نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


الديمقراطية في سورية




الديمقراطية في سورية.. دور النخبة في صعودها وأفولها.. العلاقة بين التنمية والديمقراطية


تربط الكثير من الدراسات المتخصصة في ما يسمى "التحول الديمقراطي" بين القيم الثقافية لمجتمع من المجتمعات وبين صيرورة العملية الديمقراطية، فاستقرار مفاهيم من مثل التعددية والفردانية والمواطنة وحقوق الإنسان والمساواة داخل القيم العميقة للمجتمع يُعد عاملاً حاسماً لجهة التحول الآمن لهذا المجتمع نحو الديمقراطية. بدون ذلك ربما لن تستطيع "الديمقراطية الوليدة" أو الناشئة أن يتصلب عودها بدون وقتٍ طويل من الصراعات والشد والجذب بين مناصريها وأعدائها والتي ربما تتجلى في نزاعاتٍ مسلحة أهلية أو طائفية وضعف المؤسسات الشرعية والدستورية، وربما أخطر من كل ذلك فقدان الأمن الشخصي للمواطن بما يعني فقدان استقرار المجتمع والدولة معاً.
 
فالنظام الديمقراطي إذاً يكون أكثر أماناً عندما تكون بناه وسيرورته منسجمة مع القيم الشعبية العامة والنخبوية أكثر منها متصادمة. 
لكن، ربما ينقلنا هذا إلى تلك الثنائية التاريخية التي سادت فترةً لا بأس بها واستقرت داخل وعي النخب العربية وتتعلق بالربط بين السيرورة الديمقراطية ودرجة التطور الاقتصادي، وذلك عبر الربط بين درجة تطور الوعي الثقافي وبين الديمقراطية. 
لابد من القول –في البداية- إلى أن معظم الدراسات الجدية أشارت إلى وجود علاقة متبادلة إيجابية بين التطور الاقتصادي والديمقراطية وبحسب تعبير لبيسيت "كلما كان حال الأمة أفضل كانت فرص تعزيز الديمقراطية أعظم، وقد برهن ليبسيت على أن الديمقراطيات عموماً تكون أقرب لأن يكون مستوى تطورها الاقتصادي أعلى من اللاديمقراطيات. 
وقد تابعه فيما بعد الكثير من الباحثين سيما أولئك الذين احتفظوا بانتقادات جادة للديمقراطية انطلاقاً من المنهج الاقتصادي أو الماركسي، لكن، سيفل ووينستين وهالبرين حاولوا إعادة قلب المعادلة وإعادة طرح النظرية بمنطقٍ مختلف وهي "لكي تتطور الدول الفقيرة اقتصادياً ينبغي عليها أن تصبح ديمقراطية"، فقد نمت الديموقراطيات الفقيرة بسرعة توازي على الأقل سرعة نمو الأوتوقراطيات الفقيرة وتفوقت عليها في الأداء تفوقاً كبيراً حسب معظم مؤشرات الرفاهية الاجتماعية، كما تفوقت هذه الديمقراطيات كثيراً في مجال تجنب الكوارث. 
 
وهكذا يناقض سيفل ورفاقه النظرية القائمة على أسطورة "التنمية أولاً" التي نادى بها كما قلنا من قبل سيمور مارتن ليبسيت قبل خمسٍ وأربعين عاماً، معتبرين أن هذه النظرية أدت أولاً إلى تخليد الاستبداد، كما أنها أعطت مبرراً حقيقياً للغرب لمساندة الحكومات الاستبدادية التي كانت خارج سيطرة الاتحاد السوفيتي ليحول دون تحولها إلى شيوعية، وكتبرير قائم على أن الحكم السلطوي يخلق بنية اقتصادية وصناعية قوية في بيئة اجتماعية وثقافية هشة. بيد أن السجل الاقتصادي السيء للحكومات العسكرية في دول أمريكا اللاتينية والحكومات الدكتاتورية في أفريقيا والدول الشيوعية في أوربا الشرقية وآسيا أسقط الهالة النظرية التي أحاطت بنجاح بعض الأوتوقراطيات في شرق آسيا خاصةً في سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وحديثاً الصين، فارتفاع نسب الفقر إلى درجة السقوط في المجاعة والإخفاق في السيطرة على نسب البطالة والفشل الصحي المتمثل في انتشار الأمراض الوبائية والجائحة جعل الكثير من الباحثين ينتهون بعد مقارنة طويلة بين الدول الديمقراطية ذات الدخل المنخفض وبين نمو الدول ذات المنخفض وتحكمها حكومات سلطوية إلى أن الديمقراطيات ذات الدخل المنخفض قد نمت بالمتوسط بسرعة توازي سرعة نمو الأوتوقراطيات ذات الدخل المنخفض خلال الأربعين سنة ماضية، كما أن متوسط معدلات نمو الدخل الفردي في الديمقراطيات الفقيرة كان أعلى بخمسين في المائة من مثيلاته في الأوتوقراطيات الفقيرة، فالبلدان التي اختارت الطريق الديمقراطي مثل جمهورية الدومينيكان، والهند ولاتافيا وموزامبيق والسنغال قد سبقت نظيراتها الأوتوقراطية مثل أنغولا، وجمهورية الكونغو، وأوزبكستان، وزيمبابوي، وتصبح الأفضلية هذه أكثر وضوحاً عندما ينتقل النقاش من معدلات النمو إلى المقاييس الأوسع للرفاهية من حيث قياس المؤشرات الاجتماعية مثل متوسط الأعمار المتوقعة، وتوفير ماء الشرب النقي، ومعدلات التعليم، وناتج الغلال الزراعية، ونوعية الخدمات الصحية العامة. 
 
