في دمشق تقاطعت متطلّبات السياسة الداخلية التركية مع ضرورات السياسة الخارجية الروسية فظهر إلى العلن المولود الجديد الذي يحمل اسم طاولة حوار بديلة تجمع اللاعبين الثلاثة حول سلّة من الحسابات والمصالح المتشابكة.
الأسئلة الصعبة على النظام السوريّ :
كان بين المستحيلات أن تواصل أنقرة سياستها السورية المعتمدة منذ 11 عاماً حتى اليوم، التي لم تقدّم لتركيا أيّ شيء سوى الأعباء السياسية والاقتصادية والأمنيّة. لهذا قبلت المغامرة. لكنّ السؤال هو: لماذا يوافق النظام في دمشق على مصالحة يعرف أنّه سيكون المتضرّر الأوّل من نتائجها، خصوصاً أنّ أنقرة تذكّره دائماً بالقرار 2254 وضرورة تنفيذ بنوده، وأنّها لن تقدّم له الفرصة التي يحتاج إليها للبقاء على رأس السلطة؟ فأيّ نظام ستصالح أنقرة في دمشق؟ نظام لا يملك القرار والقدرة وفرص المواجهة وإطالة أمد بقائه من دون الارتكاز على السِّنادات الروسيّة والإيرانية؟ وهل يكون بين أهداف الطاولة الجديدة مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي في سوريا؟ أين وكيف سيكون شكل العلاقة مع إيران التي تستثمر منذ عقدين في المشهد السوري؟ وهل يكون بمقدور العامل الإسرائيلي موازنة النفوذ والدور الإيرانيَّين في سوريا إرضاء لأنقرة وموسكو؟ ولماذا تقدّم تل أبيب خدمة من هذا النوع لهما وهي تعرف أنّها ستُغضب حليفها الأميركي؟
الأجوبة إيرانيّة :
إنّ الإجابة على الكثير من هذه التساؤلات ربّما تكون عند إيران.
لقد قَلَب نجاح طهران في إقناع موسكو بالتدخّل السياسي والعسكري السريع في الملفّ السوري عام 2015 حسابات تركيا هناك رأساً على عقب. هذا واستطاعت طهران، التي احتمت بروسيا في سوريا لسنوات تحت مظلّة "تمسكن حتى تتمكّن"، فرض نفسها على طاولة الآستانة طوال 5 أعوام كاملة.
حتى لو لم تكن طهران شريكاً في الحوار التركي السوري الجديد، ولم تجلس إلى الطاولة الثلاثية المفترضة التي ستجمع بوتين وإردوغان والأسد، فهي لن تعترض أو تعرقل ما يجري. لماذا ومتى تقبل القيادة الإيرانية ذلك وهي بعيدة عن الطاولة؟
- أوّلاً عندما تتأكّد أنّ حليفها بشار الأسد الذي يمثّلها ويحمي مصالحها سيكون شريكاً في تفاهم تركي روسي يبقيه في "قصر الشعب".
- ثانياً عندما تتّفق أنقرة ودمشق على خطط مواجهة "قوات سوريا الديمقراطية" في شرق الفرات وتُخرجها من المشهد، وهو ما يرضي إيران أيضاً لأنّه سيساعدها على ملء الفراغ الحدودي المنفتح على شمال العراق، وسيقرّبها أكثر من الحدود التركية.
- ثالثاً حين يستردّ النظام سيطرته على آبار النفط في شرق سوريا بعد تفاهمات تركية روسية ستفرح لها طهران كثيراً لأنّها ستضعف النفوذ والثقل والدور الأميركية هناك.
صحيح أنّ إيران لا تمتلك الحاضنة الشعبية ولا الحدود المشتركة مع سوريا، ولا تسيطر عسكرياً على بقعة جغرافية تفاوض عليها، لكنّ طهران تتوغّل عمودياً وأفقياً من خلال مشروعها التوسّعي في سوريا ومحاولات الهيمنة على المؤسّسات التعليمية والعسكرية والثقافية والاقتصادية، اللذين لا ينفصلان عن مخطّطها الإقليمي بشقّه السياسي والأيديولوجي والمذهبي والاجتماعي.
فرصة لأميركا قبل لقاء إردوغان والأسد :
يبدو أنّ الجانب التركي ما زال متمسّكاً بطاولة ثلاثية تجمعه مع القيادات الأميركية والروسية لبحث مسار ومستقبل الأزمة السورية. وتندرج زيارة وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو لواشنطن بعد أسبوع في إطار بحث كلّ هذه المسائل. وقد تكون الفرصة الأخيرة للإدارة الأميركية قبل أن تعلن أنقرة موعد القمّة التركية السورية بين إردوغان وبشار الأسد. لكنّ الخطأ، الذي قد ترتكبه قيادات "العدالة والتنمية" التركية وهي تحاول الخروج من تحت "الدلف" السوري، أن تجد نفسها تحت "المزراب" الإيراني، خصوصاً أنّ موسكو تعرف جيّداً استحالة فرض ما تريده على الجميع في سوريا وأنّ فرصتها الوحيدة هي محاورة واشنطن والتفاهم معها.
