يقدّم الايرانيون هذا المسار كإطار دولي – اقليمي بديل من مسار جنيف المتأرجح حالياً، لكنه اطار تستعجله طهران ليلتقي مع تقدّم مفاوضاتها النووية وتريد اقحام الملف السوري في مساوماته. وقد توافق موسكو عليه لاعتبارين: لأنه يكرّس الأمر الواقع الحالي مع بعض التعديلات، ولأن انضاجه يتطلّب وقتاً وعملاً كي ينتج حلاً حقيقياً. فالروس لا يحبّذون نهاية قريبة للأزمة إلا اذا ضمنوا ما سيحصلون عليه في سورية وفي مناطق اخرى. لكن ثلاثي النظام – ايران – روسيا لا يكفي وحده لإنهاء الحرب، بل يحتاج الى الولايات المتحدة لفرض الحلّ واقناع السعودية به، كذلك تركيا، فضلاً عن الأطراف الاوروبية المعنية.
يمكن أن يوصف الايرانيون بأي شيء إلا بالسذاجة، لكن اطارهم المقترح يميل ظاهراً وباطناً الى ترجيح «شروط المنتصر»، اذ يَفترض أن الأزمة لم تكن ولن تكون داخلية وانما هي نزاع بالوكالة (أو بالأصالة في حال ايران) بين قوى خارجية فإذا توفرت لها الظروف والارادة يمكن أن تحلّها. أما البعد الداخلي فيستطيع النظام أن يتولاه اذا استجيبت مطالبته بوقف دعم المعارضة، هذا يفترض أيضاً أن الايرانيين عثروا على سوريين متمتّعين بصفة تمثيلية لا غبار عليها ومستعدّين للتوقيع على صك الإذعان لإملاءات النظام. فكلما سئل الروس أو الايرانيون يشيرون الى «معارضة الداخل»، المدجّنة أو المستأنسة، التي يعرفون جيداً أنها قد تكون جزءاً من الحل لكن يتعذّر انتاج تسوية معها أو بواسطتها.
لعل المفارقة الاخرى في اقتراح «المسار الموازي» أنه يتمثّل النهج الاسرائيلي في التفاوض، بمعزل عن الأمم المتحدة وبشروط المنتصر التي لا تصنع تسويات عادلة ودائمة، اذ يروّج أصحابه الايرانيون لـ «صفقة» مع القوى الدولية والاقليمية لإبقاء النظام وتخلّي هذه القوى عن دعم ما يسمّونه «معارضة الخارج» (وكأن وجودها القسري في الخارج مجهول الأسباب) بل ارغامها على الرضوخ للأمر الواقع. سبق للروس أن قدّموا اطروحةً كهذه، ثم طوَوها بعدما استنتجوا أنها لا تقنع أي طرف دولي أو اقليمي بسبب لا واقعيتها وعدم توازنها، تاركين للصراع العسكري أن يأخذ مجراه علّه يفلح في «كيّ وعي» المعارضة وداعميها، كما يحاول الاسرائيليون أيضاً كيّ وعي الفلسطينيين ليستسلموا.
لكن العرض الايراني المطوّر لهذه الاطروحة يفتي بأنها اقتراح الفرصة الأخيرة للحفاظ على سورية موحّدة قبل أن يتوسّع الحسم العسكري فيصبح أي حلّ بعدئذ محكوماً بـ «التقسيم». وإذ قال حسن نصر الله «اعتقد أننا تجاوزنا خطر التقسيم» فقد بدا كمن يجهل أو يتجاهل مغزى «حرب القلمون» التي خاضها مقاتلو حزبه استكمالاً لرسم خريطة «الدولة» التي خطّط لها نظام الاسد منذ زمن وباتت الآن مشروعاً لا تتبنّاه ايران فحسب بل تجري تعديلات عليه ليشمل أيضاً دولاً اخرى مجاورة. قد تكون تلك الحرب ضمنت، وفقاً لايران و «حزب الله»، عدم اسقاط نظام الاسد، لكنها في كل الأحوال لم تضمن استعادته الحكم والسيطرة على كامل البلاد. ويُستدلّ من إعلام النظام أنه لم يعد معنياً إلا بما يسمّيه «سورية المفيدة» التي تشمل مناطق يريد ضمّها الى «دولته»، لذلك أبلغ الاسد زائره الروسي أخيراً أن «المرحلة النشطة» من العملية العسكرية ستنتهي هذه السنة، وبعدها سنتحوّل الى ما كنّا نقوم به طوال الوقت… محاربة الارهابيين»، ما يعني أنه سيركّز في المرحلة المقبلة على تصفية أي وجود للمعارضة في ريف اللاذقية وكل منطقة الساحل وتحصين دفاعاتها وسدّ المنافذ اليها.
يُظهر الصراع السوري تفاوتاً كبيراً بين النظام والمعارضة، تكتّماً أو تصريحاً، في توصيف الوقائع وتحديد الأهداف، وهو ما انعكس على تحليل التطورات الميدانية. فالموالون والمعارضون اتفقوا ضمناً على أن «حرب القلمون» خطوة متقدمة نحو التقسيم لكنهم تفرّقوا في قول ذلك علناً، الموالون للتغطية على لعبة النظام، والمعارضون لاعتقادهم بأن التقليل من ذكر التقسيم يبعده. وقد فعلوا ذلك أيضاً بالنسبة الى «الطائفية» و «الحرب الأهلية»، الموالون اعتقاداً بـ «علمانية» يدّعيها النظام ويعرفون أنها أكذوبة، والمعارضون تجنباً لسمعة «اسلامية» يسهل أن تصبح «ارهابية» تُستغلّ ضدّهم… لذلك كان لافتاً أخيراً ذلك الجدل في أوساط المعارضة حول دلالات «معركة الساحل» وإبرازه مجدداً مسألة «طمأنة الأقليّات». وإذ دلّ الى روح وطنية حيّة عند المعارضين مقابل انعدامها لدى النظام و «شبّيحته»، فإنه أكّد أيضاً إلزام المعارضة نفسها بمعايير اخلاقية وانسانية لم يعترف النظام بها يوماً.
لا شك في أن هذا من المواقف الصعبة بل المستحيلة التي فرضتها ممارسات النظام. لم يُسمع أي صوت بين الموالين يقول إن المجازر وتدمير المدن والقتل بالسلاح الكيماوي والتعذيب حتى الموت وتهجير ملايين السوريين تقتل التعايش بين الطوائف، أو يقول أن «حرب القلمون» ما كان يجب أن تقع لأنها تقوّض وحدة البلد. لكن سُمع داخل المعارضة من قال إن «معركة الساحل» ما كان يجب أن تقع خشية حصول مجازر طائفية وتحوّل الصراع الى «حرب أهلية». الواقع أن النظام هو من فرض منطق الحرب الشاملة، ولا يعني التمييز هنا سوى تزكية لفكرة أن منطقةً ما ومواطنيها ليسوا سوريين، أو أن قتل أبناء طائفة ما مسموح وقتل أبناء طائفة اخرى محرّم، أو استباحة الأقلية جريمة أما استباحة الأكثرية فمسألة فيها نظر… لا عجب اذا سخر النظام وحلفاؤه الايرانيون من جدل كهذا فيما هم يحققون «انجازاتهم» الدموية.
---------------
الحياة