لم تكن أهداف الربيع العربي سوى بناء دولة عادلة تقوم على إرادته أولاً وأخيراً. لا إقصائية. لا استنسابية. بل خلع ديكتاتوريات الحزب الواحد. باعتبار أن كل ديكتاتورية هي في جوهرها «إقصائية»، أي في العمق «تقسيمية»، لأنها تحفر هُوّة سياسية بين «الطبقة الحاكمة» وبين الناس. كان الربيع العربي يسعى، بالوسائل السلمية، التوحيد لا «الوحدة»، القسرية، الجمع، لا القمع؛ توحيد إرادات الشعب في تناقضاتها، لا جمعها اعتسافاً تحت شعار «وحدة وطنية» تعبّر أساساً عن تهميش معلن وغير معلن للمجتمع، وتعددياته وأدواته كافة. شعار الوحدة الوطنية بدا وكأنه يعني «وحدة السلطة» في مواجهة التعابير الشعبية الحية، والحرة. نقول هذا ولا ننسى شعارات ديكتاتورية ملحقة أخرى (هي ذرائع)، مثل تمثيل الحزب الواحد الحاكم للمصلحة القومية العليا. إذاً الربيع العربي ما كان ليسعى إلى تغيير الجغرافيا واستثارة النزعات المذهبية، والاثنية، وصولاً إلى «تغيير» الأمم، والفتك بالهويات، ضمن مشاريع «أممية» كبرى.
لكن بعض الأنظمة الديكتاتورية، ومعها حلفاؤها الخارجيون، ردوا على «الربيع العربي» بخريفهم المجاوز كل حدود، وكل تاريخ، وكل مساحات، وكل دولة، وكل بنية، عندما لجأوا إلى سلاح المذهبية هنا، أو الطائفية هناك، واستثاروا الفتن التاريخية، وحلم الإمبراطوريات القديمة. هذا ما فعله النظامان السوري والإيراني عندما حوّلا المعركة بين الربيع العربي وبينهم إلى حروب «هويات» واستنبشوا أو صنعوا حركات وتنظيمات ذات طوابع «استئصالية» عنفية، ليصوّروا الربيع العربي وكأنه «حالة» خروج من التاريخ إلى اللاتاريخ، أو اللاتاريخ إلى ما قبل التاريخ. هذا ما فعله «دُمية» إيران في العراق نوري المالكي، عندما خضع لسياسة الملالي وأقصى المكوّن السنّي والقومي، ونكّل به، وقمعه، ليستأثر بالسلطة كقناع للاستئثار الفارسي. وهذا ما حاول أن يفعل حزب الله في لبنان، بذهنية الفاشية «الزرداشتية» الفارسية: الإقصائية. تقسيم الناس والعباد إلى «شياطين وملائكة»، إلى أتباع وملاحق وهذا ما فعلته الوصاية السورية في لبنان على امتداد أربعة عقود: الإقصائية. كل من لا يؤيدها خائن وعميل ومرذول يستحق الاغتيال أو النفي أو التهميش. وهذا ما فعله القذافي عندما نصّب نفسه كديكتاتور الحاضرَ الوحيد والراعي الوحيد «لقطعان» مذعورة من بطشه وجنونه. وهذا ما سبق أن مارس صدام حسين عندما شطب المكوّن الشيعي من خريطة الدولة والبلاد، وطمس حتى وجوده، ليدرك الأكراد ويمارس عليهم طغيانه. وهذا بالذات ما «صنع الربيع العربي»: الثورة على الإلغائية، والاستئثارية والشخصانية والتفردية. لكن مع تطوّر الأحداث، أكمل الطغاة سياسة «الحُمّى» التقسيمية، التي كانت موجودة أصلاً، لكن مموّهة، لتصير مُعلنة: تقسيم سوريا تقسيماً مذهبياً، رداً على الأكثرية السنية والمجتمعية: طغيان الأقلية مقابل إلغاء الأكثرية. ثم، ولتشويه أهداف الربيع العربي في منطلقاته وخمائره، استنجد بإيران (الشيعية)، وبحزبها في لبنان، وبكتائب حزب الله، وفيلق القدس، والحرس الثوري الإيراني، وسليماني (هذا المجرم المتجوّل)، فاكتملت ذهنية التقسيم الإقصاء، وطغت مشاريع الصراعات القديمة بين السنّة والشيعة، بين الأكثريات والأقليات، بين المجتمع المدني والمذهبي، أي تحوّل المدى السياسي إلى مدى لا تاريخي. لا اجتماعي. لا طبقي. لا إنساني. حتى جعل النظام السوري وحليفه الإيراني وصولاً إلى الروسي والأميركاني، كل من يناضل لتغيير النظام الديكتاتوري إلى «إرهابي»، وذلك عبر تصنيع «داعشيات» هنا، وجبهات نصرة هناك، احتلت الواجهة، لتختزل الصراع بين النظام والإرهاب: