تحت نظام الطوارئ ’ وأعود إلى أحزان الواقع الذي أعايشه ليل نهار مع صلصله القيود ورتابة الحياة والكبت المستمر ليل نهار مع الصمت ’’ .
فالمعاناة والإبداع متوحدان والمخزون الحقيقي لأروع الأعمال الإنسانية هو عمق المأساة المستمدة من تجربة صادقة وطاحنة وتبدو نتاجات مجيد عملا بحاجة للمعالجة الواسعة ’ فالقليل من الموسيقيين في العالم عاشوا تجربة غنية بتنوعها وثرائها المأساوي والحياتي .
وصورة الحزن والأسى ليست هي الوجه الوحيد لأعمال الفنان والمناضل مجيد مرهون ’ فهو برغم شفافيته ورهافته يظل دائما إنسانا عاشقا للرقص والغناء والمرح ’ فتلك خاصية تشربت فيها الدماء الجارية في شرايينه وعروقه منذ الطفولة ’ ويحلق مع طيور الأمل العابرة فوق سماء سجن الجزيرة ويتلذذ بنكهة الأخبار السعيدة كلما أطلت عليه من النافذة الرسائل القادمة مع بريد السجناء ’ ويمرح يومها فرحا كصبية صغار يستقبلون العيد . فنجده يكتب لونا آخر من الألحان الراقصة والسعيدة التي تبعث في القلب الابتهاج والراحة والرضا كرقصات التانغو والفالس البطيء ومعزوفات منفردة على القيثارة تميل للون المتفائل والمرح ’ فالحب ينتصر على الحزن ’ والأمل أقوى من اليأس دائما ومن المرور الرتيب للزمن في سنوات سجنه الطويل .
إن صموده في السجن وتحديه لواقعه الصعب هو ملحمة نضالية كبرى ’ وقد عكس اللحن الذي وضعه للنشيد الكفاحي ( طريقنا أنت تدري ) هذه الروح الصلبة والإرادة التي لا تلين ’ فقد أطلق هذا اللحن الحماسي المتحدي كل ما في كلمات النشيد من عزم وإصرار عنيد على المقاومة وعلى مواصلة الدرب الصعب حتى يتحقق لشعبنا هدفه الذي عنه لا يحيد : ’’ وطن حر وشعب سعيد ’’ .

*** دخل مجيد مرهون السجن عام 1968 وخرج ابريل عام 1990
*** منح وسام الكفاءة من الدرجة الثانية من قبل الملك بسنة 2002
*** صدر له المجلد الأول عام 2008 من مشروع الموسوعة الموسيقية ( تسعة مجلدات ) وطبعت المجلدات رقم 2’3’4’5 وفي طريقها للبحرين والذي تكفلت مسؤوليته وزارة الثقافة الإعلام .
*** متقاعد ويستلم 165 دينار بحريني بعد خصم قسط بيت الإسكان.
بالإضافة إلى 400 دينار كمساعدة من وزارة الثقافة والإعلام ضمن مشروع المساعدة المقدم لبعض الفنانين.



بدر عبد الملك
الثلاثاء 23 فبراير 2010