وبذلك يمكن القول بثقة إن الفرضية القائمة على جدلية "التنمية أولاً"، والتي تزعم أن الديمقراطية ستتبع آخر الأمر التقدم الاقتصادي، وبالتحديد حين يصل مستوى الدخل إلى المستوى المتوسط مما يدعم بناء الطبقة الوسطى، وهو بدوره سيجعل عدد متزايد من المواطنين رفيعي الثقافة يطالب بمشاركة سياسية أكبر وهو ما سيقود في النهاية إلى تحول ديمقراطي ناجح، هذه النظرية منيت بفشل ذريع لأن عددا محدودا جدا فقط من هذه الدول السلطوية قد استطاع بلوغ مستوى الدخل المتوسط من بينها اسبانيا والبرتغال واليونان والتي يعود تحوّلها الديمقراطي إلى أسباب أوسع بكثير من تأثير نخبة طبقتها الوسطى، وهذا يعني أن الدول ذات الأنظمة السلطوية لم تفشل فقط في تحقيق المشاركة السياسية وبناء المؤسسات الدستورية المستقرة وإنما فشلت أيضاً في تحقيق النمو الاقتصادي الذي تتذرع به من أجل عدم تحقيق الديمقراطية. 
يعيد سيفل ورفاقه ذلك إلى عدد من الأسس المفاهيمية الرئيسية أولها لأن الديمقراطيات الفقيرة تتفوق في أدائها على الحكومات السلطوية لأن مؤسساتها تخول اقتسام السلطة مما يشجع على الانفتاح والتكيف، فتأثير القواعد الشعبية على النخب الحاكمة ينعكس بشكل جلي في تحسين البرامج الاقتصادية والتنموية لأن العلاقة قائمة على المحاسبة والمساءلة وليس على المحسوبية الضيقة التي تعطي حافز ضئيل لذوي السلطة في التركيز على رفاهية المجتمع، فالمّيزة التنموية تتحقق في الديمقراطية اعتباراً من مبدأ المراجعة والموازنة Checks and balances أي مراجعة كل مؤسسة من مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية للأخرى بغية الوصول إلى نقطة موازنة لخدمة المصالح العامة. 
أما الأنظمة السلطوية فإن الاحتكار السياسي غالباً أو دائماً ما يتحول إلى احتكار اقتصادي مما يضعف المنافسة والابتكار وهو ما يشلّ في النهاية الفعالية الاقتصادية. 
 
ثاني هذه الأسس يعود إلى انفتاح الديمقراطيات على تدفق المعلومات وبالتالي قدرة القادة والجمهور معاً على الأخذ بعين الاعتبار بنطاق واسع من الخيارات ما يعزز السياسات الفعالة ذات الكفاءة والمعدلة حسب الطلب، فالتطوير هو تمرين لتعليم المواطنين، وبالتالي تكون القدرة على تصويب الأخطاء أكبر، مما يعني أن الفرصة نحو الانتقال باتجاه الخيارات الأمثل هي أكبر بكثير من الحكومات السلطوية التي تدار وفق آلية عمل المنظمات السرية مما يضعف القدرة على التصحيح ويفتح الباب بشكلٍ أوسع نحو الدخول في سلسلة لا متناهية من الأخطاء التي غالباً ما تنتهي بالكوارث السياسية والاقتصادية. 
وهكذا إذا كانت أسطورة "التنمية أولاً" أو ما يسمى "الديمقراطية الاجتماعية" قد فشلت رغم طول عمرها الزمني في إنجاز ما سعت إليه على مستوى تحقيق التنمية الاقتصادية أولاً ثم الديمقراطية ثانياً، فهل تكون العلاقة الجدلية بين"القيم الثقافية" وبين الديمقراطية محاولة أخرى لافتعال ثنائية تستهدف تبرير فشل تحقيق الديمقراطية عملياً.
لقد استخدم الكثير من الباحثين هذا المنهج التفسيري في تحليل غياب الديمقراطية أو تطورها عند الكثير من المجتمعات غير الغربية وخاصةً العربية. وقد كان أحد مكونات هذا الاتجاه في الأدبيات الغربية، يركز على مجموعة خصائص وصفات للشعوب العربية، ومنها: النفاق واللاعقلانية والأعراف المتعلقة بالشرف، وهي صفات وقيم تتناقض بمجملها مع الديمقراطية، وقد يعيد البعض ذلك إلى "الإسلام" بوصفه ديناً لا ينسجم مع الفكرة الديمقراطية لأنه لا يفصل بين الروحي والزمني.
بيد أن وجهة النظر هذه تنظر إلى الثقافة أو حتى القيم نظرة سكونية قارّة غير قابلة للتبدل والتحول ولا تحاول النفاذ إلى الأصول الاجتماعية والسياسية التي أتاحت لمثل هذه القيم الظهور ، هذا إذا سلمنا جدلاً بمركزيتها وتأثيرها المحوري في الثقافة العربية، مما جعلها تسود وتشكل بؤرة أو حلقة تنطلق النظرة السياسية العربية منها. 
 
