نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


العولمة وواقع ومستقبل الثقافة العربية






يدفعني إلى إعادة نشر هذه الدراسة - المحاضرة التي أعددتها منذ 22 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور للثقافة العربية بحاضرها البائس، الذي تمزقه الخصوصيات الثقافية، وتهدده “الهويات القاتلة"


بداية لابد من الإشارة إلى أنّ العالم العربي مكوّن من مجموعة دول متباينة من حيث موقعها الجغرافي، ومواردها الطبيعية والمالية، وأوضاعها السكانية والتنموية، ونظمها السياسية، ونوعية علاقاتها البينية والدولية. وبالتالي فـ “إنّ العولمة لا تعني بالضرورة نفس الشيء، ولا تنطوي على نفس التحديات بالنسبة لكل منها، أو بالنسبة لكل مجموعة من المجموعات العربية”. يضاف إلى ذلك أنّ التعدد الثقافي، في إطار هذا التباين، موجود. الأمر الذي يميز الثقافة العربية بخصوصيات لا تنفي مفهوم الثقافة العربية بقدر ما تزيده ثراء وخصباً وغنى.

ويظل من واجبنا الحذر والتحذير من إسقاط التشرذم السياسي العربي على البعد الثقافي، ومن محاكمة الثقافة أو تحديد قيمتها طبقاً لموازين السياسة. وأهم من ذلك “اليقظة من خديعة التنكر للخصوصيات بدعوى الوحدة المنشودة، وكذلك عدم الانخراط في تضخيم الخصوصيات ونفي المشترك باسم الخصوصية. إنها ثقافة عربية واحدة تضم تيارات وخصوصيات تصبُّ في مجرى واحد، من دون هيمنة أو إقصاء واستبعاد”.

كما يجدر بنا أن نقلع عن تحميل مسؤولية عجزنا وتأخرنا على الآخر الغربي، فإذا نسبنا مسؤولية كلِّ ما نتعرض له من إجحاف وظلم قومي إلى الآخرين، فلن يكون من الممكن أن نحدد لأنفسنا مهاماً خاصة بنا، وسنظلُّ أسرى منطق دائري يجعلنا نعكف على انتظار الخلاص بالصدفة. بينما المطلوب أن نتحرر من هذه النزعة، وأن نجري تغيّرات ثقافية جوهرية، تتضمن – قبل كل شيء – الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا، ومن ثم عن المعطيات الأساسية لمستقبلنا في الإطار العالمي.

ففي زمن العولمة، لعلَّ أهم ما يستدعي الانتباه والقلق هو منحى التفكير العربي الذي ينزع إلى تجريد ظاهرة العولمة من سياقها التاريخي والموضوعي، وتصويرها على أنها امتداد للسياسة الإمبريالية، أو أنها نتاج مؤامرة خارجية على شعوب بلدان عالم الجنوب، بما فيها الشعوب العربية.

إنّ الخطاب الرسمي العربي مُبهَمٌ حول الظاهرة، تتحكم فيه معطيات ظرفية، وعوامل ضاغطة. وبالتالي، فهو يشكو من التناقض، معلناً في أحسن الأحوال أنّ العولمة الاقتصادية قضاء وقدر لا مفرَّ منها، ولكن بشرط المحافظة على هويتنا وخصوصياتنا الحضارية. وحين تسأل عن سمات هذه الهوية ومَنْ يحددها وكيف يمكن المحافظة على الخصوصية ضمن حضارة الصورة التي تكتسح عقر بيوتنا دون استئذان؟ فإنك لا تحظى بجواب عقلاني واضح.