الأنظمة الإرهابية فبركت صنائع «إرهابية» لتحارب الإرهاب! أي فبركت «منظومات» إقصائية لتكمل نزعتها الإقصائية. فبركت «برابرة» لتمارس تاريخها البربري. وعندها، وباسم محاربة «صنائعها» تستبيح ما سبق أن استباحت، كل القيم والأعراف، والقوة والوحشية، من البراميل المتفجرة، إلى السلاح الكيماوي، فإلى الكلور، فإلى المذابح والإعدامات الجماعية، فإلى سياسة التغيير العرقي، إلى الانعزالية الوحشية، إلى الجنون الطائفي، إلى تدمير كل البنى التحتية والمدن والدساكر والمدارس والمستشفيات، تحت شعار «محاربة الإرهاب»! ولكي تخاطب الغرب «الحنون» الرؤوم غرب «حقوق الإنسان»، غرب «الديموقراطية»، ها هي تتوسّل «داعشية» منظمة: مثلاً في سوريا، داعشية تعتبرها إرهابية، لكن تتجنبها. وبدلاً من أن تقصفها وتحاربها، تغذيها وتوجهها، لتنقض على الجيش الحر (ذراع الربيع العربي المدني). النظام السوري يوقف قصف الرقة بعد سيطرة «داعش» عليها! وهذا ما جرى في العراق: جعل مطالب فئة كبيرة من العراقيين، ومنهم السنّة، بوضع حد لفساد المالكي، وجنونه الفئوي وأمراضه الشخصانية، وخضوعه لإملاءات سليماني قائد فيلق القدس، الفيلق الذي لا يعرف لا أين هي القدس، ولا أين هي تل أبيب ولا الجولان، جعلت هذه المطالب المحقّة، وكأنها خروج على الدولة والدستور والشرعية، وعلى السلطة، وعلى الدين، ووضعتها في خانة الإرهاب. ولكي يكون الإرهاب «مقنعاً» كان على المالكي أن يخلط بين الشرائح السنية المظلومة والقومية بالإرهاب، وبين الداعشية الجديدة، أخت داعش في سوريا، وداعش حديثة العهد في لبنان! وهنا بالذات، وبعد إعلان «الخلافة» الإسلامية على الأمة الإسلامية كافة في العالم (نحو مليار مسلم)، وبعد إعلان «دولة الإسلام» (بعد دولة العراق والشام)، اكتملت الصورة التي تعبّر عما آل إليه الوضع في سوريا، وفي العراق، وصولاً إلى إقليم كردستان (العراق). كل شيء تمزق في أيدي الطغاة: تهدد النفط في كركوك. استيلاء إقليم كردستان على المناطق المتنازع عليها. تحديد استفتاء «تقرير المصير» تمهيداً لإعلان دولة كردستان المستقلة. فمن دولة الخلافة «الإسلامية» المستقلة، إلى «استقلال الدويلات» المذهبية، إلى «عزلة» الأنظمة الديكتاتورية، إلى إلغاء الحدود بين سوريا ولبنان (سبق أن ألغاها نظام الأسد!)، وبين العراق وإيران، ويحكى عن «الرغبة» في إلغائها بين الأردن وجيرانها... تكتمل الخرائط الممزقة، والدول اللاتاريخية، (أو دول ما قبل التاريخ). وعلى حُطام هذه الحالة التي أوصلت إليها إيران ونظام المالكي، ونظام الأسد، يتمدد النفوذ الفارسي على ما يشبه «هلاله الصهيوني»، وتقف إسرائيل مستمتعة بتحقق أهدافها: تفكيك العالم العربي إلى دويلات وحدود ومنظومات مذهبية وأثنية. أنه مشروعها الأبدي، يحاول البعث السوري، وولاية الفقيه، تحقيقه لها. فما عجزت عن إنجازه، ها هي «حليفتها» الأثيرية إيران (كلتاهما دولة مذهبية عرقية دينية) تفرشه أمامها بالدم، والخراب والفوضى، والظلامية، أو لم تُصَبْ إسرائيل بالذعر عندما اندلع الربيع العربي في سوريا، وكان الثوار على وشك إسقاط النظام؟ أَوَ ننسى تصريحات زعماء إسرائيل: «سقوط الأسد كارثة على إسرائيل»! أو لم تعمل إسرائيل بلوبياتها الغربية وخصوصاً في أميركا على دعم النظام البعثي... ومنع أي مساعدة عسكرية إلى «الجيش الحر»، وترك الحركات المتشددة والأحزاب الإيرانية وميليشياتها تُنجد النظام السوري. (لا نظن أن حزب الله مثلاً كان لينخرط في الحرب السورية لو لم تغض إسرائيل النظر! ولهذا طمأنها الحزب (ووراءه إيران): لا الجولان ولا إسرائيل من أولوياتنا!). طمأنتونا!