فالقيم ترتبط بعلاقة وثيقة بالمناخ السياسي السائد الذي يمكن أن يفرض شكلاً من احترام القانون أو النظام ويمكن أن يشجع على إشاعة فكرة الفساد والمحسوبية، ويمكن أن يعزز المساءلة وما يرتبط بها من قيم النزاهة والمسؤولية ويمكن أن كون بيئة خصبة لنمو قيم التحلل والهدر وانعدام المسؤولية وعدم حرمة المال العام، هناك إذاً صلة عضوية جعلت الكثير من الباحثين يرهنون عملية التحول الديمقراطي بنمو فكرة المجتمع المدني كعامل حاسم، بحيث أن قوى المجتمع المدني الصاعدة تلك الحاملة لقيم مختلفة عن تلك التي أشاعها النظام التسلطي القائم من شأنها أن تقود أو توجه مرحلة التحول الشعبي والنخبوي باتجاه نمط جديد من القيم قائمة على المواطنة والحرية والمساواة والمسؤولية والتعددية ولذلك تعد العلاقة القائمة بين النظام والمجتمع ذات دور حساس ومحوري في توجيه عملية التحول الديمقراطي، فإذا كان المجتمع مخترقاً مفككاً، أي أن قوى المجتمع المدني ضعيفة غير متطورة فإن الضغط المنظم على النظام من جانب المجتمع يكون قليلاً أو محدوداً نسبياً، ويكون الضغط من أسفل باتجاه الديمقراطية ضعيف وغالباً ما لا يكون لغياب آليات حل خلافات النخبة الحاكمة ذات شأن على مصير النظام. فيمكن أن تؤدي تلك الخلافات إلى تغيير في تركيبة هذه النخبة، وحتى يمكن أن تقود إلى تغيير النظام لكن ذلك سيكون على الأرجح مجرد استبدال نظام سلطوي بآخر مثله. 
ولكن حينما تتمكن قوى المجتمع المدني من التطور، ولا سيما في شكل أحزاب سياسية مدعومة بشبكة واسعة من هذه المنظمات العامة والخاصة، وكانت مؤهلة أو قادرة على ممارسة ضغط على النظام وذلك عبر امتلاكها بنى تنظيمية متطورة فعلاً وقاعدة جماهيرية مع وسائل أو آليات واضحة لاستقطاب آراء هذه القاعدة وإطلاقها على المسرح السياسي، فإن مقدرتها تكون على التأثير على مسارات التطورات داخل النظام مرتفعة ومتعززة. 
فحضور قوى مجتمع مدني من هذا النوع يجعل الخوف من عواقب تجاهلها مدمراً، مما يشجع معظم الإصلاحيين للسعي لإحداث تغيير يقود في النهاية إلى تحول ديمقراطي، ويعتبر التحول الديمقراطي في إسبانيا عبر الضغط من قوى المجتمع المدني حالة نموذجية على هذا النمط من التحول. 
وذلك عندما رأى الحكام أنهم لا يستطيعون البقاء في السلطة، في المحيط الأوروبي، دون استخدام مكثف للعنف، في حين لا يستطيع أولئك المعارضون للنظام، على الأقل في الوقت الراهن، تعبئة قوة كافية لإسقاطه، نظراً لموالاة القوات المسلحة للنظام، وهو ما خلق سلسلة من الضغوطات وردود الفعل المضادة تدعى "بلولب القمع والتنازلات"، إلى أن قاد ذلك في النهاية القيادة الإصلاحية في النظام، وبخاصة رئيس الوزراء سواريث والملك، إلى القيام بعملية التغيير والتحول الضرورية بالحفاظ على نمط حساس ودقيق من التوازنات تجلت في إبقاء كل العناصر المحافظة في النظام والعناصر الأكثر راديكالية في القيادة المعارضة ضمن حدود العملية الواضحة لتغيير النظام باتجاه نظام ديمقراطي. 
لكن، ماذا سيكون عليه الحال إن كان المجتمع المدني جنينياً أو حتى في حالات أخرى معدوماً أو مشلولاً عن الحركة والفعل خاصة في حالات الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية) Totaliarianisme حسب تعبير حنة آرنت التي تسيطر الأنظمة الحاكمة فيها على كل مجالات وحقول الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والأهلية وبالطبع السياسية، كما يتميز هذا النظام بقيادة لا حدود ولا ضوابط لصلاحياتها وسلطتها بحيث لا يمكن لأحد، سواء أكان مسؤولاً في النظام أو مواطناً عادياً، التنبؤ بما قد يحصل، ويترافق ذلك مع نمط من التعبئة الشعبية الكاريزمية التي تستهدف تفريغ النشاط الشعبي العام وجعله مسيطر عليه تماماً عبر التأكيد المستمر أن لا تعبئة شعبية على أساس مستقل، بحيث يجري ضرب كل أشكال التنظيم المستقل وتطبيق قمع شديد وقاس لها، سيما تلك التي تحمل أملاً في بلورة اتجاه سياسي حقيقي مستقل، وقد انطبق ذلك بحدودٍ ما على كلٍ من العراق وسوريا وليبيا ومصر في فترةٍ من الفترات. 
ولذلك غالباً ما تكون "الثقافة السائدة" أو "القيم الموجهة" متصفة بالسلبية والعجز بل أحياناً بالعنف والإقصاء والرفض، بحكم أن المجتمع المغلق غالباً ما يكون تربة خصبة لنمو ثقافة الرفض كنمط من أنماط الحماية تجاه النظام السلطوي القائم، وهو لذلك يرتد إلى روابطه ما قبل المدنية القبلية والعائلية والطائفية ويحتمي بها كحصنٍ أخير ما دامت كل الروابط المدنية الحقوقية والسياسية والفكرية قد جرى تدميرها وتحطيمها من قبل النظام الحاكم. 
 
وهنا تكون عملية التحول الديمقراطي مسألة في غاية الصعوبة والحساسية، فمن المعروف أن البلدان التي لم يدمر الحكم السلطوي فيها قوى المجتمع المدني تكون فرص التحول السريع إلى الديمقراطية فيها أعظم بكثير من تلك البلدان التي إما سحقت فيها هذه القوى أو تنقصها القوة والحيوية لتبدأ فعلها، ففي البلدان الأخرى التي اتسمت قوى المجتمع المدني فيها بالقدرة على استعادة حيويتها ووحدتها من خلال بقاء قاعدة المجتمع المدني سليمة من حيث الجوهر كما في أوربا الجنوبية وخاصةً إسبانيا واليونان والبرتغال حيث كان الضغط الشعبي أكثر بروزاً، مقارنةً مع مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية التي كانت قوى المجتمع المدني فيها أقل رسوخاً.
ولذلك غالباً ما يسود شكل من أشكال الثقافة الانقسامية أو التجزيئية لا على أسس سياسية وإنما بناءً على اعتبارات دينية أو طائفية أو عرقية أو إثنية بحيث تصبح هذه الانقسامات أشبه بالكانتونات المعزولة غير القابلة للتجاور أو الحوار، وتكون المشتركات الوطنية الجامعة بين مختلف هذه الأطراف في حدها الأدنى، هذا إن لم تنعدم في بعض الأحيان ويكون ذلك مؤشراً على بداية الدخول في حرب أهلية طويلة ومزمنة لا يكون الخروج منها سياسيا أو تعاقدياً إلا وفق منطق "الإنهاك المتبادل"، إذ تشعر الأطراف جميعها بوصولها إلى نقطة القاع النهائية من حيث القدرة على تحمل الآلام والعذابات المستمرة والدائمة، ولذلك تضطر إلى الدخول في مفاوضات مع الأطراف الأخرى للوصول إلى مخرج أو حل سياسي غالباً ما يعكس "توازن الضعف" الذي وصلت إليه الأطراف جميعها.
 
