«الجودة لا تأتى مصادفة. هي نتاج نوايا حسنة، وجهد صادق، وتوجيه ذكي، وإخراج متمرس.. إنها اختيار حكيم لبدائل متعددة»
الجندي الأمريكي الأول وليم فوستر
مع تزايد عدد المحطات الفضائية العربية في السنوات القليلة الماضية، تزايد الطلب على المذيعين والمذيعات، وبالطبع تزايد أيضا في نطاق معدي البرامج والمحررين والمصورين، وكل ما يرتبط بإبقاء ''الهواء'' مفتوحا مباشرا أو تسجيلا. فـ ''الهواء المفتوح'' –دون توقف- يحتاج إلى طاقات وكوادر، لجعله مستمرا، ويحتاج بالطبع، إلى أفكار ورؤى، لكيلا يغلق المشاهد ''النوافذ'' درءا لـ''الرياح التلفزيونية'' غير المرغوبة. لا أتحدث هنا عن كل الفضائيات العربية. لماذا؟ لأن غالبيتها العظمى، تدار الواحدة منها من قبل شخص - أو اثنين في أفضل الأحوال- هو في الواقع مشغل لأشرطة فيديو، لا مشرف على بث تلفزيوني مهني! هي أشبه بـ ''بقاليات'' بصرية، ''جميع الموظفين'' في كل واحدة منها، مختصرون في موظف واحد فقط. وقد اطلعت شخصيا على هذا الواقع، خلال زيارة لي، لأحد أكبر مراكز تنظيم البث التلفزيوني الفضائي العربي في المنطقة، حيث وجدت ''استوديوهات'' لعشرات المحطات الفضائية العربية، هي عبارة عن غرفة، لا تزيد طولا على مترين، وعرضا عن المساحة نفسها، أوكلت المهمة في كل محطة لموظف واحد، بل أوكلت المهمة في بعضها إلى '' فراش''، يقوم بتغيير الأشرطة، في فترات معينة، لمواصلة البث!
ليس هذا هو ما أريد تناوله، علما بأنه يستحق أن يطرح في منتدى متخصص، ويناقش من كل جوانبه – ولاسيما المهنية منها - لا من خلال مقال هنا وآخر هناك. الذي أردت طرحه ، هو احتياجات المحطات الفضائية الرصينة (وهي بالمناسبة قليلة مقارنة بعدد ''البقاليات'' البصرية) التي تقوم على قواعد المؤسسات، من المذيعين والمذيعات، بصرف النظر عن طبيعة هذه الفضائيات، سواء كانت متخصصة أو غير متخصصة. هذه المحطات تحتاج إلى ''وقود'' متجدد –ومتميز أيضا - من هؤلاء الكوادر، مع الأخذ في الاعتبار، أن هذا الجانب يشكل ثقلا كبيرا، على كاهل الميزانيات المخصصة لجميع المحطات التلفزيونية.
لا تزال غالبية إدارات هذه المحطات، تعاني من ''الغشاوة'' في أعينها، في الكشف عن مكنوناتها الداخلية، من العاملين فيها الذين يمكن أن يتحولوا إلى نجوم تلفزيونية. هذه المكنونات يمكن أيضا أن توفر لها خطط ''إنقاذ'' في بعض الحالات، ولاسيما في أوقات الأزمات، في الوقت الذي لم يشهد فيه العالم أزمة أثرت بصورة سلبية على مداخيل المؤسسات الإعلامية، كالأزمة الاقتصادية الراهنة. هذه الأزمة أجبرت مؤسسات إعلامية لا تقهر، على إعادة ترتيب أوضاعها، وصياغة استراتيجيات لا تكفل لها الدخل المالي المطلوب أو تحد من خسائرها فحسب، بل تحميها من الانهيار، أو على الأقل تحفظ لها الاستمرار. ويكفي الإشارة هنا إلى مؤسسات المستثمر الإعلامي العملاق روبرت ميردوخ، التي تعيش معاناة مالية ضخمة، دفعته إلى التفكير بفرض رسوم على تصفح المواقع الإلكترونية الإخبارية التابعة له، معترفا بوقع الأزمة عليه.
إدارات المحطات التلفزيونية العربية تجهد نفسها وميزانياتها، في البحث عن النجوم، وتتحمل عناء التفاوض – وأحيانا العنجهية من هذا النجم وتلك النجمة- بينما لا تبذل جهدا في صناعة هؤلاء النجوم من داخلها، ولا تلتفت إلى هؤلاء القابعين وراء مكاتبهم، الذين يمكن العثور بكل ببساطة على '' نجم مؤجل أو نجمة مؤجلة'' بينهم. فالأمر كله، يحتاج إلى بصيرة مسؤول، لا إلى أداء مدير تقليدي، من أجل إنتاج نجوم تلفزيونية داخلية، أو كما يقال في التعبير المصري: ''من منازلهم''. وإذا كان عمل المذيع الناجح – مرة أخرى في المحطات المهنية – يستند إلى ثقافة واطلاع، وإلى الحد الأدنى من العمق الفكري، فهو يحتاج أيضا إلى الموهبة، التي لا تُكتسب من كل العناصر المشار إليها. وهنا يأتي دور ''المسؤول البصير''، الذي يمكنه أن ''يعجن'' هذه الموهبة الجالسة وراء مكتب في أحد أطراف المحطة، ليجلسها أمام ''حائط تلفزيوني'' وفي وجه عدسات الكاميرات.
