منذ أن قدر الله لي الخروج إلى هذه الدنيا عربيا مسلما، وقضايا عالم العرب لا تنتهي ولا تريد أن تجد حلا وتنتهي مثلما انتهت قضايا ومشاكل أجزاء كثيرة من هذا العالم، ونصبح مثل بقية خلق الله، نعيش بحثا عن أهداف وغايات جديدة تتعلق بجمال الحياة ورغد العيش والسلام مع النفس والعالم.
كل العالم مر بمشكلات عويصة، وكانت له قضايا غاية في التعقيد، وكان له من الخيبات والنكسات والإخفاقات الشيء الكثير، ولكنه في النهاية توصل إلى حل لها بهذا الشكل أو ذاك وواصل الحياة كما يجب أن تكون الحياة: قدرة على الاستمرار وبحث عن الأفضل.
لا يعيش هذا العالم في الجنة، أو حتى في شيء قريب منها، ولكنه تخلص من مشكلاته السابقة، ولديه الآن من المشكلات الجديدة والقضايا الحديثة الشيء الكثير، فمن قال إن هنالك عالما بلا مشاكل ولا قضايا. بل إن جمال الحياة وقيمتها يكمنان في الصراع معها حيث أنه ومن خلال هذا الصراع تمنح الحياة رحيقها في النهاية لا لصاحب الحظ السعيد، ولكن لصاحب المجهود الأكبر والنية الخالصة في استخراج التبر من التراب، والألماس البراق من الفحم القاتم، وذلك مثل غانية يتصارع على قربها مختلف العشاق، فلا تمنح نفسها في النهاية إلا لمن تجد أنه الأكثر عشقا لها، والأكثر تفانيا في التودد إليها قولا وعملا.
"أمّ" القضايا
كل هذا كان يجري ويجري إلا في عالم العرب، حيث المشكلات هي ذاتها، والقضايا هي نفسها، والحديث ذاته وذات الخطاب، حيث أنك لو نظرت إلى افتتاحية صحيفة أو مجلة، أو استعرضت عنوان كتاب قبل عقود من الزمان، لما وجدت تغيرا في المضمون، وإن تغيرت الأسماء والتواريخ، إذا يبدو أن ”ظرف الزمان” غائب عن هذه الرقعة من العالم، وما عدنا إلا سجناء اللحظة و”ظرف المكان“.
وعلى كثرة قضايا العرب الثابتة، كثبات لحظاتهم الزمنية، واستمرار مشكلاتهم التي لا يُراد لها أن تُحل، لأنهم هم أنفسهم لا يريدون لها أن تُحل، لغايات في نفس يعقوب قضاها، وليس لغاية واحدة فقط، فإن قضية واحدة كانت هي محور كل القضايا، و”أمّ” كل القضايا، حيث أصبحت هي “القضية” دون الحاجة إلى القول إنها قضية فلسطين حين الحديث، فالكل يعلم أنها هي القضية.
كل شيء حدث كانت ”القضية” تقف وراءه، إما تبريرا أو تفسيرا أو شعارا أو عنوان حياة. ثوراتنا وانقلاباتنا وعلاقاتنا مع العالم حولنا والبحث عن غاياتنا، الصغير منها والكبير، أصبح متعلقا بالقضية، وكل شيء في حياتنا أصبح مؤجلا لما بعد حل القضية، وكل جميل في هذه الدنيا تقف القضية أمام تحقيقه: فلا تنمية أو حرية أو ديموقراطية أو سؤددا عالميا، أو مجرد حياة عادية كحياة بقية البشر، قبل التحرير وإزالة السرطان الإسرائيلي، الذي ما زُرع في أرض العرب إلا ليكون إسفينا يفصل ما بين شرقه وغربه، وما حُقن في أوردة العرب إلا ليكون مرضا عضالا يعيقهم عن تحقيق الأمجاد و” العودة ” إلى سيادة العالم والتحكم في مصيره، ” فالمؤامرة” كبيرة، وكل الأعين على العرب والمسلمين الذين ترتجف القلوب خشية استيقاظهم وعودتهم إلى مسرح الحياة، مؤلفين ومخرجين وممثلين، وفي النهاية تبين أن كل ذلك كان طبقات وهم بعضها فوق بعض، وتبين في النهاية أن القضية ليست بقضية، بقدر ما كانت مبررا لكل طاغية وفاسد، وشعارا لكل طامع في سلطة، ووسيلة لكل راغب في جاه وثروة وزعامة، ومطية لكل طامع لا يجد له مطية.