دور النخب السورية في صعود وأفول الديمقراطية خلال التاريخ السوري:
فضلاً عن دور المجتمع المدني الرئيسي في عملية التحول "الآمن" نحو الديمقراطية، فإن عملية التحول الديمقراطي ترتبط بعدد من القيم من مثل العقلانية والتعددية والمساواة بين الجنسين والمواطنة، وهي بمجملها تشكل المدخل الضروري لتحول نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي، حيث تعتبر هذه القيم بمثابة الإطار النظري التي تحمي عملية التحول من الانزلاق باتجاه نظام عسكري أو الانتقال نحو نمط من الفوضى التي تهز استقرار البلد وتضعف أمانة. 
وبرأيي أن العامل الرئيس الذي يمكن التركيز عليه كمحدد لدراسة الديمقراطية في المنطقة العربية عموماً وفي سورية تحديداً هو دور النخب في صعود الفكرة الديمقراطية وفي إخفاقها، فللنخب دور مركزي في التحول باتجاه نظام ديمقراطي، إذ ليس بالضرورة تقود كل عمليات التحول من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية بشكل آلي وعفوي، إذ ربما تنتقل هذه النظم إلى نمط من الحكم العسكري أو أنها تسقط في فخ الحكم الثيوقراطي لرجال الدين إذا افتقدت القوى السياسية للمبادرة وكان لرجال الدين فيها الصوت الأقوى داخل المجتمع. 
تستند سوريا على إرث من التعددية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وشهدت فترة عقب حصولها على الاستقلال السياسي عام 1946 كانت غنية بالنقاشات الحيوية بين النخب السياسية والأحزاب السياسية ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة، فقد حظيت بدستور يعتبر من أوائل الدساتير في المنطقة العربية التي أتاح الحريات العامة ضمن المساواة بين الجنسين وحفظ الحقوق الأساسية للمواطنين في الكثير من مواده. 
كما منح حق التصويت للمرأة في عام 1949وحق الترشح في عام 1953 أي قبل إقرار هذا الحق بزمن طويل في الكثير من الدول الأوربية كالسويد مثلاً، وبنفس الوقت تمتعت سوريا بنظام برلماني تعددي وبصحافة حرة كانت تعبر عن مختلف شرائح وفئات المجتمع السوري على تعددها وتنوعها العرقي والطائفي والإقليمي. 
صحيح أن ذلك لم يعمّر طويلاً مع دخول سوريا في نمط من الانقلابات العسكرية المتتالية منذ الانقلاب الأول في عام 1949 إلا أنه شكل مخزوناً وإرثاً ديمقراطياً ما زال يفخر به الكثير من السوريين ويعد ملهماً للكثير من الديمقراطيين والسياسيين المعارضين لاستعادته كدليل على قدرة سوريا دولة ومجتمعاً على العيش بمنجزات الديمقراطية وميزاتها. 
 
لقد حصلت سوريا على استقلالها التام في 17نيسان/أبريل1946، وقد كان معظم مثقفيها وسياسييها يتوزع بين أحزاب أيديولوجية متنافسة كحزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين والحزب السوري القومي الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى الأحزاب التي تفرعت عن الكتلة الوطنية التي كان لها الدور الأبرز في نيل الاستقلال كالحزب الوطني وحزب الشعب ذوي الاتجاه الليبرالي الوطني، وقد كان للمثقفين الدور البارز في إنشاء هذه الأحزاب وتأسيسها، حتى يمكن القول إن المثقفين هم الذين صنعوا المجال العمومي للسياسة وحددوا أُطره وميادينه بوصفها السبيل أو الطريق الأسهل للوصول إلى السلطة وامتلاك الدولة القادرة على تحقيق طموحه في بناء الدولة الاشتراكية أو الشيوعية أو الإسلامية أو تحقيق الوحدة العربية الشاملة، لم يكن للدولة حينها في مدارك المثقفين السوريين سوى فهم وظيفي بوصفها أداة لتحقيق الغايات الأيديولوجية، لقد غاب مفهوم الدولة بمعناها المؤسساتي العميق لحساب مفهوم الدولة ـالأداة التي ستُختصر في ما بعد إلى الدولةـ الجهاز.
في تلك الفترة بدأت الأحزاب ذات الإرث الوطني في الاستقلال تهبط شعبيتها وتنحدر في حين كانت الأحزاب الأيديولوجية (القومية والشيوعية والدينية) يزداد حضورها ويطغى على غيرها، يصح ذلك على حزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمون والحزب السوري القومي الاجتماعي.
لقد لعبت جميع هذه الأحزاب الأيديولوجية التي قادها مثقفون بارزون في ما أسماه باتريك سيل "إسقاط الوطنيين القدامى" أي رجال الاستقلال، كشكري القوتلي وفارس الخوري ولطفي الحفار وصبري العسلي وغيرهم.
مما فتح الباب واسعاً أمام الصعود "النسبي" للأحزاب الأيديولوجية التي كان يقودها مثقفون سياسيون منخرطون في الأحزاب العقائدية، غير أن الفوضى السياسية الناتجة عن عدم الاستقرار و عدم القدرة على "التواطؤ" على عقد وطني يجمع بين كافة الأحزاب والكتل البرلمانية أدى إلى استقالة متكررة للحكومات، وضاعف من عدم الاستقرار هزيمة القوات العربية في حرب فلسطين عام 1948 مما كان له أثرُ مباشر على الحياة السياسية في سوريا، وجَعَلها تندفع قسراً باتجاه الأفكار العقائدية الرافضة للوضع القائم، الأمر الذي عجّل بالانقلاب العسكري الأول الذي قاده حسني الزعيم في 30 آذار/مارس 1949، وقد دشّن هذا الانقلاب عهداً من التدخل العسكري في الحياة السياسية السورية، ولعب دوراً ممانعاً في تطور الحياة الدستورية، وإذا كان الانقلاب الأول قد حَظِيَ بتأييدٍ شعبي بسبب ما عاناه السوريون من اضطرابٍ وفسادٍ في عهد الأحزاب السياسية وصراعاتها العائلية والشخصية، فإن عهد رجالات الاستقلال كما أصبح يُطلق عليه كان قد انقضى، لقد اكتسب هؤلاء الرجال خبرتهم السياسية من خلال مقاومة الانتداب ومقارعته، لم يكونوا بالخونة كما أطلق عليهم أعداؤهم أحياناً، ولكن الظروف لم تُتح لهم كي يتعلموا حرفة "بناء الدولة" فكانوا مجموعة من الساسة لا جذور عميقة لها بين الشعب، وقد حرمتها سياسة دولة الانتداب من التمرس في الشؤون الحكومية، وتقاسمت السلطة بعد الاستقلال بالأسلوب التقليدي، مع إدراك وفهم قليلين لما تعنيه حكومة نيابية شعبية الأسس.
لقد كان تدخل الجيش في الدولة الناشئة ذا أثر كبير، إذ منع من تطور سياستها المدنية ومن حسم خياراتها الداخلية ضمن ساحة البرلمان وفي ضوء دائرة الحوارات السياسية المتعددة، وبعدها سيلعب الجيش في سوريا وفي الكثير من دول العالم الثالث دور لاعب الارتكاز في تقرير السياسة الداخلية وهذا ما سيجعل المجتمع المدني يتضاءل لحساب المجتمع العسكري بتعبير غرامشي والذي سيبتلع المجتمعين المدني والسياسي معاً.
ولكن، ما ينبغي التوقف عنده هنا هو موقف المثقفين السوريين من الانقلاب العسكري بوصفه إجراءً يتعدى العمل السياسي ويتيح للجيش حرية التدخل في السياسة لأول مرة في الشرق الأوسط ويكشف بنفس الوقت مفهوم المثقفين للديمقراطية بصيغتها الدستورية والبرلمانية المعمول بها في تلك الفترة. في الواقع إن الإجابة تحمل كثيراً من الأسف، فمعظم المثقفين المنخرطين في الأحزاب السياسية الأيديولوجية اتخذوا مواقف مؤيدة ومشجعة لانقلاب الزعيم، ففضلاً عن العلاقة التي ربطت أكرم الحوراني بالزعيم، فإن عفلق الذي أرسل رسالة اعتذار من سجنه يعتذر فيها عن معارضة حسني الزعيم ويستجدي إطلاق سراحة اعتُبرت بمثابة الإهانة لحزب البعث نفسه، أما الحزب الشيوعي فقد بدا مؤيداً في البداية على الأقل لتخليص الشعب السوري من "الطغمة البرجوازية الحاكمة"، بل إن بعض الصحف الدمشقية طرحت فكرة الحكم العسكري بوصفه يتمتع ببعض المزايا الإيجابية فقالت "ليس هناك شك أن سوريا ستفقد القليل من حريتها، ولكن حاجة الدول الناشئة للانضباط هي أكثر من حاجتها للحرية".
 
