وإلى اين تتجه الأمور ؟؟..
ـ يحدثني صديق من اتجاه غير إسلامي كان لفترة طويلة في المعتقل مع قيادات من القاعدة والسلفيين، ومنهم زهران علوش وأخوه، وابن عمه، وكثير ممن برز لاحقاً، ويقود اليوم عديد الكتائب العسكري عن جوهر عقل هؤلاء، وطريقتهم في التفكير، والعمل، وما يهم هنا، وما يلفت الانتباه في عذا المجال، ذلك المستوى من التكتيك والعمل التنظيمي. فقيادة القاعدة، مثلاً، كانت تكتب تقاريراً أمنية بالمعتقلين من اتجاهات معادية، وهي معهم في نفس مهاجع الاعتقال، وتتعاون بصورة شبه علنية مع مخابرات النظام، وحين يُسالون كانوا يبررون بكل حالة منطقية أن ما يقومون به جزء من إضعاف العدو وإشغاله، فالطرفان: النظام وهؤلاء المعارضون أعداء، ولهم مصلحة ـ القاعدة ـ ليس بإضعافهم وحسب بل وتصفيتهم إن أمكن، وتوسيع شقة الخلاف بين الطرفين..
هذه الوضعية إذا ما أردنا تحليل خلفياتها تعبّر بقوة عن وجود عقل تكتيكي مرتبط برؤية استراتيجية منظمة، وبالتالي فالتصرفات التي تبدو غرائبية قائمة على حسابات خاصة ودراسة ترمي إلى تحقيق الأهداف بكل السبل : المشروعة وغيرها، والجاهزية ليس لتبرير ما يبدو غير أخلاقي، وغير مبدئي بل ووضعه في سياق الخطة العامة التي تبدو محكمة الوسائل، وليست عفوية .
*****
وطوال أشهر الثورة الأولى.. وعلى امتداد النقاشات الكثيرة التي كانت تدور يومياً بين النخب والفئات المثقفة، بما فيه إسلاميين وسطيين ومتحزبين، كانت القناعة شبه المؤكدة أن سورية ليست أرضاً خصبة لا للسلفية المتطرفة، ولا لغيرها، وأنه شبه المستحيل أن تكون لداعش قوة ملموسة في بلادنا الشهيرة بالتنوع، والتحضر، والانفتاح، ونام عديدنا على تلك القناعات، في حين انهالت التباريك والتشجيعات لتلك الاتجاهات التي راحت تزيح أهداف الثورة الجوهرية وتستبدلها بغيرها، وبخلق مناخات أخرى تفتح الشهية لنمو التشدد، وهي شهية دعّمت بالكثير من المقويّات التسليحية والمالية القادمة من الدول الإقليمية، ومن جهات كان لها مصلحة واضحة في رجّ مرتكزات الثورة التوافقية، المتمركزة حول الحريات العامة، ودولة الحق والقانون والمساواة واستبدالها بأطروحات متطرفة مقترنة بتلبية حاجات العمل المسلح، والناس الذين اندفعوا وانخرطوا فيه كطريق إجباري للمقاومة وإسقاط النظام وكنوع من شراء الولاءات، وبعثرة العمل المسلح في مئات الكتائب والألوية الرافضة الاجتماع تحت سقف قيادة واحدة، أو مشروع الثورة بالأساس، وبحيث باتت لكل كتيبة"استراتيجيتها" وارتباطاتها الخاصة، وطرق تمويلها، ومرجعياتها السياسية والإقليمية، والفقهية ليختلط الحابل بالنابل، بينما كانت "داعش" تستغل هذا الوضع المنفلش، والمملوء بالتنافس العبثي، والمصلحي، وبولادة آلاف الانتهازيين وتجار السلاح والفرص والخروب، وأؤلئك الذين طفوا على سطح الثورة عاهات مريضة تشوهها وتبث فيها رياح السموم وأمراضاً فتاكة مختلفة .
ـ داعش المتقدمة بخطى وئيدة وجدت أرضاً تتخصّب كل يوم لانتشارها بما يتخطى مقولات الاعتماد على "المجاهدين" القادمين من الخارج، أو الغرباء بنجاحها في تنظيم آلاف السوريين الذين انضموا إليها بخلفيات متعددة، ولأسباب ليست واحدة، ومنها قوة الضبط، والتنظيم، ودقة العمل، ووجود استراتيجية واضحة، وخطط عمل لا تترك المجال واسعاً للعفوية والفوضى، وايضاً، ورغم التغول في التشدد، فإن الحفاظ على مسلك مغاير لما يقوم به عديد المسلحين، وبناء نوع من علاقات طيبة مع السكان ـ بعد تطويعهم لقوانينها ـ والقيام بعديد الأنشطة الخدمية وغيرها.. إنما يمنحها مجالاً لتعزيز الوجود، والانتشار، واستقطاب أفواج جديدة من المتعطشين لمقاتلة النظام، أو من المحتاجين لأي نوع من الدعم في المال والسلاح والذخيرة..
