بيد أن شيئاً من هذا لم يتحقق، عدا المكاسب الجغرافية المحدودة التي حصدتها قوى المعارضة المسلحة، وبشكل متواصل أسبوعياً تقريباً، في منطقتي الجولان ودرعا ومؤخراً في السويداء. هذا في حين كان جل تركيز المعارضة والقوى الدولية والإقليمية المعارضة للنظام السوري الحالي، منصباً على الجبهة الشمالية المتاخمة للحدود التركية، لا الجبهة في الجنوب.
مؤشرات جديدة
لكن يبدو أن الأمور مقبلة على تغييرات كاسحة في الآتي من الأيام.
المؤشر؟ ثمة مؤشرات عدة لا واحدا:
المؤشر الأول: الانهيار شبه الكامل لأي فرصة للوفاق الأميركي- الروسي حول التسوية السياسية في سورية، في أعقاب كلٍ من فشل مؤتمر جنيف 2 الذي أنحى المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي بلائمته (الفشل) على النظام السوري، وانفجار الأزمة الأوكرانية ومعها شبح عودة شكل من أشكال الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
ويجمع العديد من المحللين الغربيين على توقع قيام الولايات المتحدة الآن برمي بعض ثقلها وراء المعارضة المسلحة في جنوب سورية، من جهة بهدف تمديد خطوط المجابهة مع روسيا (التي يستنزفها، كما إيران، الدعم الكثيف للنظام السوري المُفلس) إلى الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى لتعديل موازين القوى في بلاد الشام إلى درجة تكفي لإقناع الرئيس بشار الأسد بالعودة إلى طاولة مفاوضات، لكن هذه المرة مع استعداد للتوصل إلى تسوية ما.
المؤشر الثاني: تأكيد ديفيد أغناتيوس، الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" المُقرّب من دوائر البنتاغون، قيل أيام، أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي. أي. آي) تدرب وتخرّج 250 عنصراً من المعارضة السورية شهرياً، يتوجهون بعدها إلى القتال في الجبهة الجنوبية. هذا في حين سرت أنباء غير مؤكدة بأن القوات الخاصة الأميركية تدرّب أيضاً العديد من كوادر المعارضة المسلحة السورية على الحرب ضد الإرهاب في قاعدة عسكرية خليجية.
وتشير تقارير نشرتها صحف أميركية عدة أن المعارضة السورية في الجنوب طالبت (وحصلت على) مدفع رشاشة ثقيلة ستمكّنها قريباً من إسقاط طائرات الهليوكوبتر، هذا في حين كان أغناتيوس يؤكد أن المملكة السعودية أرسلت بالفعل إلى الأردن صواريخ مضادة للطائرات، لكن هذه الدفعة لم تُسلَّم إلى المعارضة بانتظار الضوء الأخضر الأميركي.
المؤشر الثالث: القرارات التنظيمية الأخيرة التي اتخذها الإئتلاف الوطني السوري، والتي انتقلت بموجبها القيادة العسكرية للمعارضة من الحدود التركية إلى مدينة الرمثا على الحدود الأردنية، عبر تعيين عبد الإله البشير النعيمي قائداً والعقيد المنشق هيثم نفيسي (وهو أحد قادة جبهة ثوار سورية التي يتزعمها جمال معروف، النجم الصاعد في المعارضة المسلحة السورية) نائباً له.
هذه الخطوة التنظيمية، التي أسفرت عن تشكيل "غرفة عمليات" واحدة للجبهة الجنوبية بدعم من الأجهزة الأمنية الأميركية والاوروبية والعربية، بقيادة النعيمي، والتي ستنسِّق نشاطات نحو 30 ألف مسلح ينتمون إلى تنظيمات رئيسة، وينشطون في منطقة شاسعة تمتد من ضواحي دمشق شمالاً إلى الحدود الجنوبية لسورية ومرتفعات الجولان.
إلى دمشق
"يتم التحضير الآن لحملة عنيفة للغاية ضد النظام. الطرق نحو دمشق والمناطق المحاصرة ستُفتح قريبا. لقد تم إحراز الكثير من التقدم مؤخراً في جبهة الجنوب، وستسمعون قريباً عن المزيد من المناطق المحررة".
هكذا تحدث ليث حوران، الناطق باسم كتائب اليرموك، وهي إحدى الفرق العاملة في الجنوب. وهو رأي يبدو أن محللي صحيفة "فاينناشال تايمز" الرزينة يتبنونه. إذ ذكروا (6 مارس/ آذار الحالي) أن "مقاتلي المعارضة السوريين وداعميهم الدوليين يعدون العدة لهجوم على دمشق انطلاقاً من الجنوب، في ما يمكن أن يكون تحولاً دراماتيكياً في استراتيجيات الحرب السورية".
لقد بات واضحاً الآن أن الجهود الغربية والعربية لدعم المعارضة "المعتدلة"، تتركز الآن على بناء هيكلية واستراتيجية لـ"جبهة جنوبية" يُعاد تعريفها من جديد، ولها شبكة قوات تنتشر من الحدود الأردنية إلى الريف المحيط بدمشق. وبالتالي، لم يعد اهتمام هذه الجهود ينصب على من سيزوّد بالسلاح، بل على البنى التنظيمية والتخطيط العسكري.
ويقول هنا تشارلز ليستر، المتخصص في شؤون تنظيمات المعارضة السورية في مؤسسة بروكينغز، أن " ثمة إدراكاً في الولايات المتحدة والغرب بأن شمال سورية أصبح معقداً للغاية في هذه المرحلة، حيث أنه لم يعد محتملاً أن تسيطر القوى المعتدلة على المنطقة ضد المتطرفين أو أن تحقق مكاسب ضد نظام الأسد. وهذا أدى إلى فهم آخر بأن الجنوب مفتاح أكثر واقعية لتحقيق نجاحات عسكرية يقودها معتدلون".
يضيف أن دمشق تبعد 500 كيلومتر عن أقرب نقطة في جبهة الشمال، في ما لاتبعد دمشق سوى 120 كيلومتراً عن جبهة الجنوب. والهدف الرئيس من وراء الاندفاعة المتوقعة للمعارضة المسلحة نحو دمشق هو السيطرة على الطريقين الرئيسيين اللذين يربطان العاصمة بالجنوب على طول طوبوغرافيا مسطحة.
علاوة على ذلك، فتح جبهة الجنوب، سيخفف الضغط كثيراً على جبهة الشمال، الأمر الذي سيمكّن قوى المعارضة المعتدلة هناك من تصفية الحسابات مع "داعش" وبعض أجنحة جبهة النصرة.
كيف سيرد النظام السوري على هذه الخطط التي باتت علنية؟
الرد بدأ بالفعل. وهذا تجسد في انتقال حملة البراميل المتفجرة من حلب ومناطق الشمال إلى مناطق الجنوب. كما يجب ألا ننسى هنا أن النظام حشد منذ بداية الانتفاضة السورية قبل سنوات ثلاث زهاء 40 في المئة من وحداته المقاتلة في دمشق، لإدراكه أن بقاءه يعتمد أولاً وأخيراً على سيطرته على العاصمة.
وهذا ماسيجعل المعركة المقبلة في الجنوب- دمشق من أشرس المعارك وأقساها، وأيضاً من أكثرها قدرة على تغيير المعادلات وقلب الاستراتيجيات كافة.