بلا شك، ومع تقدير القيمة العظيمة لصمود الشعب الفلسطيني في مواجهة آلة فتك ودمار لا تنضب، وأمام مشهد سادت فيه العنجهية الإسرائيلية وعربدت مدججة بأحدث أنواع الأسلحة، يصعب القول إن ما حصل في غزة هو هزيمة، لكن ليس من السهل على العقل تصور الأمر انتصاراً، فلا معنى للادعاء بالانتصار إلا إذا تم اختصاره في رغبة ثأرية تعتمل في نفوس المظلومين بإيقاع الأذى بالعدو، وتكبيد إسرائيل بعض الخسائر المادية والبشرية عبر استخدام آلاف الصواريخ، وبغير هذا المعنى يضحك المرء على نفسه إذا نظر إلى النتائج التي فُرضت على الأرض وعدّها نصراً.
صحيح أن إسرائيل لم تحقق هدفها بإزالة الصواريخ الفلسطينية نهائياً، لكن لنعترف بأنها حققت الحد الذي يجعل، اليوم، القرى المحاذية لغزة أكثر أماناً، بعد أن فرضت وقف إطلاق الصواريخ ونالت من بعض قادة وكوادر حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» ودمّرت أهم ركائز تجديد قواهما، مع التغاضي عمّا ارتكبته من قتل وجرح للفلسطينيين وتخريب متعمَّد لبنية القطاع التحتية... ألا تمنح هذه النتيجة تل أبيب ضمناً، المشروعية عالمياً، للرد وبمنتهى القسوة في حال بادرت حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» لإطلاق الصواريخ مجدداً؟ وهل سيلقى الفلسطينيون في حال تكرر إطلاق الصواريخ، ما لمسوه اليوم من تعاطف دولي وعربي، أجّجته مقاومتهم الشعبية السلمية في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، أم سيغدون في موقع المعتدي المدان، وتستباح حيواتهم، خصوصاً مع وضوح ارتباط ما تقوم به حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بمشروع النفوذ الإقليمي الإيراني؟
إن افتعال الحروب مع إسرائيل وادّعاءات النصر ليست أموراً جديدة على أصحاب العقول الآيديولوجية، بل هي علامة مسجلة لهم، يتوسلونها لتغطية عجزهم والتهرب من فشلهم، والأهم لتعزيز أركان حكمهم وفرض سطوتهم... ألم يوظف «حزب الله» تداعيات ما عدّه «انتصاراً إلهياً» عام 2006 لتسويغ اجتياح بيروت في 7 مايو (أيار) 2008 وتعزيز سيطرته على لبنان، مجتمعاً ودولة؟ وقبلها، ألم يمنح ذاك الانتصار حليفه السوري فرصة لالتقاط الأنفاس بعد إخراج قواته من لبنان؟ وبعدها، هل ثمة نتائج خلّفتها حرب غزة عامي 2008 و2009 غير تكريس الانقسام الفلسطيني وتمكين حركة «حماس» من الاستئثار استبداداً بالسلطة في غزة، والأهم تحسين أوراق النظام السوري والنفوذ الإيراني في المشرق العربي؟
والأسوأ حين يتباهى ويبالغ مدّعو «الانتصارات الإلهية» في تظهير الأذى والضرر التي أصاب العدو، كقتل اثني عشر إسرائيلياً في حرب غزة وجرح العشرات، حتى لو سقط مقابلهم مئات الشهداء وآلاف الجرحى الفلسطينيين، ما يجعلنا نقف أمام مفارقة تدعو للأسف والخجل في آن معاً، عندما لا يقيم طرف أي وزن لحياة أبنائه ويجرّهم إلى صراعات دموية كي يفاخر بإيقاع بعض الأذى والألم عند طرف آخر يقدّر عالياً حياة مواطنيه! والمفارقة أن تُطوى صفحة شهدائنا في الأدراج، بينما يتوعد رئيس وزراء تل أبيب بتشديد الحصار وإعاقة إعادة الإعمار إن لم يُكشف مصير بضعة جنود إسرائيليين فُقدوا تباعاً في قطاع غزة!
واستدراكاً، إلى متى نبقى كمن ندور في حلقة، لكن ليست مفرغة، بل مليئة بالضحايا والآلام، وتحت رحمة قادة لا يتقنون سوى لغة العنف والتضحية بالإنسان وبما شيّد من عمران، على مذبح مآربهم الآيديولوجية والسياسية؟! هل سأل مَن يتغنون «بالنصر الإلهي» أنفسهم عمّا كرّسته حركة «حماس» من حصيلة «انتصاراتها» في حروبها الأربع مع إسرائيل غير تثبيت تسلطها وامتيازاتها وتكبيد الشعب الفلسطيني مزيداً من الأضرار والخسائر، بشرياً ومادياً وسياسياً؟ هل نجحت في فتح نافذة خلاص؟ وهل أجبرت إسرائيل على التراجع والتنازل أو على الأقل تغيير سياساتها، أم كرّست الانقسام الفلسطيني وأضعفت مكانته وفاعليته، وآخر دليل الهتافات التي تصاعدت فور إعلان وقف إطلاق النار ضد السلطة الفلسطينية يحدوها استمرار محاصرة واعتقال أنصارها في غزة؟ ثم إلى متى علينا التبجح «بانتصاراتنا» ونأنف توظيف خسائرنا البشرية والمادية لتنمية ظواهر التعاطف والمؤازرة، التي بدأت تتكشف اليوم بصور مختلفة في الولايات المتحدة وأوساط إسرائيلية تدعو للاعتراف بحقوق الفلسطينيين وبناء علاقات طبيعية معهم؟
إذا كان الوجه الإيجابي لحرب غزة أنها أكدت عجز الوسائل العسكرية عن تحقيق الحسم وحرّكت مياه القضية الفلسطينية الراكدة ودفعت الحل السياسي إلى مركز الاهتمام الدولي، وسط تواتر الدعوات لخيار الدولتين ووعود سخية بإعادة الإعمار، فإن ذلك يمنح القادة الفلسطينيين فرصة ثمينة لتنمية الروح الوطنية المشتركة وفتح أبواب التعاون والتعاضد للخروج بأفضل النتائج.
فهل يستثمر الفلسطينيون هذه الفرصة لتحصيل حقوقهم المشروعة وبناء دولتهم، أم سيبقون رهينة الانقسامات المؤسفة والتلاعبات الإقليمية، في ظل ما يعتري سلطتهم الوطنية من ضعف، وقوى المجتمع المدني من تهتك، والأسوأ اعتياد غالبية فصائلهم على منطق الغلبة في إدارة خلافاتها، ربطاً بتفشي حالة من اليأس والإحباط تعمّ الشارع وتسهّل نشر الأحقاد والكراهية والطعن بالآخر؟
إذا كانت العبر المستخلصة من تجارب الفلسطينيين المريرة أهم حافز لتجنب تكرار الخطأ، فثمة أطراف لا يستهان بها لا تزال تتمسك بالعقلية الآيديولوجية القديمة نفسها وتشغل الأسطوانة الدعائية المشروخة ذاتها... أطراف تتمنى الضغط على الزناد اليوم قبل الغد وزج أهلنا في غزة بحرب جديدة... أطراف لا يهمها التفكير بالجدوى وبمرارة النتائج، وحتى على الأقل بتلك العجوز الفلسطينية التي كانت تلملم بعض مقتنياتها من بيتها المهدم، حين أجابت متهكمة عن سؤال حول رأيها بالانتصار المحقّق: بأن نصراً آخر لن يُبقي لي أي شيء!
------------
الشرق الاوسط