ويعتقد أن معظم المقاربات المتوافرة تتعامل مع الظاهرة وفق حقل الاهتمام (اهتمام الباحث أو المتبع)، وهو ما يجعلها إما مقاربة جزئية أو مقاربة مؤدلجة لكن نادراً ما تكون شاملة وموضوعية، حيث إن هذه المقاربات تتعرض للظاهرة إما من الزاوية الاقتصادية الخالصة، أو من جانب ربطها بالثورة التكنولوجية أو من منطلق محاولة فهمها من خلال استحضار إشكالات كإشكال الهوية أو الخصوصية أو الذاتية الثقافية[1].
كما أن إشكالية المصطلح التي يراها يحيى يحياوي جديرة بالاهتمام فهي تصرف النظر عن الأوساط النظرية مع أن العلاقة بين العالم النظري المجرد والعالم الواقعي لا يمكن تجاهلها، حيث تمارس الجماعات الاجتماعية في وقت يجد الأكاديمي نفسه بحاجة للنظريات حتى تضفي معنى للكم الهائل من المعلومات التي تغمرنا.
مفهوم العولمة عند «أنتوني جيدنز»:
يرى أنتوني جيدنز من خلال كتاباته اعتبار الثقافة المتغير الرئيس في عملية العولمة، متسائلًا عن كيفية صمود هوية الأفراد والجماعات الإثنية المختلفة أمام الثقافة الكوكبية التي أصبحت تكتسح العالم وشتى الطرق والوسائل مستخدمةً الاقتصاد والسياسة بوابات تلج من خلالها إلى عالم تغيير كينونات المجتمعات المختلفة[2].
إن العولمة كظاهرة في حد ذاتها تتنازعها ثلاث مدارس فكرية كما يراها أنتوني جيدنز.
ونحن بإزاء هذه المقاربات السوسيولوجية نحاول التركيز على الأبعاد الثقافية للعولمة، بغض النظر عن تباين المصطلحات حول العولمة الثقافية واختلاف تعاريفها من مفكر لآخر تبعًا لمرجعيته الفكرية، ولا ننكر أننا بإزاء ظاهرة خطيرة على كياننا ووحدة منظومتنا الفكرية والثقافية إذ تتجلى بوضوح في سيادة اللغة الإنجليزية التي أصبحت اليوم لغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، والمتأمل يلحظ انتشار هذه اللغة في كل مكان، فقد انتشرت في المناهج التعليمية والمقروءات من الصحف والمجلات، وفي وسائل الإعلام واللوحات الإعلانية، ولعل دول الخليج العربي نموذج يسترعي الوقوف عنده؛ إذ طغت اللغة الإنجليزية على المجتمع الخليجي لاعتبارات اقتصادية متمثلة في العمالة الوافدة، بل إن هناك من المفكرين، من أمثال الدكتور عبدالله النفيسي، من حذر من هذا الغزو الثقافي، وفي قراءة استشرافية له بيّن أن استمرار تدفق العمالة الأجنبية بدون ضوابط قانونية وسياسية ناظمة لهذا التدفق يجلب أخطارًا محدقة بوحدة بلدان الخليج.. مثل مطالبة هذه الجنسيات الوافدة بالاستقلال وتقرير المصير تبعًا لسيطرة ثقافاتها ولغاتها المتعددة واختلاف دياناتها ونموذج جنوب السودان ليس ببعيد عنا.
إن القراءات والدراسات التي قام بها الكثير من المفكرين الخليجيين كانت سببًا في استصدار مجلس التعاون الخليجي قرارات مهمة من بينها تصاريح إقامة مؤقتة ومباشرة إصلاحات في قوانين الهجرة والجنسية، كل هذه القرارات لها علاقة وارتباط وثيق بالعولمة الثقافية.
ولكن ينبغي أن نوضح أن مسألة سيادة اللغة الإنجليزية لا تعني انغلاقنا على ذواتنا وانكفائنا على أنفسنا أمام كل جديد بل إن التحكم في اللغات أساس للانفتاح والرقي الحضاري.