الخريطة العربية ممزقة اليوم «بكيانات» مغلقة، وبأحلام «إمبراطورية» منبوشة من كوابيس الماضي. الغرب أهو قلق أم غير قلق؟ أهو مغتبط أم غير مغتبط، لما يصيب الأمة العربية؟ هذا الغرب الأوروبي لم يقدم سوى مشاعر «القلق»، وسوى التفرج السلبي على تدفق الميليشيات والتنظيمات الإيرانية وغير الإيرانية على سوريا. هذا الغرب الذي، ولكي «يُريح» ضميره المرتاح أصلاً في إجازة مفتوحة، راح من وقت إلى آخر، ومن باب رفع العتب يعلن وقوفه ضد الأسد، ويطالب بإسقاطه، لكن في الوقت ذاته لا يمد الجيش الحر (ذراع الثورة السورية) بأي سلاح، أو معونات عسكرية: يتفرج على البراميل المتفجرة بعيون مغمضة. يتابع قصف النظام شعبه بالكيماوي (المحرم دولياً) وهو يغسل يديه بالسبيرتو والمطهرات (ما أنظف يديه!). يشاهد غزو ميليشيات حزب الله اللبناني ، وفيلق القدس، والحرس الثوري، وتنظيمات أخرى، وما استجرته من دخول أطراف أخرى متطرّفة، وشفافه مدقوقة بمسامير. أما الولايات المتحدة رائدة «تصنيع» الإرهاب (من بن لادن إلى الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية)، ها هي تتنصّل وتنصّلها، تحت شعار: «لا نريد أن نشارك في أي حرب» أدى إلى تفاقم الوضع، وتمادي الفوضى، وإطالة أمد النظام السوري. أوباما يلعب دور دكتور الجامعة، ويتعامل مع الوضع السوري، تعامله مع بحث أكاديمي قديم. وينظر إلى الأمور «كمثقف» «برج عاجي»، ينفصل عن الواقع، وعن دوره، ليلغو في بلاغيات صرنا نحفظها غيباً. لكن وراء مواقف «الدكترة» الأوبامية، أسئلة غير بريئة: هل منعته إسرائيل من دعم الجيش الحر؟ هل وضعت له خطوطاً حمراً؟ هل حملته في لحظات «يقظة» عندما أعلن أنه سيرسل عسكره وأساطيله لمعاقبة النظام السوري بعد «الكيماوي»، هل حملته على التراجع عن كل هذه الإجراءات التي بشّر بها! بمعنى آخر: هل يتواطأ أوباما (وإسرائيل طبعاً) على الاستمرار في ضرب «الوجود» الديموقراطي في سوريا عبر «الربيع العربي» وتالياً إعدام ما تبقى من فكرة العروبة التي يجسّدها السنّة والعروبيون اليوم في العالم العربي في مواجهة المد الفارسي! يُكمل أوباما ما بدأ بوش من خلع أول حُكم سنّي في العراق دام ألف عام، ليفتتح بذلك الأبواب والنوافذ على استكمال إيران «هلالها الصهيوني»؟ وهل يريد أن يكون العراق (وبعده سوريا) درساً لكل من تسول له نفسه التعرّض للملف الجهنمي بين أميركا وإيران في «البوشية» الأخيرة، وفي تعيين المالكي رئيساً للحكومة؟ إن مجمل هذه الأسئلة حول دور أوباما (البوشي) تجد بعض أجوبتها في «يقظة» أوباما من مناماته «الثقافية»، و«التجريدية» و«البلاغية» ويستنفر «دماغه»، عندما اجتاحت «داعش» الموصل والأنبار ومدناً عراقية أخرى مجاوزة حدود «دولة العراق والشام» إلى إعلان الخلافة المطلقة على المسلمين، واختيار «خليفة» كرتوني هو البغدادي لها؟ «شو عدا مما بدا» حتى «هبّ» أوباما من غفوته «الهنيئة» وأرسل خبراء إلى العراق ليساندوا حكومة المالكي ضد الإرهاب! «وشو عدا مما بدا» حتى يهدد أوباما بالتدخل العسكري لضرب «الإرهابيين» الداعشيين (لماذا لم تتحرك الولايات المتحدة ضد داعش سوريا: يا للخبث!). وكيف توافق فجأة بوتين وأوباما على دعم المالكي، أسوة بإيران! بوتين يرسل طائرات سوخوي، وأوباما على أهبة إرسال أساطيله! وإذا كان أوباما تذرّع بعدم تدخله في سوريا بأن مزاج الأميركيين يعارض أي حرب لأميركا خارج حدودها، فهل جسّ أوباما هذه المرة المزاج الأميركي، واكتشف أنه غيّر مزاجه «السلمي» إلى «مزاج حربي»؟