تداعت كل هذه الأفكار إلى الذهن بعد أن قال لي صديق عربي معاتبا، بل مؤنبا حقيقة الأمر: ”لم تعد تكتب في ”القضية” يا صديقي، وأنت اليوم تكاد تكتب في كل قضية ومجال“. ثم وهو يضحك ضحكة مقتضبة: ”بل حتى الدين والجنس وكل “تابو” عرفه العرب في عالمهم أو تعارفوا عليه، لم يسلم منك ومن قلمك، فأين القضية من كل ذلك، وأنت الذي كنت تقول وتقول في هذا الشأن؟”.
نظرت إليه بطرف العين، ونصف ابتسامة ترتسم على فمي، فيما كان القلب يعتمل بكل المشاعر المرة والحامضة والمالحة، وعدت إلى نفسي محدثا، و”أهوجس كن ما حولي جماعة“، على رأي ” الفنان محمد عبده”، وإن لم تكن الحبيبة الهاجرة هي سبب هذه ”الهواجس“، أجيب نفسي قبل أن أرد على الصديق: لأنني قلت الكثير على مدى عقود من الزمان، فقد وصلت إلى مرحلة من اقتنع في النهاية أنه ”ينفخ في قربة مقطوعة، كما يقول المثل الشعبي المصري، أو وفق مقولة دعها فإنها مأمورة، فلهذا أصمت عن قضية تحولت إلى قضية من لا قضية له. بل أصبحت مشجبا تعلق عليه الإخفاقات، وسلعة تُباع وتُشترى ويستفيد منها المستفيدون، كأي شيء في عالم العرب، بدءا بالدين والقومية والوطنية، وانتهاء بالفرد والناس والهوية، وما بين ذلك من كل شيء أُحل حرامه، وولغ الكل في حلاله، فأنا متعب يا صديقي، ليس بعروبتي فقط كما قال صناجة العرب في هذا الزمان، بل وبكل وجودي في عالم تبحث فيه عن ظل إنسان بمصباح ديوجين الفيلسوف في رابعة النهار، فلا تجد إلا حطام ظلّ فما بالك بإنسان. مالحة في فمنا ليست القصائد وضفائر النساء والليل والأستار والمقاعد فقط، وكما قال الصناجة نزار أيضا، بل إن كل الوجود أصبح عبئا لا يُطاق، فهل تنتظر مني بعد ذلك أن أتحدث عن “القضية “، بعد أن فقدت الكلمات قيمتها، وأصبحت القضية كرة بلهاء تتقاذفها أحزاب وجماعات ودول وأنظمة هنا وهناك، وشيوخ وملالي ولاعبو شطرنج في عالم تساوى في أمره هذا عرب وعجم وبيض وحمر، ناهيك عن أهلها وأربابها ممن كانت شعاراتهم لا تقبل بأقل القليل من تراب مقدس يمتد من النهر إلى البحر، ومن تخوم لبنان إلى قطرات ماء القلزم في العقبة وما أدراك ما العقبة، وأحراش تبدأ في أغوارها ولا تنتهي قبل أن تلامس مياه بحرها في حيفا ويافا وتل أبيب، فإذا بنا اليوم نصل إلى مرحلة يستجدي فيها آباء القضية شيئا من تراب، أو مزيدا من سلطة في سلطة لا سلطان لهم عليها.
طوال الوقت نسمع أن ”محادثات السلام” وصلت ”إلى طريق مسدود بسبب تعنت إسرائيل”، والأمر لا علاقة له بتعنت إسرائيل ورفضها ”لسلام عادل“، فالعدل مسألة نسبية كل يرى أنه بجانبه، ولا يصرخ طالبا للعدل إلا من كان ضعيفا، فهذه حجة مللنا من ترديدها، فعدلهم ليس عدلنا، وعدلنا ليس عدلهم، والعدل المنتصر هو ما تفرضه القوة في النهاية، ولكن لأن كل القضية أصبحت إوزّة تبيض ذهبا للكثيرين، فهل يقتلون إوزّة تمنحهم عند كل مشرق شمس بيضة من أبريز ويستعيضون عنها بحفنة من تراب، لا تسمن في النهاية ولا تغني من جوع؟
أشك في ذلك يا صديقي. لم تعد القضية مبلغ همي ولا حتى جزءا من ذلك الهم، وذلك حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وكيف تكون “القضية” مبلغ همي وغاية مرادي كذلك وهي لم تعد هما لأصحابها المنشغلين بأنفسهم، إلا قلة ممن رحم ربي ممن هم عاضّون على المبادئ بالنواجذ، في رومانسية سياسية أكثر منها واقعية، والباحثين عن مكاسبهم الذاتية باسم القضية، وإلا كيف، وخلال أكثر من ستة عقود من عمر ”الصراع” العربي الإسرائيلي، لا نخرج من عنق زجاجة حتى ندخل في عنق زجاجة أخرى، ولا نكاد نرى الضوء في آخر النفق، حتى يأتي من يردم النفق برمته، سواء من أهل القضية أنفسهم، أو ممن لا تشكل لهم القضية إلا ورقة لعب سياسية لا يريدون فقدانها، على مائدة بوكر لا ترحم من كانت أوراقه ضعيفة.