تنبيه أميركيّ لتركيا :
ستحمّل أميركا أيضاً الكثير من الرسائل لشاووش أوغلو في طريق العودة: تذكيره بحجم التقارب والتنسيق الروسيَّين الإيرانيَّين في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والقرم، وأنّه مهما تزايد التقارب التركي الروسي في ملفّات ثنائية وإقليمية فإنّ ذلك لن يكون على حساب التعاون الروسي الإيراني، وأنّ موسكو لن تفرّط بعلاقاتها الاستراتيجية مع طهران التي أرسلت مئات المسيَّرات إلى جبهات القتال الأوكرانية، وأنّ هدف الكرملين النهائي هو أن يرى أحدهما الآخر إلى جانبه في مواجهاته الإقليمية مع أميركا، وأنّ على أنقرة أن تحسم موقفها انطلاقاً من هذه القراءات.
ورّطت تركيا نفسها في معضلة "الآستانة" التي ألزمتها بالتنسيق مع طهران لإرضاء الجانب الروسي، فتبيّن أنّ هذه الآليّة لم تكن أكثر من درع يحمي إيران وسياستها ونفوذها في سوريا. ومن أجل الدفاع عن مصالحها هناك، تبنّت إيران لسنوات طويلة من عمر الأزمة السورية سياسة اتّهام أنقرة بتنفيذ الأجندات الأميركية والإسرائيلية الهادفة إلى زعزعة استقرار سوريا ووحدتها. فلماذا تضحّي أنقرة بكلّ ما شيّدته من تحالفات مع الغرب طوال 7 عقود بصبر وتأنٍّ في لحظة غضب أميركية تعطي طهران ما تريد؟
دبلوماسيّة إيرانيّة "مستعجلة" :
من اللافت جداً أن تعلن وزارة الخارجية الإيرانية، على غير عادتها، الإعداد لزيارتين لسوريا وتركيا ينوي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي القيام بهما بدعوة من البلدين، من دون الكشف عن موعدهما. حركة غير مألوفة من قبل الدبلوماسية الإيرانية التي يبدو أنّها "مستعجلة" هذه المرّة، بعكس ما هو معروف عنها من حذر وتأنٍّ وما اعتادته من إعطاء تفاصيل كاملة عن تحرّكات قياداتها السياسية بالتاريخ وجدول الأعمال وطبيعة الزيارات التي يقومون بها في تنقّلاتهم العلنية.
فما الذي ترمي إليه من الإقدام على خطوة من هذا النوع على خطّ دمشق - أنقرة؟ إنّها ترمي إلى إبراز دورها وسيطاً على خطّ التهدئة بين أنقرة ودمشق، ومحاولة إظهار موقعها لاعباً مؤثّراً في المسار الجديد، ودعوة القيادات التركية إلى التريّث قبل حسم مواقفهم، خصوصاً قبل توجّه شاووش أوغلو إلى واشنطن لبحث تفاصيل الملف السوري بحلّته الجديدة، وتذكير تركيا بعلاقات براغماتية طويلة لا بدّ من التمسّك بها في هذه المرحلة الصعبة التي تتطلّب اتّخاذ قرارات بالغة الأهميّة.
غرفة الإقناع الروسيّة :
حتى لو لم تكتمل الصفقة التركية الأميركية بعد زيارة مولود شاووش أوغلو لواشنطن الأسبوع المقبل، فلن يعني ذلك بالضرورة أنّ التفاهمات التركية الإيرانية ستكون هي البديل عبر "غرفة الإقناع " الروسية. فقبول أنقرة بوساطة روسيّة بينها وبين النظام في دمشق شيء، وقرار قبول العروض الإيرانية في سوريا والمنطقة شيء آخر. إذ تتعارض سياسة تركيا الإقليمية الجديدة مع ما تقوله وتريده طهران في الساحتين اليوم. وإردوغان يعرف جيداً أنّه سيعرِّض كلّ ما بناه في الأشهر الأخيرة من جسور مع العواصم العربية ومع تل أبيب للخطر. وربّما يكون الأهمّ هو عدم رغبة تركيا بتوتير علاقاتها أكثر مع واشنطن القادرة على استهداف مصالحها وتحريك أحجار إقليمية ذات طابع سياسي وأمنيّ واقتصادي ضدّها عبر شركاء وحلفاء في البقع الجغرافية الاستراتيجية المتداخلة.
أصعب ما في السياسة هو أنّ كلّ شيء يبدو وكأنّه سهل من بعيد. فهل يكون سهلاً الانتقال من رفض شديد لبقاء بشار الأسد فوق كرسي الحكم وترجمات عملية لذلك عبر التنسيق والتعاون مع من يريد إزاحته، إلى المصافحة وربّما الاحتضان على طريق فتح صفحة جديدة من العلاقات؟ لكن ما يردّده المتحدّث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين فيه الكثير من "إذا". "رئيسنا يقول إذا تصرّف الأسد بمسؤولية حيال شعبه. إذا تعامل بجدّية مع المخاوف الأمنيّة التركية. إذا استمع إلى ما تقوله وتريده قوى المعارضة السورية. إذا فتح الطريق أمام تنفيذ القرارات الأممية. فهو سيمنحه فرصة الحوار". إذاً تنتظر أنقرة من الأسد الكثير قبل الإقدام على اتّخاذ أيّة خطوة عملية نحوه. ربّما ستكتفي برسائل سياسية وانتخابية نحو الداخل تتعلّق بالحلحلة في الملف السوري. لكن يحتاج الذهاب أبعد من ذلك إلى ترتيبات واستعدادات إقليمية ودولية خارج دائرة التفاهمات التركية الروسية.
----------
اساس ميديا
*كاتب وأكاديمي تركي.