أمّا التيّارات العربية الرئيسية، التي تناولت الظاهرة فهي:

  1. التيار الليبرالي، ويذهب أصحابه إلى أنّ العولمة ظاهرة غير قابلة للارتداد، أو الانتكاس، وأنّ ” التوفيقية ” هي الأسلوب الإجرائي الذي يجب أن يتحكم في التعامل معها (السيد يسين).
  2. تيار قومي، قلِقٌ أمام تقلص الأهداف الكبرى للعروبة، متسائلٌ في حيرة: ما العمل أمام الظاهرة الجديدة؟ ومن أبرز مميزات أسلوب معالجته الظاهرة عدم فصلها عن الهموم العربية، وإن نسي بعضهم جوهر الموضوع بسرعة، وأسهب الحديث عن الظاهرة وأمركة العالم (عبد الإله بلقزيز…).
  3. تيار إسلامي، خلط بين العولمة وعالمية الإسلام (غسان عبد الخالق، وحسن حنفي…).
  4. تيار ماركسي، يعتمد منهج المادية التاريخية في معالجته للظاهرة، ويلتقي في ذلك مع تيار اليسار الأوروبي والأميركي. ويلمس المتتبع للكتابات حول العولمة عمق مقاربة هذا التيار المتجدد، ومحاولة الكشف عن أنساقها، وعن نتائجها. ولا غرابة في ذلك، فهم ينظرون إليها نظرة متكاملة، مستفيدين من منهج التحليل الماركسي، وبالتالي لا يهملون جوانبها السياسية والاجتماعية، خلافاً لما درج عليه الليبراليون الجدد، إذ إنهم يركزون على الجانب الاقتصادي، وإبراز لغة الأرقام.

إنّ مجابهة أخطار وتحديات، وكذلك اقتناص فرص العولمة، لا يتأتى من التنديد بها واعتبارها خطراً خارجياً داهماً، بل بالبحث عن أسباب الضعف العربي الداخلي ومعالجته جدّياً للنهوض بالقدرات العربية إلى مستوى التطورات الجديدة والتعامل معها على أساس من التكافؤ والاقتدار في الميادين المختلفة.

لقد عرّضت الثورات المعرفية والتكنولوجية والمعلوماتية العالم العربي لما يسمى بـ “صدمة المستقبل”، بكل ما تنطوي عليه من تحديات وأخطار تمسُّ الكيان العميق للعروبة. وتزداد الأخطار تأثيراً بسبب ما يعانيه الكيان العربي نفسه من عوامل الضعف المتمثلة في انتشار الأمية، وتخلّف برامج التربية والتعليم عن حاجات المجتمعات العربية ومتطلبات العصر، ونقص الحريات، وانعدام المشاركة الشعبية الحقيقية والفاعلة، وعدم شمولية السياسات الثقافية، وضعف الصناعات الثقافية، وسيادة الإعلام السطحي. فضلاً عن عوامل أخرى تتصل بالسياسات الثقافية العربية، مثل: ضعف التخطيط الثقافي، ومحدودية الاهتمام بالثقافة في النطاق العربي وبإشعاعها خارج العالم العربي وبصلاتها مع الثقافات المعاصرة.

ويطرح التوصيف السابق لواقع الثقافة في العالم العربي مجموعة تساؤلات: ماهي مشكلات الثقافة العربية؟ وهل هناك تفسير لأسبابها؟ وما هي التحديات الجديدة التي تطرحها العولمة على الثقافة عموماً وعلى ثقافتنا بشكل خاص؟ وهل نستطيع أن نبلور أسئلة تحدد أجوبتها استراتيجية ثقافية؟.

إنّ النظام الثقافي العربي ساهم، إلى حدٍّ بعيد، في إبعاد العرب عن دائرة المشاركة الفعلية في النظام الثقافي الكوني، وجعلهم أسرى الثقافة الاستهلاكية. وفي المقابل، حوّل الثقافة التراثية إلى قلاع مغلقة تحاول تسوير نفسها خوفاً من رياح التغيير، وتحتمي وراء التقليد وترديد مقولات السلف الصالح.

