نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


أوكرانيا... وصراع الحضارات




فى زمن الجنون العالمى السائد اليوم، يُلاحظ صعود مشاعر الهويّات والانتماء لدى بعض الشعوب وانهيار المشاعر نفسها لدى شعوب أخرى. وهذا أنعش احتدام النقاش من جديد حول نظريات «صراع الحضارات» التى كان قد أطلقها المفكّر الأمريكى صامويل هنتنغتون بعد انهيار الاتحاد السوفياتى. خاصة وأنّ هينتغتون نفسه لم يرَ فى نظريّته أنّ صراعا قد ينشأ بين روسيا وأوكرانيا حيث يتموضع خطّ التماس بين الإرث الكاثوليكى لأوروبا الغربيّة والإرث الأرثوذكسى لشرقها لأنّ الاثنين فى النهاية... أوروبيّان ومسيحيّان.


 
فى الحقيقة، كانت الهويّة الأوروبيّة قد شهدت صعودا لا سابق له حتّى قبل الغزو الروسى الحالى لأوكرانيا وبروزا واضحا لتضامن الشعوب والحكومات الأوروبيّة مع الشعب الأوكرانى. إنّ هذا الغزو يشكّل فى بعض جوانبه صداما بين الإصرار على الهويّة السلافيّة وبين مصيرٍ يأخذها إلى الزوال مع صعود الهويّة الأوروبيّة. فأوكرانيا كانت تاريخيّا مهدا للهويّة، والكنيسة، السلافيّة الروسيّة حتّى قبل موسكو. وشعب البلد كان وبقى أكثر تجانسا فى أصوله «القوميّة» من روسيا الإمبراطوريّة المترامية الأطراف والتى تضمّ تحت جناحها شعوبا متعدّدة، بما فيها تلك التى تتبنّى عقائد مختلفة عن المسيحيّة.
نمت مشاعر الانتماء إلى «حضارة أوروبيّة» بشكلٍ لافت مع توسّع الاتحاد الأوروبى، بدءا من إسبانيا والبرتغال، وتوسّعا لتشمل أوروبا الشرقيّة بعد انهيار المنظومة السوفياتيّة. مشاعر انتماء «لجوهر هويّة» تختلط فيها أبعاد نموذج الحريّات العامّة والحكم «الديموقراطى» والتقدّم والتكامل الاقتصاديّين بالتوازى مع نموّ الهويّات القوميّة لكلّ من بلادها مع صعودٍ ملحوظ لليمين المتطرّف فى المناخ السياسى الاجتماعى. بل يرى أغلب دعاة هذا اليمين المتطرّف «القومى المحلى» فى روسيا نصيرا أوروبيّا أساسيّا ضدّ «الحضارات الأخرى» التى دخلت معها فى صراعٍ، داخلى بالمناسبة، وخاصّة «الحضارة الإسلاميّة» بعد أحداث سبتمبر 2001.
•••
توضح الحرب القائمة اليوم فى أوكرانيا أنّ مشاعر الهويّة «القوميّة» الأوكرانيّة قد نمت بشكلٍ قوى رغم الإرث السلافى المشترك مع روسيا. مشاعرٌ تقولب هذه «القوميّة» ضمن «الحضارة الأوروبيّة» و«فرادة أصولها» التى لا تتحمّل كثيرا التعدّد الدينى» خارج المسيحيّة. أوكرانيا أوروبيّة وليس تركيا التى حلمت طويلا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى» للخروج من مشاكلها قبل أن يتمّ رفضها بفظاظة لتعود، بشىء من المرارة إلى حلم «الحضارة العثمانيّة».
إنّ «فرادة الأصول» الأوروبيّة هذه تحمل تبعات تطوّرات داخليّة فى البلدان الأوروبيّة، وخاصّةً المشاعر الإسلاميّة لجزءٍ من مواطناتها ومواطنيها الذين قدموا إليها منذ زمنٍ طويل فضلا عن المهاجرات والمهاجرين الجدد. إنّ الهويّات القوميّة المحليّة لا تستطيع احتواء مشاعرهم ولا هم يشعرون بالانتماء العضوى لبلدان لم يعرِف أصلا أبناؤهم غيرها. «فرادة أصول» وإن حملت أبعاد حريّات وحقوق إنسان، تحتوى فى بعض جذورها بقايا نظرة الاستعلاء التى كانت قائمة فى القرن التاسع عشر، زمن الاستعمار الصريح، تحت غطاء نشر «الحضارة» عند الشعوب «المتخلّفة».
«فرادة أصول» تدّعى مرجعيّة اليونان القديمة وروما فى أصولها، رغم أنّ هاتين الحضارتين التاريخيّتين كانتا أساسا متوسطيّتين، أى تتشاركان مع الضفّة الأخرى للمتوسّط، قبل أن تكونا... أوروبيّتين. وهويّة أوروبيّة تبدو على نقيض الهويّة الروسيّة التى تتقبّل أن يتمّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة فى أحد أجزائها، أى الشيشان اليوم.
