عندما أتعرض للإسلام السياسي بكافة تنويعاته وتلويناته في المشهد السوري اليوم فإنما يحمل هذا التعرض في طياته اعترافاً ضمنياً وصريحاً بدوره كلاعب مهم وأساسي في الشأن السوري عموماً، ومنذ 2011 خصوصاً، لاعب لا يحق لي ولا لغيري إلغاء دوره أو تهميشه بأي شكلٍ كان. كذلك فعندما أتعرض لخصوم تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مدارسهم ومشاربهم فإنني لا أنتقص أبداً من قيمة اعتراضات أي من هؤلاء على فكرٍ أو نهجٍ لا يتفقون معه، ولا حقهم في الاختلاف الفكري أو السياسي مع من يشاؤون.
الفيصل في هذه السطور هو رصد منعكسات أدوار الطرفين على ثورة الشعب السوري التي تراوحت المواقف العربية والإقليمية والدولية منها، بين انغماسٍ تام، وتخلٍ تام، وما بينهما.
الاختلاف العربي والإقليمي والدولي حول الشأن السوري لم يكن أيضاً في منأىً عن الانقسامات بين مؤيدي تيارات الإسلام السياسي وخصومهم الغربيين والإقليميين والدوليين، بل أزعم أن هؤلاء أذكوا بدورهم نار الانقسام التي كوت السوريين بلهيبها، وكأن كل ما لديهم من تعقيدات لم يكن ليكفيهم، ليصبح المشهد السوري حلبة صراعٍ بين مؤيدي وخصوم الطرفين على امتداد المنطقة كلها.
من هنا فإنه ليس من قبيل المصادفة أبداً أن اللاعب الدولي الأكثر انغماساً في الشأن السوري، وهو بلا شك روسيا، على الأقل بحكم تواجدها العسكري الضخم على الأرض السورية، كان في موقعٍ مثالي تماماً للاستفادة لأبعد حد من الصراع المحتدم بين تيارات الإسلام السياسي وخصومهم في المشهد السوري ومِن حوله، ولكن لأي مدى استطاع الروس فعلاً الاستفادة من الأمر؟ وهل؟ وكيف تم لهم ذلك؟
على شعبٍ أعزل من كل وسائل الحماية، انتصرت جحافل قيصر الأوليغارش، فلاديمير بوتين، نصراً مبيناً، لا جدال فيه، وقبل أن ينقشع غبار حربه على السوريين اكتشف عميل الكي جي بي المخضرم أن نصره الإلهي الذي باركته تعاويذ بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لا يساوي شروى نقير في حسابات الاقتصاد والسياسة الدوليين. قد يجادل أنصار بوتين في أن حربه على السوريين مكنت لبلاده موطئ قدم على المتوسط …!!
ومن قال إن الموانئ السورية كانت مغلقة بوجه الروس واحتاجت حروباً أحرقت الأخضر واليابس لفتحها أمامهم؟.
أسألُ أولئك الذين يبررون ( انتصارات ) بوتين بأنها سَهَلَت الاتفاقيات الاقتصادية التي وقعتها بلاده مع النظام في السنوات التي أعقبت تدخله العسكري في سوريا حول حقيقة جدواها مع نظامٍ فقد شرعيته منذ أن أطلق أول رصاصة على مدني في 2011، وأذكرهم بأن توقيع مثل هذه الاتفاقيات (على إجحافها بحق الطرف السوري) لم يكن في الحقيقة بحاجة لأن تشن روسيا حرباً لا هوادة فيها، وأن أي انتقال سياسي حقيقي في سوريا قد يحافظ عليها كلها، أو يلغيها بالمجمل، بما ينفي الحاجة لشن كل هذه الحروب على السوريين لأجلها بالأصل، ناهيك عن مدى ضآلة الاقتصاد السوري بمجمله مقارنةً بالاقتصاد الروسي.
أستند في قراءتي هذه لحقيقةٍ مهمة وهي أن دخول الروس الأول لسوريا خلال الحقبة السوفياتية لم يكن على يد الأسد الأب، ولا حتى على أيدي منافسيه في الجناح الأكثر يساريةً في البعث، (جناح صلاح جديد) ولا على يد البعث بالمطلق ..!!