ولا شك أنّ أزمة الثقافة العربية هي جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة العربية من جهة، وهي من جهة ثانية، أزمة بنية ثقافية عربية تندرج في إطار بنية اقتصادية – اجتماعية متوارثة منذ عقود طويلة من الركود والتأخر والتبعية. ما يسمح لنا بأن نطرح السؤال المقلق الذي أثاره الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين: لماذا تراجع العرب وتقدم غيرهم؟ وتساؤل عبدالله العروي في كتابه “الأيديولوجية العربية المعاصرة” عن واقع الثقافة العربية، وتفسيره أزمتها بأنها أزمة وعي، أو بالأحرى أزمة انعدام الوعي بواقعها الخاص. على أنه في كتابه “مفهوم العقل” الصادر عام 1996، انتهى إلى أنّ أزمة الفكر العربي هي أزمة الفعل في منهجه العقلي، أو بالأحرى أزمة انعدام الفعل. أي أنّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة تتمثل في اختلال العلاقة بين الوعي والفعل، بين الوعي المنقوص والفعل العاجز، بين التوفيقية الملتبسة وافتقاد القدرة على الحسم؟!

وفي الواقع فإنّ أزمة الثقافة العربية تعود، في جانب أساسي منها، إلى أزمة الحامل الاجتماعي لهذه الثقافة. فمنذ بداية سبعينيات القرن الماضي بدأ المجتمع العربي يعيش أزمة جديدة تمثلت في تصدّع الفئات الوسطى، أي الفئات التي كانت الحامل الاجتماعي للثقافة العربية منذ الإخفاق العربي النهضوي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. حيث كان عقد السبعينيات بداية “المرحلة النفطية”، بداية تشكّل المجتمع العربي الاستهلاكي غير المنتج، وبداية تشكّل “الدولة الأمنية” التي أفسدت الجميع بالجميع، حتى يتحول هذا الجميع مداناً تحت الطلب.

وفي زمن العولمة، فإنّ طبيعة المخاطر المهددة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدى قدرة هذه الهوية الثقافية العربية على تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء نظام تعليمي مختلف كلياً عن النظم القائمة حالياً في أغلب الدول العربية، مختلف في مادته وفلسفته، ويقوم في الأساس على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.

وللخروج من هذه الحالة الضعيفة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لابدَّ من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية:

  1. ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حلَّ محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه.
  2. ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ إنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم مَنْ يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة، وبخاصة مجالات الإنتاج والاقتصاد. وتتطلب ثقافة الأداء والامتياز التأكيد على معنى رئيسي وهو أنّ العالم قد هجر التفاخر بالأصل، والنوع، والهوية، وجعل القيمة الحقيقية اللازمة للاحترام والهيبة هي الإنجاز.
  3. الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه بعضهم بـ “الغزو الثقافي” هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماماً، فلم تعد الاستراتيجيات الدفاعية والفصامية قادرة على إنقاذ الذات الحضارية من الهزيمة أو التبعثر، وإنما صار الأمل الحقيقي في الصمود رهنا بالتعلم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت بدءً من أنظمة الحكم ومروراً بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات.
  4. المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجاً أساسياً وعميقاً لامتصاص واستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة. فالمأسسة تعني، قبل كل شيء، الاهتمام بتمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام، وخاصة فيما يتعلق بالدور، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالملكية والسلطة. كما تعني المأسسة شيئاً من الاتصال والديمومة في أداء الوظائف.
  5. التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل “ليس سوى مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي”، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور.

وهكذا، يبدو واضحاً أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعنى أننا في أمسِّ الحاجة إلى عملية إحياء ثقافي، فالثقافة العربية الراهنة تمر في مرحلة انحطاط وردّة واضحين. فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الإسلاموي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.

وإذا كنا قد خسرنا العديد من لحظات الانتماء والفعل في التاريخ الثقافي – المعرفي الكوني، خاصة في العصر الحديث، فإننا في الوقت الراهن نقف مكتوفي الأيدي أمام ثقافة العولمة، إذ كيف نساهم في العولمة ونحن لم نحقق المعاصرة والحداثة واكتفينا بالدوران في حلقات الأصالة وحدها؟.