وكانت أغلب تعليقات الصحف مؤيدة للانقلاب، بل إننا لا نجد موقفاً واحداً لمثقفٍ سوري بارز في تلك الفترة أدان مبدأ الانقلاب على الشرعية الدستورية، بل نجد جميع المواقف تصبُّ في نعي عهدٍ سابق ذهب غير مأسوفٍ عليه، الأمر الذي يعكس مدى هشاشة الثقافة السياسية والدستورية والديمقراطية التي كان يتحلى بها المثقفون السوريون، وطبيعة نظرتهم إلى الدولة بوصفها مجرد أداة للوصول إلى الحكم.
دخلت سوريا بعد ذلك عهداً من الانقلابات المتكررة ،فانقلاب الزعيم لم يدم طويلاً ـ 137 يوماً ـ إذ أعقبه انقلابٌ آخر بقيادة سامي الحناوي في 30 آب/ أغسطس 1949، غير أن ذلك لم يدم طويلاً أيضاً. فقد قام أديب الشيشكلي بانقلابه الأول في كانون الأول/ ديسمبر 1949، ثم سيقوم الشيشكلي نفسه بانقلابٍ آخر في 1953 ليصبح بموجبه رئيساً للجمهورية بعد أن كان قد عيّن فوزي سلو رئيساً صورياً، وبنهاية شباط/فبراير 1954 تمكّن تحالفٌ بين السياسيين القدامى وعسكريين متضررين من الانقلاب على الشيشكلي وإعادة الحكم الدستوري، حيث نُبِذَ دستوره الذي وضعه عام 1953 وأعيد دستور عام 1950، وفي محاولةٍ لمسح الماضي القريب من الذاكرة قَبِلَ هاشم الأتاسي رئيس الدولة الجديد استقالة الدكتور معروف الدواليبي رئيس الوزراء، الذي طرده الشيشكلي حين قام بانقلابه الثاني في كانون الأول/ديسمبر 1951، وتم استدعاء صبري العسلي، الأمين العام للحزب الوطني، وتم تكليفه بتشكيل حكومة، لقد كان العسلي في الحقيقة ، سياسي قديم بلا منهاج أو مبدأ أو عقيدة وظهوره المتعدد رئيساً للوزارة لهو أقل دلالة على وزنه السياسي من حقيقة قبول الأجنحة اليسارية واليمينية في المجلس النيابي به، باعتباره مرشحاً مسالماً يمكن الاتفاق معه.
إن العسلي كان نموذجاً للسياسيين العائدين الذين عادوا إلى المشهد السياسي ليس إيماناً بالمبدأ الدستوري وترسيخاً للممارسة الديمقراطية وإنما بغاية الانتفاع والمصلحة وهو ما خلق إحباطاً متراكماً بعوده المفاسد إلى أصلها وبدأت الأفكار القصوية (من أقصى) إن لم نقل المتطرفة بالظهور مما شكّل بداية تحول المزاج الشعبي العام في سورية من اتجاه الحفاظ على المؤسسات الدستورية إلى الأفكار اليسارية والقومية،وحملت مؤشراً توجيهياً باتجاه خسوف فكرة الديمقراطية في الوعي السياسي السوري، وقد كانت انتخابات 1954 أكبر مؤشر حقيقي على ذلك، فقد سقطت حكومة العسلي الائتلافية بعد مائة يوم فقط من حكمها، وتم تكليف سعيد الغزي وهو محامٍ دمشقي محترم ذو نزعة استقلالية بتشكيل حكومة حيادية غير حزبية هدفها الوحيد الإشراف على الانتخابات القادمة، وفعلاً نجحت تماماً في مهمتها، إذ جرت الانتخابات في 24 أيلول/سبتمبر 1954 في ثاني انتخابات ديمقراطية نزيهة وحقيقية تمرُّ على سورية.
 
وقد كانت نتائجها مؤشراً على الخارطة السياسية وعلى التيارات الفكرية التي أصبحت مؤثرة على المتخيل الجمعي السوري، فقد حصد المستقلون ـ كعادتهم ـ على النسبة الأكبر (64 مقعداً) غير أن اللافت كان تفوق حزب البعث بحصوله على 22 مقعداً، وانتخاب خالد بكداش كأول نائب شيوعي في العالم العربي، وفوز الحزب السوري القومي الاجتماعي بمقعدين، في حين تناقصت قوة حزب الشعب إلى 30 مقعداً واقتصر الحزب الوطني على 19 مقعداً.
لكن الهجرة نحو الأيديولوجيا العقائدية لم تقتصر فقط على تأييد الأحزاب ذات التوجه العقائدي، بل إن الأحزاب السياسية المعروفة بتعبيرها عن مصالح الإقطاع والبرجوازية بحكم تمثيلهم وسطوتهم فيها بدأت تنحاز نحو شكلٍ من أشكال الأفكار التي تحضُّ على المساواة الاجتماعية كما بدى ذلك واضحاً في حزب الشعب، إذ هاجم أحد أعضائه المثقفين عبد الوهاب حومد الحائز على دكتوراه في الحقوق من فرنسا النظام الإقطاعي والقوانين والأنظمة التي تزدري العامل وتسطو على الفلاح( ).وسنلحظ التوجه نفسه لدى عدنان الأتاسي أحد النافذين في حزب الشعب الذي كتب مطالباً بضرورة "إعادة النظر في كافة الطبقات على أنها أجزاء متممة لبعضها بعضاً، وعلى أن مصالحها جميعاً في مصلحة الشعب المتحد" وعندئذٍ "لا يبقى محلٌ لنضال الطبقات في بلدٍ كسورية، ويمكن أن تسير التقدمية خطواتٍ هامة إلى الأمام مع الإبقاء على وحدة الطبقات وتآزرهاً( ).
ولا يمكن قراءة فوز خالد بكداش سويةً مع خالد العظم إلا مع ميل الآخر نحو أفكارٍ يسارية معادية للغرب، إذ وضع العديد من الناخبين اسم خالد العظم على ورقة الانتخاب جنباً إلى جنب اسم خالد بكداش الزعيم الشيوعي، وأصبح يُطلق عليهما في الشارع السوري (الخالدَيْن)، مما يُظهر حجم التحول الاجتماعي في المجتمع السوري، ولم يكن التيار الإسلامي شاذاً في ذلك، إذ أن "لوثاتٍ" يسارية بدأت تظهر في أفكار مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية من خلال محاضراته وكتبه( )، وكلُّ ذلك سيفرز مناخاً عاماً معادٍ لأمريكا لوقوفها إلى جانب إسرائيل في مجلس الأمن ومساندتها في القرارات الدولية( ). وبنفس الوقت هبوب رياح قومية ويسارية وناصرية ستكون قاصمةً ومعلنةً لنهاية الليبرالية في السياسة السورية مع إسقاط حكومة فارس الخوري في 7 شباط/فبراير 1955، إذ يمكن اعتبار ذلك السقوط بمثابة أحد "نقاط التحول" في السياسة العربية ، فقد أمسك "اليسار" بزمام المبادرة و واجهت السياسة الليبرالية التقليدية في سورية إسدال الستار الأخير على تأثيرها الحقيقي والواقعي وتحولت إلى مجرد أصوات منفردة ومتناثرة بدون أي أثر فاعل في الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في سورية.
 