دون إغفال أو نسيان مدى استفادة "داعش" من التصعيد الطائفي الذي انفجر مسيطرا بعد الدخول العلني لحزب الله وأبناء عمومته، وإيران على خط إنجاد النظام، وكذا الأمر في تطورات الوضع العراقي الذي لا يخفى فيه الجانب المذهبي، وردّ الفعل على ممارسات طائفية للمالكي والأحزاب الشيعية أدّت بالاحتقان متعدد الأسباب للانفجار في العراق .
*****
وفي سياق الأخطاء التي ارتكبتها القوى الوطنية ـ من مختلف المشارب ـ وسوء التقدير والتعامل مع هذه الظاهرة سابقاً، وحتى الآن.. فإن أحد الذين يعتبر نفسه من مختصي الحركات الإسلامية يُظهر اندهاشاً فاجأه في القدرات التنظيمية والتخطيطية لداعش منذ البدايات، وأن سلوكها لم يكن عفوياً، بل كان يتبع لخطة مسبقة تنفذ بدقة وفق المرحلية. فهي على سبيل المثال سارت باتجاهين : السيطرة على طرق الإمداد ووضع اليد على مصادر للثروة تأميناً للاحتياجات، وللتحكم بالوضع، ونجحت في احتلال أهم المعابر وطرق الإمداد الاستراتيجي وفق شبكة خرائطية تربط وجودها بأهدافها، كما أنها وضعت يدها على معظم حقول النفط ، وعلى ثروات عديدة أخرى بما مكّنها من توفير مبالغ خيالية ، في حين أن "قوى الثورة" المحسوبة على الجيش الحر لم يك لأيّ منها تلك الخطة الاستراتيجية.
ـ إن انهزام جيش المالكي وتركه أسلحته وعتاده أضاف معطيات جديدة ـ قوية ـ لقوة "داعش" وتزويدها بأسلحة متفوقة على جميع الكتائب المسلحة السورية ـ على تعدد هوياتها وراياتها، وبما سهّل عليها اجتياح دير الزور، وأجزاء من حلب، والتوغل في عديد المناطق الشرقية، وحتى ريف دمشق والغوطة، وربما "الجبهة الجنوبية" أيضاً.. في حين تعاني القوى المحسوبة على الجيش الحر مراكمات لا تحصى من العوامل ، وبما يجعلها مزعزعة ومهددة بالزوال، والهزيمة الشاملة، وهو الأمر الذي يحتاج بحثاً خاصاً لمعرفة واقع العمل المسلح، واسباب الانزياحات والهزائم المتتالية .
ـ دون أن ننسى دور النظام المستفيد الأكبر من توغل وبروز وطغيان "داعش" فكراً، ونمطاً في التفكير والعمل، ووجوداً على الأرض يحقق له مجموعة أهداف بآن.. داخلياً، وإقليمياً، وعلى صعيد ما يسمى بمكافحة الإرهاب.. وإمكانية انضمامه إلى الحلف الذي يتشكل لهذا الغرض، وأقله : تفضيله من قبل معظم أقطاب المجتمع الدولي على "داعش" وما تمثل من اخطار، وتكريس بقائه. لهذا يتواطأ، ويدعم، بأشكال مختلفة، ومثله إيران، وحتى روسيا.. ويخترق، ويحاول احتواء هذه الظاهرة التي تبدو اليوم وكأنها خرجت من كل عقال، وأصبحت خطراً جامحاً يمتدّ من العراق إلى عموم المنطقة .
ـ إن افتقار الثورة الثورية، أو تلك الكتائب المسلحة، والهيئات التي تدعي تمثيل الثورة إلى الرؤية السياسية، والاستراتيجية، وخطط العمل الواقعية يجعلها ليس على هامش الأحداث والتطورات وحسب، بل يزيد أزماتها أزمات، ويدفع عديد التافهين، والمنتفعين، والمرتزقة، والتجار، والتبعيين فيها للحفاظ على مصالحهم الخاصة ـ المكتسبة ـ بكل الوسائل، وبديلاً عن القيام بالحد الأدنى من واجبهم المأمول، واستبدال التوجه نحو الواقع بتأزمات مفتعلة، ومعارك انتخابية سخيفة ..
ـ إن "داعش" اليوم وقد صارت حالة إقليمية ودولية..وقد دخلنا ما يحكى عن خرائط جديدة يجري ترسيم حدودها وتخومها.. ليست جيباً في سروال النظام، وليست فقاعة يمكن إنهائها بتصريح ناري، او بصفقات من الوعود الخلبية.. وهي حالة واقعية تفرض على الجميع أن يتعاملوا مع الواقع بحثاً عن سبل للبدائل. سبل تتجاوز القائم إلى ما يرتقي لمستوى التحديات، وتتخطى بلدنا إلى العراق والجوار، والإقليم، والعالم .