فبالرغم من المحاولات الجسورة لنخبة رائدة من المفكرين العرب في عصر النهضة العربية، بمرحلتيها الأولى والثانية، فإنّ العالم العربي ما زال يرسف في أغلال التقليد، ويضع قيوداً متعددة على حرية التفكير والتعبير. وإزاء هذا الواقع، كيف يمكن لنا أن نضبط آلية الحوار والتفاعل الحضاري مع قوى العولمة؟ وكيف يمكن أن نستوعب ثقافة العولمة؟ وأين يقف العالم العربي من التغيّرات العميقة التي شهدها العالم؟ وهل فهم منطق المرحلة الجديدة بمقوّماتها ومعالمها ومنطقها النوعي الجديد؟ وهل استجاب لمنطق المرحلة على الأصعدة الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الشاملة؟ وما مدى الاستجابة للمرحلة على صعيد التخطيط والتنظيم والممارسة؟.

يبدو أنّ الخطوة الأولى في محاولة التعاطي مع الأسئلة السابقة تكمن في فهم لغة الخطاب العالمي المعاصر، التي يتم التعامل بها بين أطراف هذا العالم الجديد، وخاصة القوى الغربية المؤثرة، وبالتحديد فهم توجهات هذا العالم نحونا. إذ إنّ البحث في قضية الحوار بين العالم العربي والخارج هو بحث في المستقبل، وأية دراسة للمستقبل لا بدَّ أن تنطلق من صورة العالم، ونماذج تطور النظام العالمي في أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية.

وانطلاقاً من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار مع الثقافات الأخرى، ما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج:

  1. الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى.
  2. النقد الذاتي للأنا العربية، باعتبار أنّ ذلك هو الخطوة الأولى في أي حوار حضاري جادٍّ. ونعني بذلك ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالنا الوطني.

وهنا تبرز مهمة المثقفين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الديني والسياسي، والتخلّي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقاً من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول الإمام الشافعي “رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب”.

ومما لا شك فيه أنّ عصر الحداثة لم ينغلق في نمط نهائي، بل هو في تطور متواصل، بهدف الإجابة على التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية. فهو العصر الذي حققت البشرية فيه أثمن مكاسبها وأعظم إنجازاتها في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية.

إنّ الخيار ليس متاحاً، في واقع الأمر، أمام مجتمعاتنا وشعوبنا، نتعولم أو لا نتعولم، إنما السؤال هو: هل نحن قادرون على مواجهة تحديات واقع بشري معولم لا محالة؟ وكما أنّ الخيار لم يعد متاحاً أمامنا، كذلك لا مجال أمامنا إلا أن نبدأ في استخلاص الدروس النقدية الواعية، بعقل منفتح ودون عقد أو خوف، والسعي بجدية كاملة إلى الاستيعاب الفاعل لما حدث من تحولات وإلى امتلاك القدرة على التعامل مع ما هو قادم.

وهكذا، هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض العولمة وتداعياتها؟ إنّ إصدار حكم نهائي برفض العولمة يكشف عن تعجّل في إصدار الأحكام بغير تأمل في منطق التطور التاريخي، إذ إنّ ثقافة العولمة أدخلت إلى المجتمعات البشرية سمات الحداثة والمعاصرة والتواصل والوحدة الكونية.

والمهم بالنسبة لنا أن نتدارس ونتفهم طبيعة آليات العولمة، كي نحدد ما نستطيع عمله للحدِّ من تأثيراتها السلبية واقتناص فرصها وتعظيم فوائدها. فمن الضروري السعي إلى تأسيس كتلة اقتصادية عربية موحدة، تولي اهتماماً خاصاً بالبعد الثقافي والتربوي للتنمية، إذ يمكن تسهيل انفتاح الجامعات العربية على بعضها البعض، وعقد ندوات مشتركة. شريطة أن يتمَّ ذلك في إطار التفتح وليس التزمت والانغلاق، لأنّ كل شيء منغلق لا ينفتح على الآخر سيضر بمستقبلنا
----------
سوريا المستقبل.

(*) محاضرة في إطار دورة معهد الدراسات الدولية/الجمعية التونسية للدراسات الدولية –أيلول/سبتمبر 2000.


الدكتور عبد الله تركماني
الاثنين 26 سبتمبر 2022