كل ما نريد أن نقوله أن كل ما جرى ويجري بعد انطلاق الربيع العربي بزخمه الشعبي السلمي، إنما كان لإفشاله: من دعم ماكينة الأسد، إلى الميليشيات الإيرانية، إلى التواطؤ، إلى تحويل الصراع بين الربيع العربي والطغاة إلى صراعات هويات إثنية ومذهبية. أي ضرب كل طموح تعددي ديموقراطي في العالم العربي، وجعله «تعددية» هويات «أحادية»! فالصراع الذي أطلق الربيع العربي هو شعبي لإسقاط الأنظمة العائلية الاستبدادية، وإرساء تعددية فكرية وثقافية...
أما إيران وإسرائيل وأوباما وأوروبا... وبوتين، فيريدون أن يؤججوا حروب «الهويات» بدلاً من حروب التعددية!
ومع هذا يقول بعضهم أن الربيع العربي وراء كل ما جرى، لكن هذه الألسنة التافهة، تعرف جيداً، أن كل ما جرى وصولاً إلى داعش، هو تيئييس الشعب العربي من احتمال أي تغيير ديموقراطي! هو في عمقه محاولة محو كل ما يمت إلى روح الربيع العربي!
أي الاستمرار في إحلال «الإقصائية» محل التبادلية، والديكتاتورية محل الديموقراطية، والانعزالية محل الانفتاحية، والأحادية محل التعددية!
-----------------
المستقبل
لكن بعض الأنظمة الديكتاتورية، ومعها حلفاؤها الخارجيون، ردوا على «الربيع العربي» بخريفهم المجاوز كل حدود، وكل تاريخ، وكل مساحات، وكل دولة، وكل بنية، عندما لجأوا إلى سلاح المذهبية هنا، أو الطائفية هناك، واستثاروا الفتن التاريخية، وحلم الإمبراطوريات القديمة. هذا ما فعله النظامان السوري والإيراني عندما حوّلا المعركة بين الربيع العربي وبينهم إلى حروب «هويات» واستنبشوا أو صنعوا حركات وتنظيمات ذات طوابع «استئصالية» عنفية، ليصوّروا الربيع العربي وكأنه «حالة» خروج من التاريخ إلى اللاتاريخ، أو اللاتاريخ إلى ما قبل التاريخ. هذا ما فعله «دُمية» إيران في العراق نوري المالكي، عندما خضع لسياسة الملالي وأقصى المكوّن السنّي والقومي، ونكّل به، وقمعه، ليستأثر بالسلطة كقناع للاستئثار الفارسي. وهذا ما حاول أن يفعل حزب الله في لبنان، بذهنية الفاشية «الزرداشتية» الفارسية: الإقصائية. تقسيم الناس والعباد إلى «شياطين وملائكة»، إلى أتباع وملاحق وهذا ما فعلته الوصاية السورية في لبنان على امتداد أربعة عقود: الإقصائية. كل من لا يؤيدها خائن وعميل ومرذول يستحق الاغتيال أو النفي أو التهميش. وهذا ما فعله القذافي عندما نصّب نفسه كديكتاتور الحاضرَ الوحيد والراعي الوحيد «لقطعان» مذعورة من بطشه وجنونه. وهذا ما سبق أن مارس صدام حسين عندما شطب المكوّن الشيعي من خريطة الدولة والبلاد، وطمس حتى وجوده، ليدرك الأكراد ويمارس عليهم طغيانه. وهذا بالذات ما «صنع الربيع العربي»: الثورة على الإلغائية، والاستئثارية