نقطة الانطلاق لدى الباحث هي أن الخبز هو نتاج الطبيعة والثقافة، وكان بمنزلة شرط للسلام، كما كان سببًا للحرب، ووعدًا بالأمل، وسببًا لليأس، وقد باركته الأديان، وأقسم الناس به. والبلدان التي ليس لديها ما يكفي من الخبز تعاني تمرّد سكانها، لكن ذلك لا يمنع أن البلدان التي ليس لديها شيء سوى الخبز من أن تُعاني هي الأخرى، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان القول المأثور "لا يُمكن للمرء أن يعيش على الخُبز وحده"، والتي وردت في الكتاب المقدس بصيغة "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، وتردَّد صداها عبر القرون.
يوضح الباحث أن سبب كتابته هذا الكتاب يعود إلى السنوات العجاف من طفولته، حيث يكتب: "عندما كنت طفلًا، عانيت الجوع، ولقرابة الأربع سنوات لم أجد سوى الخُبز ليُبقيني على قيد الحياة. كانت الحرب مشتعلة، حرب عالمية، ثانية من نوعها في القرن نفسه. اعتُقل والدي في المعسكر لأنه جاء من بلاد اشتركت في حرب ضد أخرى. كان قد فرَّ من روسيا قبل عشرين عامًا من حربها مع ألمانيا. وسُجِنَ كجندي عادي في يوغوسلافيا التي هاجر إليها كل هذه السنوات... وعلى الرغم من أن معظم الأشخاص الذين اصطُحِبوا معه لم يعودوا أبدًا، إلا أنه، بمعجزة ما، نجا". غير أن احتجاز والده في معسكر اعتقال ألماني، ليس السبب الوحيد، بل أراد من خلال كتابه التحذير من خطر الجوع الوشيك في "العالم المتقدم"، حيث يشهد التاريخ الإنساني، قديمه وحديثه، على أن الحروب تؤثر تأثيرًا مباشرًا على رغيف الخبز، خاصة عندما تكون الدول المتحاربة مصدرًا أساسيًا في توفير إمدادات القمح، وهو ما يشهده العالم إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ تصاعدت التحذيرات غربًا وشرقًا من أزمة في توفير رغيف الخبز، بدأت مؤشراتها تظهر في عدد من الدول التي تعتمد على القمح الأوكراني والروسي، وخاصة دول أفريقيا الفقيرة.
يرجع الباحث أن نشأة الخبز تعود إلى قديم الأزل، عادًا أنه أقدم من الكتب، بل أقدم من الكتابة نفسها، فأسماؤه الأولى وُجدت منقوشة بلغات بائدة على ألواح مصنوعة من الطين، ولأن نشأته متجذرة في التاريخ والماضي، ومرتبطة بكليهما، فهي لم تتقيد بأي منهما. وربما كانت طوبة البناء هي ما أوحت لأول صانع للخبز بشكل الرغيف، ففي ذاكرة الشعوب يُصنع الطوب اللبن من الطين، باستخدام النار، فيما تشبه طريقة صنع عجين الخبز، ولا أحد يعرف متى أو أين نبتت أول سنبلة من الحبوب، لكن لا بد أن مظهرها قد جذب الانتباه وأثار الفضول، فالتوزيع المنظم للحبوب الموجودة على الجذع قدم مثالًا للانسجام والاعتدال، وربما المساواة، في حين أن تنوع وجودة الحبوب المختلفة كشف أوجه الاختلاف.