فدولة الاستقلال إذاً لم تحظ حقيقةً من اسمها بالشيء الكثير ،وبتعبير أندرو راثميل لم يكن مقدراً للدولة السورية الفتية أن تنعم بطفولة آمنة ، فالمنافسات الشخصية والعشائرية والإقليمية في الكتلة الوطنية فسحت المجال أمام الراديكاليين من قوميين سوريين وبعثيين وشيوعيين ، وكانت النتيجة أن بسطت الأحزاب الراديكالية نفوذها من خلال الجيش وذلك على حساب السياسيين(10) ، ولذلك فإن الاسم الأقرب لهذه الدولة أنها دولة مجاز ،وأعني بها أن الدولة كانت حاضرة ذهنياً وشفوياً إلا أنها كانت غائبة عملياً وواقعياً(11) .
بعد ذلك ستتعاقب وستتغير الحكومات بشكلٍ يدلُّ على عودة اللاستقرار السياسي مرةً أخرى، ففي أقل من 3 أعوام ستتشكل ثلاث حكومات لن تُفلح في كبح جماح المد القومي الناصري واليساري، فقد كان عبد الناصر قد امتلك المشهد العربي بأكمله بعد خروجه منتصراً بعد العدوان الثلاثي في عام 1956 وحصوله على تأييدٍ شعبي سوري منقطع النظير وفقدت السياسة والسياسيون السوريون بوصلتهم وبدوا منبهرين بعبد الناصر ووقوفه في وجه الضغوط الغربية، فيمموا وجوههم صوبه تاركين ورائهم إرثهم الفكري والوطني والنضالي والديمقراطي، فقد بدى عبد الناصر بالنسبة لهم أرفع من التفاصيل الصغيرة، التي انشغل بها السياسيون السوريون طويلاً وأوقعتهم في وحل السياسة الفاسد، كما أنه أظهر ممانعةً في وجه الضغوط الغربية لم يُحسن السوريون الوقوف في وجهها أو الوصول إلى ميثاقٍ وطني يحصنّهم ضدها،لذلك يمكن القول بكل ثقة أن النظام في سورية قد وصل إلى مرحلة انحلال سياسي كامل، ورغم تحفظات خالد العظم على هذه الاندفاعة اللاعقلانية كما وصف الوحدة السورية –المصرية إلا أن صوته كان نشازاً ومنفرداً أمام حشدٍ هائل من المثقفين والسياسيين رأى في الوحدة إنقاذاً لسورية من الضياع في وجه مؤامرات دولية (مبدأ أيزنهاور وحلف بغداد) وأحلافٍ إقليمية (من شرق الأردن ومروراً بالعراق وانتهاءً بمصر والسعودية) وليس بعيداً عن ذلك كله تهديداتٍ عسكرية إسرائيلية مستمرة( ) وضغوطاتٍ حدودية تركية، كلُّ ذلك يدفع إلى القول أن السياسيين السوريين لم يكونوا بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم ورغم مرورهم بتجربة الدكتاتورية العسكرية المريرة خلال فترة حسني الزعيم والشيشكلي إلا أنهم على ما يبدو نسوا دروسها سريعاً، كان عليهم أن يذوقوا مرارتها مجدداً، ولكن هذه المرة ليس رغماً عنهم، وإنما برغبتهم، فتوجههم شعبياً نحو عبد الناصر عبر توقيع العرائض وذهابهم رسمياً إلى القاهرة عبر وفود حزبية وعسكرية لمفاوضة عبد الناصر على شكل الوحدة جعل الخيار أمام السياسة السورية محصوراً في خيارٍ واحدٍ فقط هو الوحدة الاندماجية مع مصر عبد الناصر.
لقد كان تأييد الوحدة كاسحاً لدى المثقفين الحزبيين منهم والمستقلين الذين بدؤوا بالظهور حديثاً بحكم اتساع رقعة التعليم نسبياً والتوجه نحو حقول معرفية جديدة، ويندر أن نجد مثقفاً اتخذ موقفاً معارضاً أو مشككاً، فالوحدة كانت حلاً نهائياً لكافة الأمراض السورية كما تخيل ذلك السياسيون السوريون، ولكن ما إن بدأ وهج الوحدة السورية ـ المصرية بالذوبان تدريجياً في عيون السوريين نتيجة عوامل متعددة ليس أولها الرقابة البوليسية وليس آخرها التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشه السوريون، حتى بدأت الأحزاب السياسية التي أُجبرت على الخضوع إلى قرار الحل بالتململ والشعور بخطأها التاريخي عند قبولها حل نفسها بنفسها كما حصل ذلك مع حزب البعث.
 