الكل يعلم بأن الدخول (الروسي-السوفييتي) الأول لسوريا كان على يد حكومة الراحل خالد العظم، الأرستقراطي السوري الذي يمثل الاتجاه الليبرالي الاقتصادي بنموذجه الغربي، تُوِّجَ هذا الدخول بتوقيع خالد العظم ونائب رئيس الوزراء الروسي بولغانين للاتفاقية السورية-السوفيتية عام 1957 والتي قدم بموجبها الاتحاد السوفييتي معونة اقتصادية لسوريا بقيمة 300 مليون دولار (وهو رقم ضخم بحسابات تلك الفترة) بالإضافة لمساعدات صناعية وتقنية. حظيت حرب بوتين على السوريين برضىً ضمني (وربما دعم مالي) من جهات عربية كان لها ارتيابها الأكيد في الربيع العربي وخشيتها من مآلاته، ساهمت في ذلك هواجسها المزمنة من الإسلام السياسي والوقوع المريع لأغلب المعارضات السورية في فخ تنميطها على أنها تعبير عنه، الأمر الذي لم يدخر النظام وأجهزته جهداً لتأكيده، خصوصاً عند جمهور من المستمعين العرب والدوليين وافق الأمر هوىً في نفوسهم ورغبةً عميقةً لديهم في دمغ ثورة الشعب السوري بكافة أطيافه بلون الـ (أسلمة) بما يثيره من فزعٍ لديهم.
يجادل بعض أنصار بوتين في أن أحد أهم أهداف تدخله العسكري في سوريا كان الحرب على الإرهاب، والمتتبع لسيرورات القصف الجوي الروسي على السوريين سيدرك بسهولة أن أهداف هذا القصف كانت دوماً المدنيين العزَّل الذين لاحول لهم ولا قوة، وأن مواقعَ واضحةً وضوح العيان لفصائل مصنفه عالمياً على قوائم الإرهاب الدولي لم تكن يوماً ضمن أهدافه.
بالمحصلة دفع السوريون من دماء وأرواح أطفالهم وشيوخهم ونسائهم من المدنيين الآمنين الذين قضوا تحت طلعات السوخوي (المظفرة) في سماء بلداتهم وقراهم المنكوبة، وكذلك من البنية التحتية لبلدهم المجبولة بعرق وكد السوريات والسوريين، دفعوا ثمن أخطاء الإسلام السياسي من طرف، وخطايا هواجسه عند من أعيتهم الإسلاموفوبيا في الطرف المقابل.
تمثلت أخطاء الإسلام السياسي في مظاهر عديدة لعل أهمها هو أنه أقنع نفسه أولاً وجمهوره ثانياً في أنه هو صاحب الأحقية الأولى في تمثيل ثورة السوريين على الديكتاتورية بظلمها وفسادها، وفي الوقت الذي ربما كان فيه الإخوان المسلمون هم الجهة الأكثر تنظيماً وتماسكاً على الأرض في السنوات الاثنا عشر الأخيرة، إلا أن فرضية أي أحقية لهم في احتكار تمثيل حراك السوريين جميعاً لهي بعيدة عن الواقع وتفتقر للكثير من المصداقية.
تلقف (مهووسو) الإسلاموفوبيا فرضية الأحقية هذه وسخَّروا كل جهودهم الإعلامية والفكرية للتعامل معها بطريقة فذَّة ومبتكرة وهي عدم رفضها على الإطلاق بل محاولة ترسيخها وتعميمها لتصبح ثورة الشعب السوري كله بما فيها التيارات الأهلية والمدنية هدفاً لرميات وصليات أعداء الإسلام السياسي على أنها جزء من مجابهتهم له بما اعتقدوا أنه أمر لن تتطلب شرعنته كثير جهد. أعاد التاريخ القريب تكرار نفسه، ودفع السوريون مرتين ثمناً باهظاً له، فها هم الإخوان المسلمون أنفسهم الذين أعطت المراهقات الدموية لطليعتهم المقاتلة في ثمانينيات القرن الماضي نظام حافظ الأسد كل ما تمناه من أسباب ليقضي على أية معارضة لنظامه من أقصى اليسار لأقصى اليمين، باسم القضاء على تنظيم الإخوان المسلمين، ها هم الإخوان أنفسهم، في مراسهم بعد 2011 الذي اتسم بالإقصاء والشللية والكثير من المثالب، يعيدون نفس الكرَّة ويعطون المصابين برهاب الإسلاموفوبيا وعصابها كل الأسباب التي تمكنهم من الانقضاض على ثورة الشعب السوري كله بكل ما استطاعوا من عزم وتصميم.