جغرافيًا، يمكن العثور على آثار الحبوب الأولى في قارات عديدة، ففي العصور القديمة ازدهرت تلك الحبوب في سهول "الهلال الخصيب"، الممتدة من العراق إلى سورية ولبنان وفلسطين والأردن، ومناطق وادي النيل في مصر، جنبًا إلى جنب مع المنطقة الجنوبية الشرقية لتركيا والأطراف الغربية لإيران. كما نما القمح في منطقة القرن الأفريقي، وبين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بالقرب من أكسوم وأسمرة وأديس أبابا. أما في نهايات الصحراء فقد نما عند هضاب أثيوبيا وإريتريا، حيث المناخ أكثر اعتدالًا، والأرض أكثر خصوبة، وذلك بالقرب من منبع النيل الأزرق، الذي يتدفق ليلتقي بالرافد الآخر لنهر النيل الأبيض، حيث تتمتع المنطقة بوفرة من أشعة الشمس. وحين اقترب أفراد القبائل الصحراوية القادمة من الصحراء الكبرى، التي كانت تشبه السافانا، في يوم من الأيام من النيل، في محاولة لتتبع النهر لمعرفة اتجاه سريانه، فوجدوا أنه يتقاطع مع جداول المياه، حيث يمكن للبدو أن يرووا عطشهم، ويمكن للجمال والغزلان أن تشرب أيضًا، وهكذا توقف البدو في الواحات قبل مواصلة طريقهم، وهذه الرحلات والقصص أيضًا ترجع لقديم الأزل.
قد تكون مصر هي أول من استقبل الحبوب من الشرق الأوسط، وإلى يومنا هذا يستخدم المصريون كلمة "عيش" لوصف الخبز، التي تطلق في اللغة العربية على وصف الحياة. غير أن بذورًا متفحمة اكتشفت في الأجزاء الغربية من الصحراء الأفريقية، في حفر تملؤها النار، أو بالأحرى حفر لإشعال النار عمرها 8 آلاف عام، وذلك دليل على أن شخصًا ما مارس الزراعة والحصاد، لكن أصول الخبز تعود إلى الوقت الذي أصبح فيه البدو مستوطنين، وتحول الصيادون إلى رعاة، وعمل الجميع بالزراعة، فانتقل البعض من أرض إلى أرض، ومن مرعى إلى آخر، في حين نظف آخرون الأرض وعملوا فيها. وفيما تميل حياة البدو إلى المغامرة، فإن حياة المستوطن تتطلب الصبر والاستقرار، وعليه تصور تلك الرسومات الجدارية المكتشفة على الكهوف، التي سكنها البدو من قبل، خطوطًا طويلة أو مكسورة تأتي من مكان مجهول وتؤدي إلى مجهول آخر، في حين أن الرسومات التي رسمها المزارعون تميل إلى أن تكون أكثر استدارة، وأكثر تحديدًا، مع وجود مركز واضح. وكان تقسيم العمل ضرورة حتمية منذ القدم، فكان الرجل يعمل في الحقل، والمرأة تعمل في الحديقة، هو يزرع ويحصد، وهي تعجن وتخبز. وقد أفضت عمليات الزراعة والحصاد إلى تقسيم الوقت إلى أجزاء، والسنة إلى شهور، ثم إلى أسابيع وأيام، وقصرت الطرق المنشأة المسافات بين الأماكن، وبنيت الأكواخ في الوديان، وبنيت مناطق سكنية ذات كثافة عالية بجوار الأنهار، وغيّر حفر الأخاديد مظهر الحقول، وسمح لسنابل الحبوب بتغطية الأرض وتغيير المشهد بمرور الأجيال.