والشخصانية والتفردية. لكن مع تطوّر الأحداث، أكمل الطغاة سياسة «الحُمّى» التقسيمية، التي كانت موجودة أصلاً، لكن مموّهة، لتصير مُعلنة: تقسيم سوريا تقسيماً مذهبياً، رداً على الأكثرية السنية والمجتمعية: طغيان الأقلية مقابل إلغاء الأكثرية. ثم، ولتشويه أهداف الربيع العربي في منطلقاته وخمائره، استنجد بإيران (الشيعية)، وبحزبها في لبنان، وبكتائب حزب الله، وفيلق القدس، والحرس الثوري الإيراني، وسليماني (هذا المجرم المتجوّل)، فاكتملت ذهنية التقسيم الإقصاء، وطغت مشاريع الصراعات القديمة بين السنّة والشيعة، بين الأكثريات والأقليات، بين المجتمع المدني والمذهبي، أي تحوّل المدى السياسي إلى مدى لا تاريخي. لا اجتماعي. لا طبقي. لا إنساني. حتى جعل النظام السوري وحليفه الإيراني وصولاً إلى الروسي والأميركاني، كل من يناضل لتغيير النظام الديكتاتوري إلى «إرهابي»، وذلك عبر تصنيع «داعشيات» هنا، وجبهات نصرة هناك، احتلت الواجهة، لتختزل الصراع بين النظام والإرهاب: الأنظمة الإرهابية فبركت صنائع «إرهابية» لتحارب الإرهاب! أي فبركت «منظومات» إقصائية لتكمل نزعتها الإقصائية. فبركت «برابرة» لتمارس تاريخها البربري. وعندها، وباسم محاربة «صنائعها» تستبيح ما سبق أن استباحت، كل القيم والأعراف، والقوة والوحشية، من البراميل المتفجرة، إلى السلاح الكيماوي، فإلى الكلور، فإلى المذابح والإعدامات الجماعية، فإلى سياسة التغيير العرقي، إلى الانعزالية الوحشية، إلى الجنون الطائفي، إلى تدمير كل البنى التحتية والمدن والدساكر والمدارس والمستشفيات، تحت شعار «محاربة الإرهاب»! ولكي تخاطب الغرب «الحنون» الرؤوم غرب «حقوق الإنسان»، غرب «الديموقراطية»، ها هي تتوسّل «داعشية» منظمة: مثلاً في سوريا، داعشية تعتبرها إرهابية، لكن تتجنبها. وبدلاً من أن تقصفها وتحاربها، تغذيها وتوجهها، لتنقض على الجيش الحر (ذراع الربيع العربي المدني). النظام السوري يوقف قصف الرقة بعد سيطرة «داعش» عليها! وهذا ما جرى في العراق: جعل مطالب فئة كبيرة من العراقيين، ومنهم السنّة، بوضع حد لفساد المالكي، وجنونه الفئوي وأمراضه الشخصانية، وخضوعه لإملاءات سليماني قائد فيلق القدس، الفيلق الذي لا يعرف لا أين هي القدس، ولا أين هي تل أبيب ولا الجولان، جعلت هذه المطالب المحقّة، وكأنها خروج على الدولة والدستور والشرعية، وعلى السلطة، وعلى الدين، ووضعتها في خانة الإرهاب. ولكي يكون الإرهاب «مقنعاً» كان على المالكي أن يخلط بين الشرائح السنية المظلومة والقومية بالإرهاب، وبين الداعشية الجديدة، أخت داعش في سوريا، وداعش حديثة العهد في لبنان! وهنا بالذات، وبعد إعلان «الخلافة» الإسلامية على الأمة الإسلامية كافة في العالم (نحو مليار مسلم)، وبعد إعلان «دولة الإسلام» (بعد دولة العراق والشام)، اكتملت الصورة التي تعبّر عما آل إليه الوضع في سوريا، وفي العراق، وصولاً إلى إقليم كردستان (العراق). كل شيء تمزق في أيدي الطغاة: تهدد النفط في كركوك. استيلاء إقليم كردستان على المناطق المتنازع عليها. تحديد استفتاء «تقرير المصير» تمهيداً لإعلان دولة كردستان المستقلة. فمن دولة الخلافة «الإسلامية» المستقلة، إلى «استقلال الدويلات» المذهبية، إلى «عزلة» الأنظمة الديكتاتورية، إلى إلغاء الحدود بين سوريا ولبنان (سبق أن ألغاها نظام الأسد!)