في النقطة الثانية، وهي حصرية السماح لمن يحمل إقامة شرعية صالحة لمدة العام الدراسي كاملا بأن يدخل المدرسة، فهذا الكلام يصح في حال كانت القوانين واضحة وتطبق على الجميع بالتساوي، أما إن نقرر فجأة أن لبنان يجب أن لا يعترف بالمفوضية والوثائق الصادرة عنها، بعد أن مضت سنوات طويلة وهو يعترف ويقبل، فلا بد من التوقف عند هذه المزاجية بالتعاطي، مع الأخذ في الاعتبار التعقيدات والصعوبات التي توضع يوميا أمام اللاجئ السوري في لبنان لكي يتمكن من الحصول على الإقامة الشرعية دون أن يفقد صفة لاجئ، بينما يحصل عليها من يدخل ويخرج إلى سوريا في الأعياد والمناسبات، أي من لا خطر عليه هناك، فهل المطلوب "الانتقام" ممن عارض النظام أو خرج في المظاهرات وهرب بأطفاله من البراميل والكيماوي والسكاكين؟
من طالب بمنع التعليم فتح معركة على المفوضية السامية للاجئين وعلى الأمم المتحدة، وحرض عليهما وكأنهما مرتكبتان لجرم جنائي، متناسيا أن المجرم يجلس في مكان آخر
أما النقطة الأهم والتي تغيب دوما عن النقاش عند الحديث عن تعليم السوريين فهي الأعداد، ووفقا لـ"اليونيسيف" فإن 61 في المئة من الأطفال السوريين خارج عملية التعليم (تقرير صدر في ديسمبر/كانون الأول 2023)، وهل أذكر أن أكثر من نصف الأطفال داخل سوريا في مناطق المعارضة هم خارج المدارس أيضا؟
هذه الأرقام يجب أن تكون ناقوس خطر للجميع، فالأمر أبعد من احترام حقوق الإنسان وحق الطفل في التعلم، الأمر يتعلق بمستقبل منطقة تعاني ما تعانيه من تطرف وإرهاب وانتشار لآفة المخدرات والجريمة المنظمة، فهل المطلوب أن نقدم لمن يعبث بأمن المنطقة ونسلمه المزيد من الهدايا المجانية، هل المطلوب أن ندع ملايين الأطفال في الشوارع لتستقطبهم تلك المنظمات بذريعة أن لبنان المشارك في تهجيرهم ليس بلد لجوء؟ لم يطالب أحد بتوطينهم، ولكن التعليم يجب أن يكون الخط الأحمر الذي يتوافق عليه الجميع إن كنا نريد أقله وقف حلقة العنف والتطرف التي تدور في المنطقة منذ سنوات.
أما في نقطة تكلفة اللجوء السوري على لبنان، فمن الضروري أن نذكر وبالأرقام أنه وبالتحديد في ملف التعليم لبنان مستفيد من وجود الطالب السوري في المدرسة اللبنانية، في السابق كانت "اليونيسيف" تدفع لوزارة التربية اللبنانية عن كل طالب سوري، 600 دولار أميركي سنويا، إن كان مسجلا في دوام بعد الظهر، أو 363 دولارا إن كان مسجلا في الدوام الصباحي، (عدا عن دفع 160 دولارا مقابل كل طالب لبناني في المدرسة اللبنانية)، وكانت هذه المبالغ تصرف على التكاليف التشغيلية من دون احتساب رواتب الأساتذة، وكلفة المباني المدرسية وصيانتها، واستخدام التجهيزات والمفروشات، وهنا لا بد من ذكر أن "اليونيسيف" والدول المانحة أعادوا ترميم مئات المدارس الرسمية اللبنانية، كليا أو جزئيا، مقابل السماح للطلاب السوريين بالتعلم، وأن أكثر من 13 ألف مدرس لبناني تم التعاقد معهم لتعليم السوريين في دوام بعد الظهر.
لاحقا وبسبب كثرة الأزمات في المنطقة والعالم، وتحديدا في العام الدراسي 2022-2023، تراجعت مساهمة "اليونيسيف" حيث باتت تدفع 140 دولارا عن كل تلميذ سوري في التعليم الرسمي قبل الظهر وبعده. وهذا ناقوس خطر آخر.
قبل أسابيع، كتب الأستاذ ممدوح المهيني: "رجال الأمن يستطيعون أن يقضوا على الهجمات الإرهابية، ولكن القضاء على الأفكار الإرهابية من مسؤولية وزراء التعليم"، وذلك في مقال تحدث فيه لا عن أهمية التعليم فحسب بل أيضا على نوعية التعليم للمساهمة في خلق عقول واعية لا تكون يوما فريسة سهلة لأفكار "خرافية".
بدوره كتب الأستاذ طارق الحميد في مقاله بجريدة "الشرق الأوسط"، بعنوان "إلا التعليم" في تعليقه على دعوة جعجع: "القصة ليست جدلا سياسيا، وإنما أعمق وأكثر خطورة... القصة هي الخشية من الغد، وعلى كل مسؤول ومثقف التحسب لذلك، ووقف كل ما من شأنه تعميق أزمة المنطقة. وأخطر أزمات المنطقة هي غياب وتردي التعليم".
دعونا إذن لا ندع التعليم جانبا بل لنجعله أولوية، ولنطالب بما طالب به الأستاذ طارق الحميد أي "إنشاء صندوق للتعليم، ويكون صندوقا عربيا دوليا، لضمان استمرار المسار التعليمي، وتحديدا في مناطق الحروب"، فالأمن لا يكفي لمحاربة التطرف والإرهاب والجريمة، بل نحن أحوج ما نكون فيه إلى عقول ترفض التطرف والإرهاب والجريمة كي لا تجد قوى الشر بيئة خصبة تعمل بها.
لبنان الذي طالما كان يعتز بالجامعة والصحيفة وبمساهمة شارل مالك بكتابة نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يأتي اليوم البعض فيه ليحاصر المدرسة وليكسر قلم شارل مالك عبر المطالبة بمنع تعليم الأطفال السوريين في انتهاك فظيع وعلني يرقى إلى مستوى ارتكاب جريمة سياسية بحق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
----------
مجلة المجلة