يرى الباحث أن قصص الخبز مبعثرة كالحبوب عبر الزمان والمكان، وعبر البلدان والشعوب، وفي الحياة اليومية، لكن الخبز يكشف عن نفسه في الشعر والنثر والرسم، فهو حاضر عند الحلم والاستيقاظ، نحمله داخل أنفسنا، نعرفه وننساه في الوقت نفسه. ومنذ زمن سحيق، كان الشعراء والفلاسفة والعلماء كذلك يكتبون عن ملحمة الخبز، كل واحد منهم يلهم الآخر، فقصيدة جلجامش الملحمية المكتوبة بالخط المسماري قرابة عام 1800 قبل الميلاد، تذكر الخبز الذي أكله "أنكيدو"، وهو صياد ماهر اعتاد أكل الطرائد، فذلك الرجل الجبلي الذي أكل العشب مع الغزلان، وامتص حليب الوحوش، تفاجأ عندما تذوق الخبز أول مرة. وكانت الرحلة من أكل الحبوب النيئة إلى الحبوب المطبوخة طويلة جدًا، حيث كان الرجل الذي يصنع الخبز مختلفًا عن أسلافه، فقد وجد نفسه يقف على أعتاب التاريخ. وقد ورد في "الإلياذة" أن النساء استخدمن الكثير من الدقيق الأبيض لإعداد وجبة للعمال، وتذكر أن فرجيل مد يده لمن يجلب الخبز لأطفاله. ويمكن أن يكون الخبز سببًا للتبعية أو العبودية أو الرفاهية. فيما استخدم الفيلسوف "سينيكا" الحكاية ليصور عملية صنع الخبز. أما في "الأوديسة" فيؤكد الشاعر الفرق بين أولئك الذين يأكلون الخبز، وأولئك الذين يأكلون اللوتس، ويقصد بهم البرابرة الذين لا يستطيعون التحدث بشكل لائق. واعتبر فيثاغورس أن "الكون يبدأ بالخبز"، فيما اكتُشفت بقايا الحبوب والخبز المحفوظة بجانب التوابيت والجِرار في قبور الفراعنة، وفي الأهرامات، وفي الأماكن التي يودع فيها المرء هذه الحياة على أمل الحياة السماوية الأبدية. وتذكر ملحمة جلجامش مجيء سبع سنوات من الجفاف في مدينة "أوروك" عندما لم يجد أهلها حبة قمح واحدة.
رأى فلاسفة اليونان القدامى أن الخبز الذي يغذينا يحتوي على أشكال لا حصر لها من المكونات التي تشكّل جسد الإنسان، حيث نظر "أناكساغوراس" في الانتقال من الخبز إلى الحبوب، ومن الحبوب إلى الأرض، ومن كليهما إلى الماء والنار، نزولًا إلى المبادئ والعناصر الأولية، ومن ثم يمكن ربط الجسد والطعام بالحالة المزاجية للإنسان، إما متفائل وإما سريع الغضب، إما هادئ وإما حزين. أما عندما يرى الإنسان رغيف الخبز فهو يرى نموذجًا لجسده، لأن الخبز الذي يدخل الجسد يصبح الجسد نفسه. وكثيرًا ما يقال إن الجسد والخبز يفهم أحدهما الآخر، لأن الخبز ينخرط في حواسنا كافة، وأكثر ما يُذكر في هذا السياق هو رائحة الخبز اللذيذة، فعند وصولها إلى الأنف تدخل الجسد وتنخرط بداخله، إذ يمتزج الأثر الذي تتركه تلك الرائحة بذكريات الطفولة والشباب وأجواء المنزل والعائلة، لذا ارتبط طعم الخبز ارتباطًا وثيقًا بالذكريات القديمة.
في الأزمنة الحديثة، وصف الخبز، وجرى تمجيده في أعمال عديدة، حيث يقول دانتي في "المأدبة": "طوبى للقلّة الذين يجلسون على تلك المائدة، حيث يؤكل خبز الملائكة"، ثم إنه لا ينسى تجربة المنفى، ولا حتى عند الاقتراب من أبواب الجنة. ولم يغفل الأدب الإنكليزي الخبز، خاصة مع شكسبير، الذي انتهز كل فرصة للسخرية من "فكاهة الخبز والجبن. فقد تذوق ريتشارد الثاني "الخبز المر"". وبالنسبة إلى تينيسون، فالخبز هو ضمان الحقيقة: "أنا أقول الحق كما أعيش بالخبز"، وحذر بيكون مواطنيه بالقول: "لا تلمسوا خبز اللصوص".