بالمقابل، يُلاحظ كيف أنّ هويّة «العالم الإسلامى» اليوم ليست جامعة بحيث يتمّ تقبّل الاختلاف المذهبى» السنى ــ الشيعى، كما فى أوروبا الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة والأرثوذكسيّة. بل لا يُمكن ضمن تلك الهويّة حتّى الاتفاق على موعد بداية شهر رمضان. بحيث يبدو أنّ هلال القمر يظهر بشكلٍ مختلف بين السنّة والشيعة، وكأنّ دوران الأرض والكواكب لا يخضع لأيّة قوانين وحسابات فلكيّة. هذا رغم عدم وجود للبابويّة أو لبيزنطة فى الإسلام كى يختلف التقويم الهجريّ بين الطائفتين... واللافت هو استمرار هذا الانقسام «الجوهرى» مهما اختلفت التوجّهات فى ذات الدول «الإسلاميّة» نحو مزيدٍ من التزّمت الدينى أو العكس نحو الانفتاح «الليبرالى».
كما يلفُت الانتباه كيف تتموضع الهويّة «الحضاريّة الإسلاميّة» نسبةً إلى الهويّات القوميّة، التاريخيّة والحديثة. حيث يتمّ دوما إبراز القوميّات التاريخيّة المختلفة، التركمانيّة والفارسيّة والعربيّة وغيرها، على أنّها أساس الانقسام المذهبى والتعصّب لهذا التفسير أو ذاك. هذا بالرغم من أنّ التاريخ كثيرا ما شهد تحوّلا للشعوب المعنيّة من مذهبٍ إلى آخر. كما يُلاحظ أنّ حركات «اليمين المتطرّف» الدينى فى البلدان الإسلاميّة تختلِف عن الحركات فى أوروبا بحيث أنّ همّها الأساسى هو تخطّى الهويّات القوميّة المحليّة، انطلاقا من الإخوان المسلمين وحتّى تنظيمى «القاعدة» و«داعش»، بحيث تتشنّج العلاقة بين القوميّات المحليّة وبين الهويّة الإسلاميّة بشكلٍ كبير ضمن الصراع بين التراث... والحداثة. وذلك حتّى فى إيران والسعوديّة وباكستان.
الأمر سيّان بالنسبة «للهويّة الحضاريّة العربيّة» التى كانت قد شهدت زخما حقيقيّا فى القرن العشرين وتعزّزت فى صراعها مع المشروع الصهيونى الاستيطانى. لكنّها اصطدمت من ناحية مع صعود «الهويّة الإسلاميّة» من جديد ومن ناحية أخرى مع صعود القوميّات المحليّة القديمة أو الناشئة. ولعلّ، أقلّ ما يقال، إنّها أفُلَت وبدأت تندثر بحيث بات التساؤل واقعيّا عن الحاجة اليوم حتّى لوجود «جامعة دول عربيّة». هذا بالرغم من أنّ البلدان العربيّة تتشاطر كثيرا من عناصر «الحضارة»، بمعنى التاريخ، وأكثر بكثير ممّا تتشاطره الدول الأوروبيّة مع بعضها البعض.
•••
لم تعُد فلسطين وقضيّتها عنصرا أساسيّا للهويّة العربيّة. ذلك أنّ كثيرا من الشعوب العربيّة قد تأقلمت مع الهزائم والنكسات ومن ثمّ مع التطبيع التدريجى ثمّ المتسارع مع إسرائيل. بل وصلت الأمور مع الأزمة الأوكرانيّة إلى مشروع تحالفٍ عسكرى معها. وكأنّه ليس هناك لا احتلال ولا «أبارتايد» (نظام فصل عنصرى) ولا مستوطنات ولا عنجهيّة جيش إسرائيلى أرضا وجوّا. هذا على خلفيّة صعود الهويّات «الوطنيّة» المحليّة فى بعض الدول العربيّة وتداعيها فى دولٍ أخرى على أسسٍ عرقيّة ومذهبيّة.
وتعيش البلدان العربيّة حروبا خفيّة أو صريحة بين بعضها البعض، وتنهار بعضها كأوطان وتتقسّم، دون رادع أو تحسّب لما سيأخذ إليه هذا التداعى على الجميع. بل إنّ شعوب هذه البلدان تجوع رغم ثراء أرضها وثراء جيرانها.
لا معنى لصراع الحضارات فى عصر الجنون الحالى. وإنّما هناك دروسٌ للتاريخ. أنّ الهويّات التى لا يُمكن التهرّب من جذورها لا تأخذ الشعوب إلى مستقبل أفضل سوى إذا تبنّت مشروعا «وطنيّا» واقعيّا يحمل فى طيّاته تقدّما للمجتمعات وحمايةً لها... حتّى، وخاصّةً، من جنونها.
-----------
الشروق

سمير العيطة
الاثنين 4 أبريل 2022