وما نراه اليوم من طغيان الثقافة الغربية تشكل اللغة نسبة عالية من المساهمة في نقله، ومن الأمثلة على ذلك أن 88% من معطيات الإنترنت باللغة الإنجليزية و9% بالألمانية، 2% بالفرنسية، و1% موزع على بقية اللغات العالمية، إذ يبين صامويل هنتجتون في كتابه صدام الحضارات أهمية اللغة في الصراع حيث إن «توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشارًا: الإنجليزية، الإسبانية، الفرنسية، العربية ، الروسية. إما أنها كذلك أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوبًا أخرى تستخدم لغتها، كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تاركا ميراثًا ضخمًا في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم»[3].
إن الثقافة التي تمتلك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت مما يؤدي إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق. وخاصة الأطفال الذين لم تتكون لديهم ملكة النقد والحصانة الذاتية، فيقعون فريسة سهلة لما يعرض عليهم من صور مؤثرة،وأغانٍ ورقص وأزياء وتناول الأطعمة والأشربة وغيرها من أنماط الاستهلاك عن طريق الإعلانات المكررة والصور الجميلة المؤثرة التي تؤثر تأثيرًا واضحًا على المعتقدات والقيم، وبما يعرض بقوة ومهارة من قيم مجتمع أجنبي وتصرفات غير مقبولة في مجتمعاتنا نحن المسلمين، بما في ذلك التمرد على الأسرة وتفكيك علاقاتها المتماسكة، ونشر ما يتعارض مع مرجعياتنا وقيمنا من سلوك جنسي فاضح. وهناك دراسات أثبتت تأثير العولمة على الجوانب العقدية والثقافية والتأثير على الجوانب التعليمية والسلوكية من التشتت بين ما يتعلمه المرء في المؤسسة التربوية وما يشاهده من برامج مناقضة لذلك، وتقليد الأزياء الغربية وكذلك التأثير على الروابط الأسرية.
ما زلنا نحاول تفكيك أبعاد العولمة الثقافية بعد أن أسهبنا في تفصيل بعض منها، ويمكن إيجاز ما أسلفنا بالحديث عنه أن العولمة كما يرى الدكتور الزنيدي: «هي ذلك التوجه وتلك الدعوة التي تسعى إلى صياغة حياة البشر في مختلف الأمم وفق القيم والمسالك والأنماط الغربية - بالدرجة الأولى الأمريكية - وتحطيم خصوصيات الأمم المختلفة لها إما بالترغيب أو الترهيب، وهو التوجه الذي أصبح الصيحة الفكرية في تسعينات القرن الآفل»[4].
ولقد رسم لنا هذا المفكر خطًا واضحًا وساق لنا مقاربة شهدناها في حرب الخليج حين دمر العراق بما يختزنه من تاريخ إنساني وحضارة شاهدة على عمق جذوره الضاربة في أطناب الأرض، نحن هنا لا نحاجج عن النظام السياسي العراقي الذي قد نتفق أو نختلف معه ولكننا نتكلم عن هذه العولمة التي استباحت سيادة البلدان وحطمت خصوصياتها الثقافية وفرضت النموذج الأمريكي على الشعب العراقي، وكلنا شاهد نهب المتاحف والمكتبات، بل إن الدكتور أحمد منصور وخلال تغطيته لغزو العراق ومجازر الفلوجة أوضح أن الحصار دفع الكثير من العلماء والمفكرين والأدباء العراقيين لبيع كتبهم القيمة، مع ما يحمل ذلك من دلالات مهمة على تحطيم نخبة العراق التي صار همها لقمة العيش والتضحية بالكتاب مع ما يحمله الكتاب من رمزية.
مع أن الغرب كثيرًا ما يتكئ في تحديد العولمة على أنها تنهض على ثلاث دعائم هي: التعددية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، إلا أن النموذج العراقي يبرز بوضوح أنها مجرد شعارات وأن الثقافة الغالبة هي التي ينبغي أن تسود، وما تصريح الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: «إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي».
كثيرون هم الذين خاضوا في مفاهيم العولمة والعولمة الثقافية ولعل الثابت هنا أن تلك الثورة التكنولوجية في أنظمة الاتصالات والإنترنيت هي التي عناها الدكتور محمد عمارة إذ يرى أن «العولمة هي ثمرة من ثمرات التقدم المذهل في ثورة وسائل الاتصال الحديثة تلك التي جعلت عالمنا قرية صغيرة زالت منها حواجز الهويات الثقافية»[5].