تخبرنا قصص عدة، سواء عن طريق الكلمة المكتوبة، أو الأحاديث الشفاهية، حول كيفية صناعة الخبز ونوع الدقيق المستخدم، وكذلك نوع الفرن، بما يتضمنه ذلك من قيم روحية وأرضية، مثل خبز الحياة، وخبز الدموع، والخبز الحي. وفي الكتب المقدسة وصف الخبز على أنه "القربان" و"المبارك" و"الذبيحة" و"خبز الملائكة" و"خبز الصداقة" المذكور في المزامير. وحتى الموتى كان لهم خبز خاص بهم يدعى خبز الموتى، يكون يابسًا وغير مُحلّى. ولا ننسى الخبز المقدس الذي يُحتفل به في عيد القديسين. ولم يعرف صنّاع الخبز على مدار آلاف السنين سوى القليل عن العمليات الكيميائية والتغيرات التي تحدث عند إنتاجه، مثل العلاقة بين البروتينات والكربوهيدرات، وتحويل الكربوهيدرات إلى سكر، والسكر إلى كحول. ذلك الكحول الذي يتناغم مع الخميرة، فتنتج عنه الغازات التي ترفع العجين وتعطيه مسامًا، وهي الطريقة التي يصبح بها وسط الخبز خفيفًا وطريًا في حين تصبح القشرة صلبة ومقرمشة، وذلك يمنح الخبز روحه وهيئته من شكل وطعم ورائحة.
يرى الباحث أن مشكلة الأمن الغذائي لطالما ارتبطت على الدوام بالخبز، فاستمرت المجاعة قرنًا بعد قرن في مناطق مختلفة حول العالم، وهذا ما أدى إلى اضطراب الاتصال الطبيعي بين الجسد والخبز، إذ في مطلع العصور الوسطى، وصف المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس القيسراني المجاعة، بالقول إنه رأى حشودًا من الناس تتجوَّل، هزيلة وشاحبة الوجوه، وجائعة جدّا إلى درجة أنهم أحيانًا يأكلون بعضهم بعضًا. وأُعلن في آخر عام 17 هجريًا إلى أول عام 18 هجريًا (640 ميلاديًا) عامًا للجفاف في المدينة المُنوّرة، وأُطلق عليه "عام الرمادة". وخلال حكم الدولة الإخشيدية، شهدت مصر الإسلامية أزمنة من المجاعة والبؤس، كانت كل منها أسوأ من الأخرى. وأشار أحد السجلات العربية إلى أنه يوجد عدد كبير من الجُثث التي لم يتمكَّنوا من دفنها. ووفقًا لكتابات ابن سعيد، خلط سكان الصحراء العظام المُحطّمة بدقيق الخبز. وفي عهد المستنصر بالله في الحقبة من عام 1029 إلى عام 1094، استمرت المجاعة سبع سنوات كاملة.
يُذكّر الباحث بأن نقص الخبز أدى إلى التشكيك في كفاءة الحاكم وسمعته، ففي روما كان الأباطرة يرتدون تاجًا مصنوعًا من حزم القمح، مثل الإلهة "ديميتر"، أو "سيريس". ويحذر من أن عددًا كبيرًا من الناس ما يزالون يموتون من الجوع، لا سيما في ما يسمى بالعالم الثالث، في آسيا وأفريقيا، تلك الأماكن التي نشأت فيها الحبوب أول مرة، وتغير المناخ والتلوث البيئي هما من العوامل التي تسببت في حدوث ذلك. ويرى أن الاستهلاك غير المنضبط للطاقة يهدد بعواقب وخيمة، حيث يعاني كوكبنا تأثير مختلف الظواهر المدمرة، فمن ناحية، ذوبان القمم الجليدية القطبية، وارتفاع مستويات البحر، والأمواج التي تغمر الأرخبيلات، وقارات يغمرها المحيط. ومن ناحية أخرى، أدى ذلك إلى أن مناطق شاسعة من العالم تفتقر إلى المياه الكافية، فالجفاف يدمر المحاصيل، والمجاعة تصيب الملايين