إن صعود الضباط الأحرار إلى السلطة في مصر أعطى نموذجاً جذاباً للعسكريين الوطنيين الذين يمكنهم أن يتبنوا الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، وهو ما مثَّل إغراء للكثير من الضباط السوريين في تكرار التجربة واستنساخها في سورية، بالرغم مما عاناه السوريون من فترة الحكم الديكتاتوري أثناء عهد الشيشكلي، لكن ما كان يُبرر هذا الصعود العسكري هو المحتوى الثوري للسلطة، فالشيشكلي أو الزعيم قبله لم يكونا صاحبي رؤية أو فلسفة أيديولوجية قادرة على إغراء الجماهير وحشدها وتعبئتها رغم تنبه الشيشكلي إلى ذلك وتأسيسه "لحركة التحرر العربي"، غير أنها بقيت شكلاً من غير مضمون، في حين أن "فلسفة الثورة " لدى عبد الناصر لم تكن حبراً فقط وإنما كانت إجراءاتٍ اجتماعية واقتصادية وسياسية وتعليمية لمس أثرها المواطن المصري البسيط نفسه، وما أفرزه المثقفون السوريون من فلسفةٍ للقومية العربية ومحتواها ومضمونها ورسالتها الخالدة، كلُّ ذلك بقي نصاً إنشائياً أمام ما قدمه عبد الناصر للقومية العربية من خلال مواقفه الدولية أو دعمه لحركات التحرر العربي في الجزائر وغيرها، لقد كثف عبد الناصر مشروعه الاجتماعي في مقولته الشهيرة (ارفع رأسك يا أخي). لكن الموقف من عبد الناصر هو الذي أدى إلى الانقسام السياسي الأول في حزب البعث بين القوميين وبين الناصريين، الأخيرون كانوا ينظرون إلى عبد الناصر كمطمح آمال لهم ويدينون الانفصال ويسعون بكل مناسبة إلى الانقلاب عليه، أما القوميون فحمّلوا مسؤولية الانفصال إلى عبد الناصر وإدارته الفاسدة للوحدة ويسعون بكل الوسائل إلى التمسك بالوضع كما هو عليه بغية تحقيق النقلة إلى الاستيلاء على السلطة وبناء نموذجٍ "قومي" منافس لعبد الناصر إن لم يكن متفوقاً عليه.
بعد حادثة الانفصال في أيلول / سبتمبر 1961 سيتحول الوعي السياسي للمثقفين السوريين إلى أشبه بالوعي الانقلابي، إذ لم تُفلح سنوات الاستقلال في ترسيخ ثقافة مؤسساتية ودستورية وقانونية وديمقراطية يُدافع عنها المثقفون السوريون، وإنما كان وعي المثقفين بالدولة وبوظائفها هشّاً للغاية، ولذلك ستستحكم الثقافة الانقلابية في وعي هؤلاء المثقفين بعد أن أخذتهم رياح الأيديولوجيا يساراً وشرّقت بهم إذ الكلُّ أصبح يطمح إلى تحقيق الثورة وإنجازها، والثورة غدت مطلباً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، وما حَدَثُ الثورة الثقافية في الصين ببعيد، انتهى الوعي الليبرالي والديمقراطي تماماً وساد وعيٌ جديد، وعيٌ يؤمن بالثورة وسيلةً وغاية لتحقيق مطامحه وأهدافه التنموية والأيديولوجية.
 
إن سيطرة هاجس الانفصال على وعي النخب السورية يعزوه كثيرٌ من الباحثين إلى التباس مفهوم الدولة الوطنية السورية في وعيها، إذ بالرغم من تحفظ خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي وخالد العظم رئيس الوزراء الليبرالي على الوحدة، إلا أن الانفصال لم يستطع في أيّ لحظة من لحظاته أن يُبرّر نفسه باسم كيانية الدولة الوطنية، بل باسم مساوئ المركزية البيروقراطية والبوليسية والتسلطية المصرية، وادعى باستمرار تمسكه بمبادئ الوحدة الصحيحة( ).
وصل الوعي الأيديولوجي إلى ذروته تقريباً عبر امتلاكه للأحزاب السياسية وتملكّه لها، إذ إن خارطة الأحزاب السياسية السورية في فترة ما بعد الانفصال تعكس بجلاء الحراك النشط للأحزاب السياسية العقائدية وخموداً تاماً للمثقفين المستقلين أو للأحزاب ذات الإرث الوطني الليبرالي والديمقراطي القديم، فالبعث كان قد عقد مؤتمره القومي الخامس في حمص في أيار/مايو 1962 ووضع شعاره الرئيسي إسقاط النظام الانفصالي الرجعي واستعادة الوحدة الاتحادية مع مصر، وأفرز عدداً من التجمعات السياسية المنشقة كتيار أكرم الحوراني ورفاقه، وتيار القطريين، وتيار الوحدويين الاشتراكيين، وتيار القيادة القومية (عفلق ورفاقه)، أما الحزب الشيوعي فكان قد ساهم بفعالية في حكومة ما بعد الانفصال التي رأسها بشير العظمة 16 نيسان/إبريل ـ 14 أيلول/سبتمبر 1962، والأمر نفسه بالنسبة للإخوان المسلمين بحيث يمكن القول أن الأحزاب العقائدية قد ورثت الدولة الوطنية السورية (دولة ما بعد الاستقلال) ودولة الوحدة معاً، لقد تسيّست النخب المثقفة السورية بشكلٍ واسع وأصبحت حركتها ومساهمتها في المجال العام محصورةً فقط في قدرتها على الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها لتحقيق أو إنجاز أهدافها الأيديولوجية.
غير أنه وبالتوازي مع هذا الحراك النشط للنخب المثقفة كان يجري حراكٌ آخر بين العسكريين والضباط السوريين الذين كان لهم إسهامهم في الانقلابات العسكرية المتتالية، وهو ما فتح لهم إعادة التفكير مجدداً في صنع الحياة السياسية وتشكيلها عبر الانقلاب العسكري، فقد فتحت الحركة الانقلابية التي قام بها العقيد عبد الكريم النحلاوي لإعلان انفصال الإقليم السوري عن جمهورية الوحدة، فتحت الباب لبروز التنظيمات العسكرية الناصرية والبعثية التي ساهمت في تأكيد مواقفها عبر حركاتٍ عسكرية لم تُفلح في البدء، إلا أنها نجحت فيما بعد في تأسيس دولةٍ من نوعٍ جديد بعد حركة 8 آذار/مارس 1963.
 
