بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على إعلان هذه المساعدة، بدأ الجيش الأوكراني عملية عسكرية واسعة لاستعادة مناطق تمرّدت في الشرق واستعدّت للانفصال بفعل ولائها لروسيا. وكان الوضع في هذه المناطق تأرجح بين يقين وغموض، إلا أنه اتضح أواخر الأسبوع الماضي أن الانفصاليين باتوا يسيطرون على معظم المدن والمقار الحكومية فيها. كما سجّل ظهور مسلحين بألبسة موحّدة تدلّ على وجود ميليشيات محليّة مدرّبة أو إلى وجود فرق من القوات الخاصة الروسية. ورغم أن الجيش الأوكراني تأخر عملياً نحو ثلاثة أسابيع للبدء بهجومه فإنه لم يكن واضحاً إذا كان يشن حملة لاسترجاع السيطرة الشاملة، أم أنه سيكتفي بعملية محدودة، ثم يعاود انتظار المفاوضات.
كان اجتماع جنيف (17 أبريل) توصل إلى جملة توجّهات يمكن أن تشكّل تهدئة للوضع المتأزم، وليس معالجة شاملة للأزمة، خصوصاً أن الخطوات الأولية المتفق عليها لم تتطرّق إلى مسألة ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم وسلخها عن أوكرانيا، إذ كانت الأولوية لنزع فتيل التوتر وإعادة الأمن من خلال منع أعمال العنف والاستفزاز، ونزع سلاح المجموعات غير المشروعة، وإخلاء الأماكن العامة من المظاهر المسلحة غير الشرعية، وضمان العفو عن المتظاهرين الذين يسلمون سلاحهم. أما الجانب السياسي فتضمن حواراً وطنياً وتعديلاً للدستور، بالإضافة إلى تعهّد المشاركين بالمساعدة في إعادة الاستقرار الاقتصادي والمالي. وفيما ضمنت الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي هذا الاتفاق، عُهد إلى لجنة المراقبة الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي المساعدة في تنفيذه من جانب سلطات أوكرانيا والمجتمعات المحلية.
لم تمضِ ساعات على الاتفاق حتى كانت معظم العواصم الغربية تشكّك في أن تنفذه موسكو، ولم يمض أكثر من يومين حتى بدأت الأطراف الدولية والأوكرانية تتبادل الاتهامات بخرق التعهّدات أو بعدم تنفيذها. والواقع أنه عندما أبرم هذا الاتفاق كان أنصار روسيا قد توسّعوا في الخطوات الانفصالية، لكن الأطراف الغربية أرادت اختبار إمكان إلزام موسكو بتطبيع الأوضاع تدليلاً منها على اعتراف ضمني بحكومة كييف (مقابل غضّ النظر مؤقتاً عن ضم القرم) وبالتالي عدم سعيها إلى فرض خيار التقسيم. غير أن خروج روسيا من اجتماع جنيف باتفاق اعتُبر عموماً لمصلحتها لم يكن كافياً في نظرها للتخلي عن مطامعها في أوكرانيا، لذلك فهي لم تتخذ أي خطوة للمساعدة في تنفيذ الاتفاق، فلا سحبت جنودها من منطقة الحدود ولا دعت أنصارها إلى الامتثال للإجراءات التي أعلنها الجيش الأوكراني، بل تعاملت مع اتفاق جنيف على أنه مسكّن آني للغربيين كسباً للوقت، كما أنها لم تكترث للتعهد بعدم الضغط على الوضعين الاقتصادي والمالي، فما لبثت أن طالبت كييف بتسديد سريع لفواتير الغاز وأنذرتها بوقف الإمدادات إذا لم تدفع مسبقاً.
عندما بدأت العملية العسكرية ضد معقل الانفصاليين في سلافيانسك -حيث احتجز المراقبون الأوروبيون منذ أسبوع كرهائن- بادرت روسيا إلى استنكارها محذّرةً بأنها تقود أوكرانيا «إلى الكارثة»، ودعت الغرب إلى العدول عن «سياساته الهدامة». وكان الأهم رفضها «الزج بالجيش ضد الشعب» واعتباره «جريمة»، ثم إنها أدانت استخدام الطائرات الحربية لضرب تجمعات مدنية، قبل أن تعلن أن الهجوم «يقضي على الأمل الأخير بتطبيق اتفاق جنيف». طبعاً لم يكن أي أمل بتطبيق ذلك الاتفاق، لكن موسكو قاربت لحظة الحقيقة، وهي أن خطتها في أوكرانيا لا يمكن أن تتمّ بالطريقة «الناعمة» التي تصوّرتها. ويستدل من رد فعلها أنها صارت تشكو من حكومة كييف بمثل ما تشكو عواصم الغرب من ممارسات النظام السوري (الجيش ضد الشعب، استخدام الطيران الحربي..). وخلال الأيام الماضية كررت موسكو مراراً أن على كييف أن توقف «عملياتها العسكرية ضد شعبها»! وفقاً لصيغة داومت عليها كل الحكومات -باستثناء الكرملين- في مخاطبتها النظام السوري ورئيسه.
ثم، ها هي موسكو تنسى أنها أقفلت مجلس الأمن الدولي أما الملف السوري، فتطلب اجتماعاً طارئاً للمجلس لمناقشة «التصعيد الخطير في أوكرانيا». لا بد أن مندوبها سمع من نظرائه كلاماً مشابهاً لفقرات من خطبه عندما كان يقول إن حكومة بشار الأسد تقوم بما يمليه عليها الواجب ضد متمرّدين عليه، وعندما كان يستنبط المبررات لغارات الطيران وإلقاء البراميل المتفجرة على التجمعات المدنية. والفارق أن حكومة كييف ليست نظام البعث وأن الجيش الأوكراني ليس مجرد «آلة للقتل» مثلما آل إليه وضع الوحدات الخاصة التابعة للنظام السوري، لذلك لن تكون هناك إدانة للحكومة الأوكرانية، تماماً كما منعت روسيا أي إدانة لنظام الأسد. هل يعني ذلك شيئاً آخر غير أن موسكو لا تنطلق من سياسة تهدف إلى إصلاح النظام الدولي، كما كُتب حتى في الإعلام الأميركي، وإنما من سياسة ثأرية تريد استعادة «أمجاد» إمبراطورية غابرة ولا تتردد في استخدام الحجة في أوكرانيا ونقيضها في سوريا.
--------------
العرب