كان واضحاً أن الطرفين النقيضين يمثلان ضرورةً حياتية لبعضهما البعض، وكان أكثر وضوحاً أن التيارات الوسطية الأهلية المدنية في الثورة السورية هي التي ستدفع ثمن صراعهما المؤلم.
النهج الفكري والمراس السياسي لجماعات الإسلام السياسي المنظمة لم يعمل فقط على إقصاء كل التيارات المدنية والأهلية الأخرى، بل طال وجوهاً ذات توجه إسلامي ولكنها ليست منضوية تحت تنظيماتهم، هذه الوجوه دفعت ثمناً مضاعفاً، فهي قد تعرضت للتهميش والإقصاء من قبلهم وبالمقابل تم دمغها كلها من قبل أعداء الإسلام السياسي على أنها إخوانية، والحقيقة أن الغلبة الغاية منها ليس لها علاقة بحركة الإخوان المسلمين، لا فكرياً ولا تنظيمياً.
الوضع عند مهووسي الإسلاموفوبيا لم يكن أحسن حالاً فهم بحجة مجابهتهم لتيارات الإسلام السياسي ونفوذها تمكنوا من تهميش وإقصاء العديد من الوجوه والتيارات الوطنية ذات التوجه الوطني المدني بل والعلماني، فقط لأنهم لم يكونوا طرفاً في أجنداتهم الخاصة بهم، ولا جزءاً من رهابهم وعصابهم الذي دفع السوريون عموماً والمعارضون خصوصاً أثماناً عالية له. أخطاء الطرف الأول ساهمت في صناعة خطايا الطرف الثاني، ودفع السوريون جميعاً ولازالوا يدفعون ثمن الأخطاء والخطايا.
ربما هو حظ السوريين العاثر الذي سخر للطرفين المتصارعين حوامل عربية وإقليمية مهمة، ففي الوقت الذي كان لتيارات الإسلام السياسي داعماً مالياً عربياً وازناً، ودولةً إقليمية مهمة ومنخرطة لأبعد الحدود في الشأن السوري، لم تعدم التيارات المعادية لهم هي أيضاً عدة داعمين عرب مهمين كان هاجس الإسلام السياسي يؤرقهم بشدة ويرسم حدود تدخلهم في الشأن السوري بما اعتقدوا أنه يلبي احتياجات أمنهم واستقرار منظومات حكمهم من خلال رؤيتهم الخاصة، لا يقدم في ذلك ولا يؤخر على الإطلاق مدى تقبلهم أو رفضهم للنظام السوري، أو لمطالب السوريين المحقة.
باختصار شديد أصبح السوريون جميعاً، نظاماً وشعباً ومعارضات، أمراً ثانوياً جداً في المشهد السوري لكافة هؤلاء اللاعبين الإقليميين.
أتى فلاديمير بوتين إلى سورية مستفيداً من كل التناقضات العربية والدولية حولها، وطمع بأن سيطرته العسكرية المحكمة عليها ربما ستضعه في موقع الوحيد القادر على فرض حلٍ فيها، وأن الغرب سيفاوضه على ذلك ليفرض أثماناً في مواقع أخرى أكثر أهمية له، ففوجئ بموقف أمريكي صارم لا يعبأ على الإطلاق بمأساة السوريين، وليس مستعداً أن يقدم لبوتين أية تنازلات في أي بقعه في العالم مقابل حل سوري تتضاءل فرص بوتين كل يوم في قدرته على اجتراحه، والأمريكان يدركون ذلك جيداً، بل وربما لا يزعجهم على الإطلاق أن يبقى بوتين مستَغرَقاً في المستنقع السوري إلى مالانهاية.
حسابات الكرملين لم تطابق حسابات البيدر، ويعلم بوتين اليوم علم اليقين أن فرصته الوحيدة في إعطاء (نصره) الماحق في سورية معنىً حقيقياً ملموساً تكمن في أمرٍ واحدٍ فقط، إعادة الإعمار، هذه العملية السحرية التي يسيل لها لعاب بوتين اليوم، يعلم تماماً أن الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً لن تدعم إطلاقها دون البدء بعملية تغيير سياسي حقيقي في سوريا أزعم أن هناك مبالغة كبرى في تخيل قدرة بوتين على ضمان ظروف نجاحها. السؤال المفصلي اليوم هو:
هل يستطيع فلاديمير بوتين الذي استفاد من كل التناقضات السورية والعربية والإقليمية، خصوصاً بين تيار الإسلام السياسي في الربيع العربي وخصومه (وما أكثرهم)، أن يخترع وصفة (راسبوتينية) فذَّة يجمع فيها النقيضين لاجتراح حل سياسي ما، يفي بشروط واشنطن والغرب لإطلاق
عملية إعادة إعمار يحتاجها بشدةد
-------------
الناس نيوز
الفيصل في هذه السطور هو رصد منعكسات أدوار الطرفين على ثورة الشعب السوري التي تراوحت المواقف العربية والإقليمية والدولية منها، بين انغماسٍ تام، وتخلٍ تام، وما بينهما.