الأمر ليس سهلا. فهو يحتاج إلى وقت وجهد – وأحيانا إلى نفس طويل-، ويحتاج قبل هذا وذاك، إلى البراعة في استقراء مستوى وحجم هذه الموهبة المتوارية، ومدى تجاوبها مع المتطلبات الرئيسية للمذيع أو المذيعة. وإذا ما اكتملت هذه العناصر، فإن المحطة التلفزيونية، ستحقق الكثير من الأهداف، في مقدمتها: أنها تنشر جوا من الرضا الوظيفي لدى كل العاملين، لأن مثل هذه الخطوة، ستعزز ''تكافؤ الفرص'' - إن وجدت- أو تخلق حالة من تكافؤ الفرص، ليست موجودة أصلا، وستنشئ أجواء أسرية مطلوبة في بيئة العمل، كما أنها ستزيد من جرعة الولاء لمكان العمل نفسه. وستدفع هذه الخطوة أيضا، الكثير من الموظفين الطموحين إلى تحسين وتطوير أدائهم، بل ستجشع الموهوبين منهم، إلى تطوير مواهبهم من خلال التحصيل الثقافي الذاتي، قبل أن تخضع ( إن وجدت الفرصة) للتأهيل المهني - الثقافي في الموقع الجديد المزمع. وستؤدي هذه الخطوة أيضا.. وأيضا، إلى ''التصالح'' المفقود بين العاملين وإداراتهم. فعندما تتوافر الفرصة بصورة مهنية وعادلة، تقوم أقوى رابطة بين أطراف المؤسسة كلها، ولاسيما بين الإدارة والعاملين في الميدان.
لا أتحدث هنا عن الإدارات التي تمارس المسؤولية '' بمفاهيم شخصية'' أو آفاق ضيقة، فهذه لا تخضع لأية معايير مهنية، وليست مؤهلة للتطوير، وبالتالي لا يمكنها أن تقترب من مستوى ''الإدارة البصيرة''، وهي في النهاية ''إدارة حاكمة'' فقط، الفارق بينها وبين الحكومات، أنها لا تمتلك سجونا. لكن الذي يعنيني في هذا المجال، تلك الإدارات المرنة، القابلة للتمدد – وقت الحاجة- والتقلص – عندما تكون مضطرة- وفق حقائق السوق، ولكن بأكبر فائدة ممكنة، وأقل أضرار كامنة. إن الاستثمار التلفزيوني في ''مواهب الداخل''، هو أرخص هذا النوع من الاستثمارات، لكنه أكثرها عائدا (مرة أخرى، خصوصا في أوقات الأزمات الاقتصادية)، لأنها لا تنحصر في استحداث مذيع '' وليد'' جيد، بل تحول المحطة – المؤسسة في وقت لاحق، إلى مدرسة تلفزيونية تحتذى، من خلال تعزيز أركانها بـ''بضائع'' محلية ليست عالية التكلفة، وتجنب ''الواردات'' المكلفة. غير أن مهمة ''الإدارة البصيرة''، لا تنتهي بـ ''إنتاج'' مذيع جيد ( أو مذيعة جيدة)، بعد انتشاله من إحدى زوايا المحطة، بل تستمر للحفاظ عليه، ضمن نطاق أسري – مهني، هو بمثابة ''الكل الضامن''، لا الربع ولا الثلث ولا النصف الضامن!!
إن هذه المنهجية المهنية، توفر أقوى آليات الدعم – وحتى الاستمرار - ولاسيما للمحطات التلفزيونية التي لا تتمتع بميزانيات مفتوحة، لكنها أكثر حرفية من غالبية المحطات، التي تستحوذ على أكبر الميزانيات. فالقضية لا تحتاج إلى المال، بقدر احتياجها إلى إدارات تتمتع بذهنية مهنية خالية من الشوائب، وتفتخر بها أيضا. إدارات تتعاطى مع المواهب الكامنة في محطاتها كـ '' بنك احتياطي بشري''، يوفر الأمان المطلوب – تماما كالبنوك المركزية الراشدة – للمؤسسة، وينتج النجوم التلفزيونية المتوارية.
مرة أخرى.. إن هذا الأمر ليس سهلا، لكن عندما تفتح الأبواب أمام الطاقات، يمكن قياس جودتها وقدراتها على التطوير والتطور. فوراء الأبواب المغلقة، تختلط الطاقات الوهمية، وتلك الكامنة، ولا تترك مجالا للاختيار الصحيح. يقول العالم الأميركي توماس أديسون:'' لو فعلنا ما نحن قادرون على فعله.. لصعقنا أنفسنا''. وليس أفضل من الأزمة الاقتصادية - التي ''أزمت'' كل القطاعات في العالم – لكي يقوم المسؤولون في المحطات التلفزيونية العربية، بفعل ما هم قادرون على فعله. ولاسيما أن هذه الأزمة قللت الدخل الإعلاني والتمويل، وقلصت الوظائف و''شدت الأحزمة''.
إن عملية الاختيار، لا تحتاج سوى إلى ساحة داخلية مفتوحة، مع بصيرة متجردة، إلا من الولاء للمؤسسة.