أكثر من ستة عقود من عمر ” الصراع” العربي الإسرائيلي، ونحن نخرج من عنق زجاجة إلى عنق زجاجة أخرى أضيق وأحد، والخاسر الوحيد في كل ذلك هو الفلسطيني البسيط، المُلقى كالأجرب في المخيمات وعلى أطراف مدن العرب، أما اللاعبون الكبار على الموائد الخضراء والحمراء، ومن كل الأطراف، فهم لا يتنفسون إلا في أعناق الزجاج، ولا يستبشرون إلا ببيضة الإوزّة الذهبية التي تُغذّى بكل غال ونفيس من أغلال المال وخيرات الأرض والسماء، كي لا تموت الإوزّة وتضيع البيضة.
كابوس إسرائيل
إسرائيل ليست إلا خلية سرطانية يُراد من خلالها سرطنة الجسد العربي، أو المارد العربي، زرعه الغرب في أرض العرب، في ”مؤامرة” تاريخية كبرى، اشترك فيها الصهيوني الماكر، والاستعماري الطامع، والصليبي الحاقد، كي لا ينمو هذا الجسد ولا يستيقظ ذاك المارد، ولا يمكن للجسد أن ينمو ولا للمارد أن يستيقظ إلا إذا استؤصل هذا الورم السرطاني الخبيث. هكذا قيل لنا، وهكذا أصبحت ”القضية” حجر الرحى في خطاب العرب السياسي النهضوي، إذ لا نهضة بوجود إسرائيل، ولا جنة عربية دون زوال إسرائيل، وصدقنا كل ما قيل، وأصبحت إسرائيل كابوسا جاثما على الأنفاس ومتغلغلا في الأنفس منا، ووهما مريحا نبرر به سيئات أعمالنا ورداءة أوضاعنا.
ولكن لنفرض أن العرب، وبقدرة قادر، استطاعوا إزالة ” الدويلة ” الإسرائيلية من على خريطة الوجود، فهل كان الوضع العربي سيكون أفضل مما هو عليه اليوم؟ سؤال افتراضي علمه عند علام الغيوب لا شك في ذلك، ولكن في ظل معطيات الواقع الاجتماعي والسياسي والتاريخي والثقافي العربي، أستطيع القول إنه وعلى الأرجح لن يكون واقع العرب أفضل مما هو عليه اليوم.
هل كانت إسرائيل، ومن هم وراء إسرائيل كما يحلو لنا القول، هم من صنع هذه الطائفية المريرة التي كشرت عن أنيابها في دنيا العرب، بحيث أصبحت اللافتات الطائفية تُرفع حتى في ملاعب الكرة وعلى أعمدة الشوارع، وحيث أصبح الشيعي مثلا تجسُّدا لقمة النجاسة في عين السني، والسني تجسُّدا لقمة الدناسة في عين الشيعي؟ وهل كانت إسرائيل هي مبدعة الفساد المستشري في دنيا العرب مشرقا ومغربا؟ وهل كانت إسرائيل هي الهامسة في آذان المستبدين أن استبدوا بشعوبكم، واحرموهم من حقوق الحيوان قبل الإنسان، ولكم عندنا كل جائزة سَنِيَّةٍ؟ وهل كانت إسرائيل هي المبشرة بثقافة العنف والنفاق والإقصاء والتخلف الاقتصادي، رغم ثروات الأرض الريعية التي منحها الرب لعباده من العرب بغير حساب، في فرصة تاريخية نادرة لن تتكرر، والبكاء على أطلال الماضي، والعيش في رومانسيات الماضي التليد وأحلام يقظة كسرت في النهاية جرة العسل؟ سيأتي من يقول ”نعم“، فلولا إسرائيل لما كانت انقلابات العسكر ونظم الاستبداد باسم أن لا صوت يعلو على صوت المعركة، ولا هدر الموارد فسادا باسم ”القضية“، ولما استشرت جرثومة الطائفية والقبلية وكل درن فئوي، حيث وصلنا إلى مرحلة أصبحنا فيها نخشى على دولنا الوطنية من التقسيم والتفتيت، كما تتفتت رئة في المراحل الأخيرة من السل، بعد أن كان يُقال لنا إن هذه الدول ليست إلا كيانات من ورق لا يلبث أن تتهاوى مع قدوم رياح وحدة قومية أو دينية، فلُبّ الشعارات في النهاية واحد وإن اختلفت الكلمات. لا شك أن قيام إسرائيل في المنطقة كان له دور في كثير من التغيرات السياسية والثقافية التي كان لها أثر مستقبلي سلبي، ولكن لا إسرائيل، ولا “من يقف وراء إسرائيل”، خلق ذلك الوضع التاريخي الذي أدى بنا إلى واقع اليوم. أن تستغل إسرائيل وغيرها مثل هذا الواقع من أجل مصلحتها وغاياتها أمر لا خلاف عليه، وتفعله كل الدول، ولكنها لم تخلقه وإن استغلته أو حاولت مفاقمته. فانقلابات العسكر كانت ستجد لنفسها طريقا ومبررا لشرعيتها غير تحرير الأرض، فيما لو لم يكن لإسرائيل وجود، فجذورها اجتماعية وليست إسرائيلية، وما كان عسكر أميركا اللاتينية بحاجة إلى ” قضية” كي يبرروا انقلاباتهم. وطائفيتنا موجودة منذ أيام “الفتنة الكبرى“، حيث لا يعيش العقل العربي إلا على اجترار الماضي وأيام الماضي. خللنا منّا وفينا، كما أن ”دود المش منه وفيه“، كما يقول المصري أفندي البسيط، ولولا المش لما كان الدود.
صراع الإخوة
” الصراع” مع إسرائيل هو سبب كل ما نريد أن نخفيه من سبب لسوء الحال والمآل، ولكن ها هي إسرائيل، “الدويلة السرطانية“، و”الجرثومة الوبائية“، و”كيان شذاذ الآفاق”، قد أصبحت قوة إقليمية يخطب ودها الجميع، رغم أنها هي ذاتها كانت منشغلة بالصراع طوال الوقت، حتى أولئك الزعماء وتلك الأنظمة والجماعات والدول التي تقوم شرعيتها وشعاراتها وخطابها على الصراع مع ”العدو الصهيوني“.
وها هي ”دويلة العصابات الصهيونية” تتحول إلى مصدر رزق لآلاف من وقود القضية وحطبها، وأقصد بهم الفلسطينيون البسطاء الذين يذهبون إلى إسرائيل مع إشراقة كل شمس بحثا عمّا يسد رمقهم ورمق من يعيلون، في وضع ندرت فيه اللقمة حيث هم مهملون، فيما أخبار الفساد والصراع بين ”الأخوة” و” الرفاق ” تزكم الأنوف، وبنوك أوروبا وأميركا وحتى إسرائيل تُتخم كل يوم بملايين من دولارات ”القضية“، إن لم يكن ملياراتها، ولسان الحال يقول: ”إن كان هذا أولها، ينعاف تاليها“.
نعم يا صديقي، لم تعد ”القضية” جل اهتمامي، بل لم تعد تشكل جزءا من اهتمامي، بعد أن تحولت جل كياناتنا وأنظمتنا إلى ”دويلات لعصابات ، فيما استطاعت “دويلة العصابات” أن تتحول إلى كيان لو قارنّا أوضاعه بأوضاعنا لوجدنا أنه يتفوق علينا في كل شيء، رغم كل النعم والفرص التي حبانا بها الخالق، ولكن يبدو أننا أصبحنا ”بني إسرائيل” هذا الزمان، يختارنا الإله من بين كل الشعوب لمنح خيره وبركته، ولكن لا حياة لمن تنادي، كبذرة أُلقيت في أرض يباب.
القضية اليوم يا صديقي هي قضية الفساد والاستبداد وثقافة الكراهية والبكاء على الأطلال والتخلف بكل أشكاله، فمتى ما حللنا هذه القضية انحلت كل قضية ولا تعود لدينا أية قضية، أو وهم قضية، وساعتها ليجتمع الشرق والغرب للتآمر إن أرادوا، فالمؤامرة لا تنجح إلا حيث تتكاثر الجراثيم، والجراثيم لا تتكاثر إلا حيث يتراكم العفن.. وما أكثر العفن في دنيا العرب..
------------
العرب