الاختلاف العربي والإقليمي والدولي حول الشأن السوري لم يكن أيضاً في منأىً عن الانقسامات بين مؤيدي تيارات الإسلام السياسي وخصومهم الغربيين والإقليميين والدوليين، بل أزعم أن هؤلاء أذكوا بدورهم نار الانقسام التي كوت السوريين بلهيبها، وكأن كل ما لديهم من تعقيدات لم يكن ليكفيهم، ليصبح المشهد السوري حلبة صراعٍ بين مؤيدي وخصوم الطرفين على امتداد المنطقة كلها.
من هنا فإنه ليس من قبيل المصادفة أبداً أن اللاعب الدولي الأكثر انغماساً في الشأن السوري، وهو بلا شك روسيا، على الأقل بحكم تواجدها العسكري الضخم على الأرض السورية، كان في موقعٍ مثالي تماماً للاستفادة لأبعد حد من الصراع المحتدم بين تيارات الإسلام السياسي وخصومهم في المشهد السوري ومِن حوله، ولكن لأي مدى استطاع الروس فعلاً الاستفادة من الأمر؟ وهل؟ وكيف تم لهم ذلك؟
على شعبٍ أعزل من كل وسائل الحماية، انتصرت جحافل قيصر الأوليغارش، فلاديمير بوتين، نصراً مبيناً، لا جدال فيه، وقبل أن ينقشع غبار حربه على السوريين اكتشف عميل الكي جي بي المخضرم أن نصره الإلهي الذي باركته تعاويذ بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لا يساوي شروى نقير في حسابات الاقتصاد والسياسة الدوليين. قد يجادل أنصار بوتين في أن حربه على السوريين مكنت لبلاده موطئ قدم على المتوسط …!!
ومن قال إن الموانئ السورية كانت مغلقة بوجه الروس واحتاجت حروباً أحرقت الأخضر واليابس لفتحها أمامهم؟.
أسألُ أولئك الذين يبررون ( انتصارات ) بوتين بأنها سَهَلَت الاتفاقيات الاقتصادية التي وقعتها بلاده مع النظام في السنوات التي أعقبت تدخله العسكري في سوريا حول حقيقة جدواها مع نظامٍ فقد شرعيته منذ أن أطلق أول رصاصة على مدني في 2011، وأذكرهم بأن توقيع مثل هذه الاتفاقيات (على إجحافها بحق الطرف السوري) لم يكن في الحقيقة بحاجة لأن تشن روسيا حرباً لا هوادة فيها، وأن أي انتقال سياسي حقيقي في سوريا قد يحافظ عليها كلها، أو يلغيها بالمجمل، بما ينفي الحاجة لشن كل هذه الحروب على السوريين لأجلها بالأصل، ناهيك عن مدى ضآلة الاقتصاد السوري بمجمله مقارنةً بالاقتصاد الروسي.
أستند في قراءتي هذه لحقيقةٍ مهمة وهي أن دخول الروس الأول لسوريا خلال الحقبة السوفياتية لم يكن على يد الأسد الأب، ولا حتى على أيدي منافسيه في الجناح الأكثر يساريةً في البعث، (جناح صلاح جديد) ولا على يد البعث بالمطلق ..!!