، وبين العراق وإيران، ويحكى عن «الرغبة» في إلغائها بين الأردن وجيرانها... تكتمل الخرائط الممزقة، والدول اللاتاريخية، (أو دول ما قبل التاريخ). وعلى حُطام هذه الحالة التي أوصلت إليها إيران ونظام المالكي، ونظام الأسد، يتمدد النفوذ الفارسي على ما يشبه «هلاله الصهيوني»، وتقف إسرائيل مستمتعة بتحقق أهدافها: تفكيك العالم العربي إلى دويلات وحدود ومنظومات مذهبية وأثنية. أنه مشروعها الأبدي، يحاول البعث السوري، وولاية الفقيه، تحقيقه لها. فما عجزت عن إنجازه، ها هي «حليفتها» الأثيرية إيران (كلتاهما دولة مذهبية عرقية دينية) تفرشه أمامها بالدم، والخراب والفوضى، والظلامية، أو لم تُصَبْ إسرائيل بالذعر عندما اندلع الربيع العربي في سوريا، وكان الثوار على وشك إسقاط النظام؟ أَوَ ننسى تصريحات زعماء إسرائيل: «سقوط الأسد كارثة على إسرائيل»! أو لم تعمل إسرائيل بلوبياتها الغربية وخصوصاً في أميركا على دعم النظام البعثي... ومنع أي مساعدة عسكرية إلى «الجيش الحر»، وترك الحركات المتشددة والأحزاب الإيرانية وميليشياتها تُنجد النظام السوري. (لا نظن أن حزب الله مثلاً كان لينخرط في الحرب السورية لو لم تغض إسرائيل النظر! ولهذا طمأنها الحزب (ووراءه إيران): لا الجولان ولا إسرائيل من أولوياتنا!). طمأنتونا!
الخريطة العربية ممزقة اليوم «بكيانات» مغلقة، وبأحلام «إمبراطورية» منبوشة من كوابيس الماضي. الغرب أهو قلق أم غير قلق؟ أهو مغتبط أم غير مغتبط، لما يصيب الأمة العربية؟ هذا الغرب الأوروبي لم يقدم سوى مشاعر «القلق»، وسوى التفرج السلبي على تدفق الميليشيات والتنظيمات الإيرانية وغير الإيرانية على سوريا. هذا الغرب الذي، ولكي «يُريح» ضميره المرتاح أصلاً في إجازة مفتوحة، راح من وقت إلى آخر، ومن باب رفع العتب يعلن وقوفه ضد الأسد، ويطالب بإسقاطه، لكن في الوقت ذاته لا يمد الجيش الحر (ذراع الثورة السورية) بأي سلاح، أو معونات عسكرية: يتفرج على البراميل المتفجرة بعيون مغمضة. يتابع قصف النظام شعبه بالكيماوي (المحرم دولياً) وهو يغسل يديه بالسبيرتو والمطهرات (ما أنظف يديه!). يشاهد غزو ميليشيات حزب الله اللبناني ، وفيلق القدس، والحرس الثوري، وتنظيمات أخرى، وما استجرته من دخول أطراف أخرى متطرّفة، وشفافه مدقوقة بمسامير. أما الولايات المتحدة رائدة «تصنيع» الإرهاب (من بن لادن إلى الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية)، ها هي تتنصّل وتنصّلها، تحت شعار: «لا نريد أن نشارك في أي حرب» أدى إلى تفاقم الوضع، وتمادي الفوضى، وإطالة أمد النظام السوري. أوباما يلعب دور دكتور الجامعة، ويتعامل مع الوضع السوري، تعامله مع بحث أكاديمي قديم. وينظر إلى الأمور «كمثقف» «برج عاجي»، ينفصل عن الواقع، وعن دوره، ليلغو في بلاغيات صرنا نحفظها غيباً. لكن وراء مواقف «الدكترة» الأوبامية، أسئلة غير بريئة: هل منعته إسرائيل من دعم الجيش الحر؟ هل وضعت له خطوطاً حمراً؟ هل حملته في لحظات «يقظة» عندما أعلن أنه سيرسل عسكره وأساطيله لمعاقبة النظام السوري بعد «الكيماوي»، هل حملته على التراجع عن كل هذه الإجراءات التي بشّر بها! بمعنى آخر: هل يتواطأ أوباما (وإسرائيل طبعاً) على الاستمرار في ضرب «الوجود» الديموقراطي في سوريا عبر «الربيع العربي» وتالياً إعدام ما تبقى من فكرة العروبة التي يجسّدها السنّة والعروبيون اليوم في العالم العربي في مواجهة المد الفارسي! يُكمل أوباما ما بدأ بوش من خلع أول حُكم سنّي في العراق دام ألف عام، ليفتتح بذلك الأبواب والنوافذ على استكمال إيران «هلالها الصهيوني»؟ وهل يريد أن يكون العراق (وبعده سوريا) درساً لكل من تسول له نفسه التعرّض للملف الجهنمي بين أميركا وإيران في «البوشية» الأخيرة، وفي تعيين المالكي رئيساً للحكومة؟ إن مجمل هذه الأسئلة حول دور أوباما (البوشي) تجد بعض أجوبتها في «يقظة» أوباما من مناماته «الثقافية»، و«التجريدية» و«البلاغية» ويستنفر «دماغه»، عندما اجتاحت «داعش» الموصل والأنبار ومدناً عراقية أخرى مجاوزة حدود «دولة العراق والشام» إلى إعلان الخلافة المطلقة على المسلمين، واختيار «خليفة» كرتوني هو البغدادي لها؟ «شو عدا مما بدا» حتى «هبّ» أوباما من غفوته «الهنيئة» وأرسل خبراء إلى العراق ليساندوا حكومة المالكي ضد الإرهاب! «وشو عدا مما بدا» حتى يهدد أوباما بالتدخل العسكري لضرب «الإرهابيين» الداعشيين (لماذا لم تتحرك الولايات المتحدة ضد داعش سوريا: يا للخبث!). وكيف توافق فجأة بوتين وأوباما على دعم المالكي، أسوة بإيران! بوتين يرسل طائرات سوخوي، وأوباما على أهبة إرسال أساطيله! وإذا كان أوباما تذرّع بعدم تدخله في سوريا بأن مزاج الأميركيين يعارض أي حرب لأميركا خارج حدودها، فهل جسّ أوباما هذه المرة المزاج الأميركي، واكتشف أنه غيّر مزاجه «السلمي» إلى «مزاج حربي»؟
كل ما نريد أن نقوله أن كل ما جرى ويجري بعد انطلاق الربيع العربي بزخمه الشعبي السلمي، إنما كان لإفشاله: من دعم ماكينة الأسد، إلى الميليشيات الإيرانية، إلى التواطؤ، إلى تحويل الصراع بين الربيع العربي والطغاة إلى صراعات هويات إثنية ومذهبية. أي ضرب كل طموح تعددي ديموقراطي في العالم العربي، وجعله «تعددية» هويات «أحادية»! فالصراع الذي أطلق الربيع العربي هو شعبي لإسقاط الأنظمة العائلية الاستبدادية، وإرساء تعددية فكرية وثقافية...
أما إيران وإسرائيل وأوباما وأوروبا... وبوتين، فيريدون أن يؤججوا حروب «الهويات» بدلاً من حروب التعددية!
ومع هذا يقول بعضهم أن الربيع العربي وراء كل ما جرى، لكن هذه الألسنة التافهة، تعرف جيداً، أن كل ما جرى وصولاً إلى داعش، هو تيئييس الشعب العربي من احتمال أي تغيير ديموقراطي! هو في عمقه محاولة محو كل ما يمت إلى روح الربيع العربي!
أي الاستمرار في إحلال «الإقصائية» محل التبادلية، والديكتاتورية محل الديموقراطية، والانعزالية محل الانفتاحية، والأحادية محل التعددية!
-----------------
المستقبل