لا نختلف كثيرًا مع الدكتور محمد عمارة أن هويتنا الثقافية في خطر محدق أمام هذا الزخم الإعلامي والأقنية المتعددة اللغات خاصة الفرنكوفونية والإسبانية والأنجلوسكسونية والمجتمع العربي هو الحلقة الأضعف في هذه الثورة التكنولوجية الهائلة التي تتيح للأفراد والدول والمجتمعات الارتباط بعدد لا يحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكبلات الضوئية والفاكسات ومحطات الإذاعة والقنوات التليفزيونية الأرضية والفضائية التي تبث برامجها المختلفة عبر حوالي 2000 مركبة فضائية.
كل هذا وغيره قد أتاح قدرة هائلة على جعل سكان العالم باختلاف أماكنهم مرتبطين ببعض لدرجة أنه أزال الخصوصية وأزال حواجز المكان وفواصل الزمان.
إن الحديث عن العولمة أمر في غاية التعقيد والتشعب فهناك من يراها أحد أوجه الحداثة والتفاعل مع الآخر، كل هذه الآراء لا تغنينا عن ضرورة الحفاظ على الخصوصية الثقافية لهذا المجتمع الذي ننتمي إليه؛ فابن خلدون أشار إلى هذا إذ يرى أن «لكل شيء طبيعة تخصه» فانتفاء خصوصية الشيء هو انتفاء لوجوده.
كما أن خصوصية الشيء وهويته لا تعني جموده واستغراقه في استنساخ رؤية ماضوية وفرضها على حاضرنا فرضاً بليدًا، وأخطر ما تتعرض له هويتنا كذلك هو ميوعتها وفقدانها لذاتها الواعية ولقدرتها العقلانية النقدية الإبداعية وضياعها في تقليد أو خضوع أعمى بليد لخبرات سياسية واجتماعية واقتصادية أو ثقافية لا تصلح أوضاعنا.
رياح العولمة الثقافية حتمية لا تستطيع المجتمعات غير المنتجة للمعرفة أن توقف هبوبها وتحولها إلى إعصار هادر يهدد وحدة المجتمعات الثقافية والفكرية والسياسية فجنوب السودان مثال صارخ لهذه العولمة التي قوضت وحدة السودان وقطعت أوصاله بكيانات سياسية تدين باللغة الإنجليزية وسيادة الكنيسة الإنجيلية.
كل ما تصنعه مخابر الغرب ينبغي أن يقابل برؤية ثقافية وتعليمية تروم تعزيز مصادر الوحدة الثقافية وتمكين اللغة العربية في جميع المجالات وترقيتها بمجامع لغوية قوية وباحثين أكفاء.
كل هذا لن يتأتى إلا ضمن سوق عربية مشتركة واقتصاد متنوع وصناعة متطورة بدءًا بنقل المعارف والتكنولوجيا وتشجيع حركة الترجمة والبعثات البحثية بأهداف وبرامج محددة.
تلك آراء أسوقها تنويرًا وحثًّا للعقول لاستشراف المستقبل، ورحم الله الشاعر محمد إقبال حين قال:
ليس يخفى على القلندر
فكر ساور الشيئ ظاهرا وخفيا
أنا عندي بكل شيئ خبرا
فبهذا الطريق سرت مليا
هنا تستوقفنا مسائل متعلقة بالعولمة ينبغي أن نوضح أنها نفي للآخر وإحلال الاختراق الثقافي وسيادة النموذج الغربي عبر أدوات وهيئات ثقافية وسياسية واقتصادية ورياضية وعسكرية وأكاديمية، فالعولمة تكون نوعًا من عدم المساواة وتزيد من اللاعدالة، إذ وعلى ما هو معروف منذ أكثر من الـ150 سنة الماضية كانت مناطق العالم متشابهة في درجة تقدمها، وبعد ذلك نقلت العبودية والاستعمار والعولمة الثروة من الجنوب إلى الشمال ببطء وتدرج، وبمرور الزمن أصبح 20% من سكان العالم يحصلون على نحو 83% من دخل العالم.