الكل يعلم بأن الدخول (الروسي-السوفييتي) الأول لسوريا كان على يد حكومة الراحل خالد العظم، الأرستقراطي السوري الذي يمثل الاتجاه الليبرالي الاقتصادي بنموذجه الغربي، تُوِّجَ هذا الدخول بتوقيع خالد العظم ونائب رئيس الوزراء الروسي بولغانين للاتفاقية السورية-السوفيتية عام 1957 والتي قدم بموجبها الاتحاد السوفييتي معونة اقتصادية لسوريا بقيمة 300 مليون دولار (وهو رقم ضخم بحسابات تلك الفترة) بالإضافة لمساعدات صناعية وتقنية. حظيت حرب بوتين على السوريين برضىً ضمني (وربما دعم مالي) من جهات عربية كان لها ارتيابها الأكيد في الربيع العربي وخشيتها من مآلاته، ساهمت في ذلك هواجسها المزمنة من الإسلام السياسي والوقوع المريع لأغلب المعارضات السورية في فخ تنميطها على أنها تعبير عنه، الأمر الذي لم يدخر النظام وأجهزته جهداً لتأكيده، خصوصاً عند جمهور من المستمعين العرب والدوليين وافق الأمر هوىً في نفوسهم ورغبةً عميقةً لديهم في دمغ ثورة الشعب السوري بكافة أطيافه بلون الـ (أسلمة) بما يثيره من فزعٍ لديهم.
يجادل بعض أنصار بوتين في أن أحد أهم أهداف تدخله العسكري في سوريا كان الحرب على الإرهاب، والمتتبع لسيرورات القصف الجوي الروسي على السوريين سيدرك بسهولة أن أهداف هذا القصف كانت دوماً المدنيين العزَّل الذين لاحول لهم ولا قوة، وأن مواقعَ واضحةً وضوح العيان لفصائل مصنفه عالمياً على قوائم الإرهاب الدولي لم تكن يوماً ضمن أهدافه.
بالمحصلة دفع السوريون من دماء وأرواح أطفالهم وشيوخهم ونسائهم من المدنيين الآمنين الذين قضوا تحت طلعات السوخوي (المظفرة) في سماء بلداتهم وقراهم المنكوبة، وكذلك من البنية التحتية لبلدهم المجبولة بعرق وكد السوريات والسوريين، دفعوا ثمن أخطاء الإسلام السياسي من طرف، وخطايا هواجسه عند من أعيتهم الإسلاموفوبيا في الطرف المقابل.
تمثلت أخطاء الإسلام السياسي في مظاهر عديدة لعل أهمها هو أنه أقنع نفسه أولاً وجمهوره ثانياً في أنه هو صاحب الأحقية الأولى في تمثيل ثورة السوريين على الديكتاتورية بظلمها وفسادها، وفي الوقت الذي ربما كان فيه الإخوان المسلمون هم الجهة الأكثر تنظيماً وتماسكاً على الأرض في السنوات الاثنا عشر الأخيرة، إلا أن فرضية أي أحقية لهم في احتكار تمثيل حراك السوريين جميعاً لهي بعيدة عن الواقع وتفتقر للكثير من المصداقية.
تلقف (مهووسو) الإسلاموفوبيا فرضية الأحقية هذه وسخَّروا كل جهودهم الإعلامية والفكرية للتعامل معها بطريقة فذَّة ومبتكرة وهي عدم رفضها على الإطلاق بل محاولة ترسيخها وتعميمها لتصبح ثورة الشعب السوري كله بما فيها التيارات الأهلية والمدنية هدفاً لرميات وصليات أعداء الإسلام السياسي على أنها جزء من مجابهتهم له بما اعتقدوا أنه أمر لن تتطلب شرعنته كثير جهد. أعاد التاريخ القريب تكرار نفسه، ودفع السوريون مرتين ثمناً باهظاً له، فها هم الإخوان المسلمون أنفسهم الذين أعطت المراهقات الدموية لطليعتهم المقاتلة في ثمانينيات القرن الماضي نظام حافظ الأسد كل ما تمناه من أسباب ليقضي على أية معارضة لنظامه من أقصى اليسار لأقصى اليمين، باسم القضاء على تنظيم الإخوان المسلمين، ها هم الإخوان أنفسهم، في مراسهم بعد 2011 الذي اتسم بالإقصاء والشللية والكثير من المثالب، يعيدون نفس الكرَّة ويعطون المصابين برهاب الإسلاموفوبيا وعصابها كل الأسباب التي تمكنهم من الانقضاض على ثورة الشعب السوري كله بكل ما استطاعوا من عزم وتصميم.
كان واضحاً أن الطرفين النقيضين يمثلان ضرورةً حياتية لبعضهما البعض، وكان أكثر وضوحاً أن التيارات الوسطية الأهلية المدنية في الثورة السورية هي التي ستدفع ثمن صراعهما المؤلم.