إن حركة 8 آذار/مارس 1963 يمكن وصفها بأنها خلقت ازدواجية حقيقية داخل السلطة السورية، فصحيحٌ أن الجيش السوري لم يكن هذا تدخله الأوّل، إلا أن مشروعية تدخل الجيش اختلفت في الحالتين، ففي انقلابات ما قبل الوحدة كان الجيش يتدخل بحجة تصحيح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى العسكرية (كان تحرير فلسطين بمثابة الهدف المعلن الذي تبدأ به جميع بيانات الانقلابات السابقة والمتكررة)، وكانت تشعر هذه الانقلابات باستمرار بحرج شرعي ودستوري وهي لذلك كانت تتحصّلها عبر التنازل لها من قبل الرئيس المنتخب كما حصل مع الزعيم، أو عبر تعيين رئيس شكلي له الصورة والسلطة الفعلية تكون للجيش، أو عبر استفتاءات وانتخابات وهمية، مهما يكن، فإن الجيش كان يشعر بحرج تدخله في السياسة وهو لذلك انكفأ تماماً بعد عام 1954 أي بعد الانقلاب على الشيشكلي، لكن نموذج الوحدة السورية ـ المصرية أو بشكلٍ أدق النموذج الذي بناه عبد الناصر في طريقة تركيبه للدولة القائمة على الحزب الواحد وعسكرة المجتمع وعدم الاكتراث بالتعددية الحزبية وبالبرلمان وبالانتخابات الديمقراطية بهدف إنجاز التنمية المستقلة عبر وسائل ثورية اقتصادية واجتماعية ولغايات سياسية خارجية، جعل النخبة القومية واليسارية في سورية سواءً أكانت ناصرية أم بعثية أم شيوعية أو إسلامية تستخفُّ ببناء الدولة على نموذج المؤسسات الدستورية والتشريعية وعلى صيغة عقد اجتماعي بين السلطة والمجتمع، فالدولة بالنسبة لها ليست سوى أداة لإنجاز الثورة بهدف تحقيق "المجتمع العربي الاشتراكي الموحد".
 
هذا النموذج الهش للدولة في وعي النخب والمثقفين السوريين شجّع "العسكر" كما يُطلق عليهم للتدخل وإنجاز ما عجز عنه المثقفون بطرقٍ ووسائل أكثر سرعة وفاعلية، ، لقد أصبحت الصورة كما وصفها غسان سلامة ببراعة" في الماضي كان الأعيان وخلفاؤهم من "الوطنيين" يتناهشون السلطة ويختلفون عليها فيخرج العسكر أحياناً من الثكنات ويضع حداً لذلك، في حين أنه في عام 1963 ثم "تبعيث" المجال السياسي ولكن الدينامية بقيت على حالها؛ سياسيون وأيديولوجيون يتناقشون ويتراشقون التهم، والعسكر في ثكناته ينتظر انتهاء النقاش الذي انتقل من خارج الحزب إلى داخله، أو بالأحرى هو ينتظر الوقت المناسب للانقضاض على السلطة".
هناك إذاً اختلاف جوهري بين بنية النظام السياسي القائمة بعد الاستقلال وبين بنية النظام السياسي القائم في دولة ما بعد الثورة، فهامش النقاش أو حرية الرأي والتعبير ضاق تماماً ،إذ لم يعد يتسع سوى لمثقفي الثورة، خاصة بعد البلاغ رقم "1" بإلغاء الصحف ثم إلغاء الأحزاب السياسية، إذ أصبحت الدولة حينها هي الثورة، واستعرت داخل هذه الثورة نقاشات أيديولوجية تغلب عليه الصفة اليسراوية، ولكن يساريتها كانت أشبه بالدعاية وأحياناً تسف إلى المستوى الطفيلي والبدائي سيّما إذا تابعنا الحجج الرسمية التي ساقها نظام الأطباء الثلاثة بعد هزيمة حزيران /يونيو 1967، إذ اعتبر هذا النظام أن الهدف الأساسي الذي شنّت إسرائيل من أجله الحرب لم يتحقق بالرغم من ضياع الجولان، إذ إن هدفها الحقيقي كان إسقاط النظام في سورية، وبلغت هذه النقاشات أوجها في المؤتمرات القطرية والقومية والمتعاقبة لنلحظ مدى غياب الواقع وحضور الأيديولوجيا، فلغة الأفكار والنظريات التي كان السياسيون يختلفون حولها كانت بنظر هذه النخبة السياسية صراعات حول مواقع اجتماعية وسياسية واقتصادية، غير أنها في الحقيقة لم تكن سوى فذلكات فكرية ورياضة ذهنية، في حين كان المجتمع في خطٍ آخر مختلف تماماً وهو ما نفهمه من الترحيب الشعبي بحركة 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 التي أصبحت تعرف "بالحركة التصحيحية"، والتي هدفت بالأساس إلى تصحيح مسار الحزب، وعنت بشكلٍ حقيقي ونهائي على أن الخلافات السياسية والعقائدية لا تحسمها سوى الانقلابات العسكرية وتدخل الجيش، فسيطرة الجيش على المجال السياسي أصبحت مطلقة.
 
نجح الجيش إذاً ومنذ عام 1966 في فتح فصل جديد، إنه فصل انتصار الريف على المدينة، والأقلية على تجمعٍ هش من الأكثرية والأقليات، والعسكر على المدنيين، والواقعية على اليوتوبيا والجيش على الحزب، لقد أصبح حزب البعث بعدها وسيلة بيد الجيش، أو بالأحرى، بيد مجموعة من الضباط، ويُستعمل فقط في مجالات الدعاوة والتعبئة وتركيز الشرعية، أم المنحى "اليساري جداً" الذي ستعتمده سورية أيام صلاح جديد (1966 ـ 1970) فكان إلى حدٍ بعيد، نوعاً جديداً من الهروب إلى الأمام من كل هذه "الانتصارات"، ومحاولة لتأسيس شرعية قائمة على عناصر جديدة، لقد أصبح الحزب أشبه بمنظمة كادر يسارية عسكرية، إذ أغلق فيها حق الترشيح والتصويت والانتخابات على نخبة الأعضاء العاملين الذين يقودون المنظمات الشعبية التي تم تأسيسها كبديل عن مؤسسات المجتمع المدني السابقة، وكانت هذه المنظمات والاتحادات النقابية في حقيقتها منظمات رديفة للحزب، أو أطرافاً له في عملية اختراق المجتمع، وانطلقت على المستوى النقابي من مبدأ النقابية السياسية، وليس من مبدأ النقابية المطلبية الذي اعتُبر مفهوماً برجوازياً ليبرالياً للعمل النقابي، وبوصفه حزباً تشترط فيه مرحلة العضو المتدرب والعضو العامل اتباع دورة عمل فدائي، فإنه كان حزباً معسكراً، في إطارٍ تم فيه إيجاد "الجيش الشعبي" رديفاً لـ "الجيش العقائدي" أي محاولة عسكرة المجتمع برمته.
----------------
زمان الوصل

رضوان زيادة
الجمعة 28 مارس 2014