والتنمية العالمية ليست ذات مردود لكل إنسان إذ يرى دعاة العولمة أنه إذا زادت معدلات النمو في العالم فإن كل إنسان يمكن أن يستفيد، في حين مجمل التقارير الاقتصادية والاجتماعية تؤكد أنه كلما زادت الدول الغنية غنى زادت الدول الفقيرة فقرًا وتخلفًا.
أما بالنسبة للمؤسسات الدولية الرئيسية والمتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، فهي لا تسعى إلى التنمية والتطوير كما يقولون، ولكنها تسعى إلى تكريس الاستعمار في ثوب جديد، من خلال اعتمادها على عمليات وقروض البنك الدولي التي تكبل الدول وترهن سيادتها على اقتصادها عبر الديون، إذ يرى الخبراء أن معظم الدول التي تبنت وصفات البنك الدولي وصندوق النقد كرست الفوضى مثل الأرجنتين وهي بالتالي تكرس التبعية.
فالبلدان النامية لها سقف للتنمية لا يمكن تجاوزه، وبالتالي فالخروج عن إرادة الدول العظمى التي تسعى باستمرار إلى إبقاء البلدان الجنوبية في وضع التابع مما يجعل البلدان الصناعية تستعمل المقاطعة الاقتصادية أو استعمال القوة العسكرية وسائل ردع[6].
وخلاصة القول يمكن أن نقول إن العولمة نسق اجتماعي ذو طابع عالمي يتكون من عديد الوحدات الكبرى التي تشكل أسس النظام الرأسمالي، أهمها الشركات المتعددة الجنسيات وشبكة المؤسسات الدولية التي تصوغ العقل الإنساني صياغة تنتفي فيها الخصوصية وتتفاعل عبرها الحدود الثقافية والقومية على نحو متزايد؛ فـ«سيمون ديورينج» له مصطلح هو أن العولمة عبارة عن عملية عبور عالمية transnational، إذ أصبحت بعض المنتجات الثقافية رائجة فعلًا على المستوى الكوني، فهي توزع وتمتع الناس في كل مكان.
ثمت إشارات قوية أن العولمة الثقافية تنتج الإنسان الكوكبي أو المعولم أو الكوني، وإن تعددت التسميات واختلفت التحليلات وتشعبت أو تفرعت المقاربات فإننا نصل إلى حقيقة واحدة أن ثقافة القوي هي التي ينبغي أن تسود ولا نعني بها قوة وهمية فها هي أمريكا شاهد على هذا التفوق.
إن العولمة كما أسلفنا حتمية لكن مظاهرها يمكن أن تمهد الطريق لتعزيز انتمائنا الثقافي والعمل على ترقية قيم العمل والمثابرة والبحث والإنجاز والتفتح الواعي الذي يرمم ذاتنا التي أنهكها الكسل والخمول، فالعولمة ينبغي أن تكون لنا تبرًا نزيل عنه الأدران ونقدمه للإنسانية طريقاً ثالثاً يكفل قيم التعايش والتسامح.
:: مجلة البيان العدد 344 ربـيـع الثاني 1437هـ، يـنـايــر 2016م.
[1] 1-يحيى اليحياوي: في إشكالية العولمة 15/05/2009م:
(www.elyahyaoui.org/cpr_settat.htm ).
[2] أنتوني جيدنز: الطريق الثالث تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة: مالك عبيد أبو شهرة ومحمد خلف، دار الرواد طرابلس، ليبيا، 1999م ص12-15.
[3] صامويل هنتقتون، «صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي»، ترجمة: طلعت شايب، ط2، 1999م.
[4] د. عبد الرحمن الزنيدي، ط1، دار كنوز إشبيليا.
[5] د. محمد عمارة، جريدة الجزيرة عدد (9678) الصادر في 12ذي الحجة بعنوان: مخاطر العولمة على الهوية الإسلامية.
[6] مجد الدين خمش: العولمة وتأثيراتها في المجتمع العربي، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان الأردن 2011م.
---------
مجلة البيان