ما قدّمه دي ميستورا حتى الآن لا يسمح بقراءة أو استنتاج الجواب. هذا مع إقرارنا بخبرة الرجل وتفرّد أسلوبه في التعامل مع القضايا المعقدة سابقاً. وهناك من يرى أن الرجل قرر البدء من القاعدة، من الميدان، ليصل لاحقاً إلى الذروة المتمثلة بالحل السياسي الشامل، وذلك بعدما فشلت مفاوضات جنيف 2 الكرنفالية التي قامت على فكرة أن الحل السياسي هو الأساس، وأن القضايا الأخرى، الإنسانية والميدانية، ستعالج بسهولة أكبر بعد بلوغه.
المبادرة الثانية التي بدأت تثير اهتمام مختلف الأطراف، وهي موضع مناقشات داخلية ضمن المعارضة السورية بأطرها الكثيرة، فهي التي دعت إليها وزارة الخارجية الروسية. مضمونها يقوم على إنجاز خطوتين متضايفتين: تتجسد الأولى في جمع المعارضة بكل أطيافها وتوجهاتها، أُطراً ومنظمات وشخصيات، من دون أحكام مسبقة، ليتحاور الجميع معاً للوصول إلى قواسم مشتركة بخصوص آفاق وملامح الحل السياسي. بعد ذلك، تأتي الخطوة التالية عبر تنظيم حوار بين المعارضة والنظام، للوصول إلى توافقات في شأن الحل السياسي الممكن.
وهذه المبادرة هي الأخرى تستوجب تساؤلاً مشروعاً: ما طبيعة التصور الروسي وحدوده لسقف الحل المنشود وإمكانيته؟ فهل باتت روسيا مقتنعة فعلاً بضرورة التوصل إلى معالجة الوضع في سورية، بخاصة بعد تفاقم مشكلاتها الاقتصادية نتيجة العقوبات الدولية، وتراجع أسعار النفط، إلى جانب الأزمة المفتوحة في أوكرانيا، وتراجع العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، أم إنها ستظل على موقفها المعهود بالنسبة إلى سورية، وما دعوتها هذه سوى محاولة لإعطاء المزيد من الوقت للنظام، حليفها، عبر إشغال المعارضة، وبلبلتها، والسعي إلى تدجينها، تمهيداً لإدخالها في عملية سياسية مع النظام، وبالشروط التي تناسب الأخير، وتتناغم مع الحسابات والمصالح الروسية؟ وبطبيعة الحال، يبقى الموقف الإيراني من المبادرة المعنية الصندوق الأسود الذي لا بد من أخذ محتوياته في الاعتبار. وإلى هاتين المبادرتين، هناك من يتحدث عن جهود مصرية تتمحور هي الأخرى حول إمكانية إجراء حوار بين المعارضة والنظام، حتى لو بطريقة غير مباشرة، للوصول إلى حل ما.
وربما كان الإيجابي في هذه الجهود، على رغم الملاحظات الجدية حولها، أنها ستساهم في تحريك الأجواء، وتؤكد أن الحل الواقعي الممكن هو في نهاية المطاف سياسي. وعبر التحركات والاتصالات الجارية، يستشف المرء أن هناك خيطاً ناظماً، ولو كان رفيعاً وغير مرئي، بين المبادرات الثلاث.
ولكن هناك، في المقابل، من يرى أن هذه الجهود لن تسفر عن شيء طالما أن النظام يشعر بالارتياح، وبالتالي فالوضع يستوجب إعداد القوى الميدانية، تدريباً ومعدات، وإفهام النظام بالملموس أنه سيواجه ضغطاً عسكرياً في حال عدم انصياعه للحل السياسي الذي لا يكون بشروطه ووفق مقاساته.
وما يعزز موقف هؤلاء أن السمات الراهنة للوضع توحي بعدم وجود استراتيجية أميركية لإحداث تحوّل نوعي في سورية، بينما هناك تركيز على الملف العراقي. وهناك حالة تنسيق غير معلن بين النظام والجهود العسكرية الأميركية في مواجهة «داعش» في سورية. وهي جهود يبدو أنها تستهدف أولاً استنزاف «داعش» وإضعافه، وليس القضاء النهائي عليه. والتسويغ الذي يُقدّم أن الأولوية الآن للملف العراقي.
كل ذلك يؤكد أن الأزمة السورية باتت في غاية التعقيد، بخاصة بعدما تداخلت ثلاثة مستويات هي: الوطني والإقليمي والدولي.
ونتيجة ضعف العامل الوطني بفعل خلافات المعارضة المزمنة، وتبعثر قواهاوتركيز أطرافها على قضايا بينية هامشية، طغى تأثير العاملين الإقليمي والدولي، الأمر الذي أخضع، ويخضع، العملية برمتها لحسابات ومصالح لا تعكس التوجهات السورية، ولا تحترم تطلعات السوريين وتضحياتهم خلال أربعة أعوام. وهذا ما تجلى خصوصاً بعد الإعلان عن التحالف الدولي لمحاربة إرهاب «داعش»، الأمر الذي أدّى إلى تباينات بين مواقف القوى الأساسية في مجموعة أصدقاء الشعب السوري، خصوصاً التباين الأميركي – التركي حول المنطقة العازلة ومصير الأسد. وهناك عدم ارتياح سعودي وقطري لطريقة إدارة الأمور في محاربة الإرهاب في سورية، بخاصة التناسي الأميركي لموضوع النظام، والاكتفاء بضربات جوية ضد «داعش» لم تؤدِّ حتى الآن إلى نتائج حاسمة تقلب الموازين على الأرض. وهذا على رغم دخولهما العلني في التحالف المذكور.
وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أي تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية. فمن دون قيادة سياسية متماسكة للمعارضة تمتلك رؤية سياسة واضحة ومطمئنة لسائر المكوّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتكون بعيدة كل البعد من التعصب والتطرف في أشكالهما، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أن سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وانسجام لمصلحة الجميع، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود. ومن دون قيادة كهذه ستبقى كل جهود المعارضة الميدانية، بما في ذلك تدريب القوات لدى الدول المختلفة، مجرد قطع متناثرة في لوحة غير مكتملة.
والائتلاف الوطني السوري باعتباره المؤسسة الوحيدة في المعارضة التي ما زالت تحظى باعتراف دولي، مطالب أكثر من أي وقت مضى بتجاوز خلافاته العقيمة العبثية التي غالباً ما تدور حول حسابات انتخابية في غير محلها، وذلك استعداداً للانفتاح على القوى الأخرى في المعارضة وبناء العلاقات الوثيقة الحقيقية مع القوى الميدانية الفعلية، والدعوة إلى حوار جاد بمبادرة وطنية سورية هدفها اتخاذ قرارات عقلانية جريئة، تكون مقدمة أكيدة لحل واقعي يضع حداً لمحنة الشعب والبلد.
-----------
- الحياة