النهج الفكري والمراس السياسي لجماعات الإسلام السياسي المنظمة لم يعمل فقط على إقصاء كل التيارات المدنية والأهلية الأخرى، بل طال وجوهاً ذات توجه إسلامي ولكنها ليست منضوية تحت تنظيماتهم، هذه الوجوه دفعت ثمناً مضاعفاً، فهي قد تعرضت للتهميش والإقصاء من قبلهم وبالمقابل تم دمغها كلها من قبل أعداء الإسلام السياسي على أنها إخوانية، والحقيقة أن الغلبة الغاية منها ليس لها علاقة بحركة الإخوان المسلمين، لا فكرياً ولا تنظيمياً.
الوضع عند مهووسي الإسلاموفوبيا لم يكن أحسن حالاً فهم بحجة مجابهتهم لتيارات الإسلام السياسي ونفوذها تمكنوا من تهميش وإقصاء العديد من الوجوه والتيارات الوطنية ذات التوجه الوطني المدني بل والعلماني، فقط لأنهم لم يكونوا طرفاً في أجنداتهم الخاصة بهم، ولا جزءاً من رهابهم وعصابهم الذي دفع السوريون عموماً والمعارضون خصوصاً أثماناً عالية له. أخطاء الطرف الأول ساهمت في صناعة خطايا الطرف الثاني، ودفع السوريون جميعاً ولازالوا يدفعون ثمن الأخطاء والخطايا.
ربما هو حظ السوريين العاثر الذي سخر للطرفين المتصارعين حوامل عربية وإقليمية مهمة، ففي الوقت الذي كان لتيارات الإسلام السياسي داعماً مالياً عربياً وازناً، ودولةً إقليمية مهمة ومنخرطة لأبعد الحدود في الشأن السوري، لم تعدم التيارات المعادية لهم هي أيضاً عدة داعمين عرب مهمين كان هاجس الإسلام السياسي يؤرقهم بشدة ويرسم حدود تدخلهم في الشأن السوري بما اعتقدوا أنه يلبي احتياجات أمنهم واستقرار منظومات حكمهم من خلال رؤيتهم الخاصة، لا يقدم في ذلك ولا يؤخر على الإطلاق مدى تقبلهم أو رفضهم للنظام السوري، أو لمطالب السوريين المحقة.
باختصار شديد أصبح السوريون جميعاً، نظاماً وشعباً ومعارضات، أمراً ثانوياً جداً في المشهد السوري لكافة هؤلاء اللاعبين الإقليميين.
أتى فلاديمير بوتين إلى سورية مستفيداً من كل التناقضات العربية والدولية حولها، وطمع بأن سيطرته العسكرية المحكمة عليها ربما ستضعه في موقع الوحيد القادر على فرض حلٍ فيها، وأن الغرب سيفاوضه على ذلك ليفرض أثماناً في مواقع أخرى أكثر أهمية له، ففوجئ بموقف أمريكي صارم لا يعبأ على الإطلاق بمأساة السوريين، وليس مستعداً أن يقدم لبوتين أية تنازلات في أي بقعه في العالم مقابل حل سوري تتضاءل فرص بوتين كل يوم في قدرته على اجتراحه، والأمريكان يدركون ذلك جيداً، بل وربما لا يزعجهم على الإطلاق أن يبقى بوتين مستَغرَقاً في المستنقع السوري إلى مالانهاية.
حسابات الكرملين لم تطابق حسابات البيدر، ويعلم بوتين اليوم علم اليقين أن فرصته الوحيدة في إعطاء (نصره) الماحق في سورية معنىً حقيقياً ملموساً تكمن في أمرٍ واحدٍ فقط، إعادة الإعمار، هذه العملية السحرية التي يسيل لها لعاب بوتين اليوم، يعلم تماماً أن الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً لن تدعم إطلاقها دون البدء بعملية تغيير سياسي حقيقي في سوريا أزعم أن هناك مبالغة كبرى في تخيل قدرة بوتين على ضمان ظروف نجاحها. السؤال المفصلي اليوم هو:
هل يستطيع فلاديمير بوتين الذي استفاد من كل التناقضات السورية والعربية والإقليمية، خصوصاً بين تيار الإسلام السياسي في الربيع العربي وخصومه (وما أكثرهم)، أن يخترع وصفة (راسبوتينية) فذَّة يجمع فيها النقيضين لاجتراح حل سياسي ما، يفي بشروط واشنطن والغرب لإطلاق
عملية إعادة إعمار يحتاجها بشدةد
-------------
الناس نيوز