يوميات اندريه جيد في تونس والجزائر
ترجمة : حسّونة الـمصباحي
في الخريف، قبل ثلاثة أعوام، كان وصولنا إلى تونس رائعة . في ذلك الوقت كانت لا تزال، برغم الطرقات الواسعة التي تخترقها، والتي كانت قد أفسدتها، مدينة كلاسيكية جميلة، منتظمة بانسجام، وبيوتها البيضاء كانت تبدو وكأنها تضيئ في المساء بحميمية مثل قناديل من المرمر.
حالما نغادر الميناء الفرنسي، نحن لا نرى حتى ولا شجرة واحدة. ونحن نبحث عن الظلّ في الأسواق، تلك الأسواق الكبيرة المسقّفة، المقبّبة، أو المغطاة بأقمشة أو بألواح خشبيّة. ولا يدخلها إلاّ ضوء عليها جوّا خاصّا. وهذه الأسواق تبدو وكأنها مدينة داخل المدينة. واسعة، تكاد تكون مساحتها ثلث مساحة مدينة تونس- من فوق السّطح، حيث كان بول لورانس يذهب ليرسم، لم نكن نرى حتى البحر غير مدرج مقطوع، وسطوح بيضاء تقطعها باحات كمثل الخنادق حيث يتمطّى قلق النساء. في المساء، كلّ الأبيض يصبح خبّازيا، والسماء بلون الشاي الوردي. في الصباح، يصبح الأبيض ورديا في سماء بلون بنفسجيّ. لكن بعد أمطار الشتاء، تخضرّ الجدران، وتغطيها أعشاب وحافة السّطوح تبدو وكأنها حافة سلّة
من الورود.
تحسّرت على تونس الكلاسيكية، البيضاء، الجدّية التي رأيتها في ذلك الخريف، والتي كانت تجعلني أفكر وأنا أتيه في الشوارع المتساوية، في هيلانة التي في "فاوست" الثاني ، أو في "بسيشي"، "ممسكا بقنديل العقيق بيده" هو يجول في ممرّ من القبور.
هم يغرسون أشجارا في الطرقات العريضة، وفي الساحات. تونس ستكون أكثر جمالا، غير أنه لم يكن هناك أي شيء يمكن أن يشوّهها على هذه الصورة. قبل عامين، كان نهج "المر" و"رحبة الغنم" لا يزالان يسمحان لنا بأن نعرف أين ننقل، وفيهما، حسب اعتقادي، ما كان يمكن أن يكون للشرق الأكثر بعدا، وافريقيا الأشدّ سرية، مذاق غرابة يسبّب لنا ذهولا أقوى. شكل مختلف من أشكال الحياة، تحقّق كله في الخارج، ممتلئا جدّا، وقديما، وكلاسيكسا، ومثبّتا. ليس هناك بعد وفاق بين حضارات الشرق، وحضارتنا نحن التي تبدو بشعه، خصوصا لما تريد أن تصلح. صفائح معدنية، وأوراق من الزنك تحلّ شيئا فشيئا محلّ حصائر القصب، وسقوف الأسواق، وفوانيس توزّع الضوء على الحيطان، حيث قديما كان نور الليالي ، ينتشر على "رحبة الغنم" الواسعة، دون أرصفة، الصامتة، والفاتنة، وحيث قبل عامين، في دفء الليالي التي يكون فيها القمر مكتملا، كان يأتي أعراب وإبل ليناموا. وكان باب مسجد يفتح. ومنه يخرج أعراب متجمّعون حول فانوس، ويتوقفون في الشارع لينشدوا نشيدا دينيا رتيبا.
بنوا أرصفة في الأسواق. في واحدة من أجمل الممرات، قاعدة الأعمدة التي تستند إليها القباب، طُمرت. أعمدة ملتوية، خضراء حمراء، بتاج ضخم، ومتقن الصّنع. القبّة بيضاء بالجير، لكنها بالكاد مضاءة. حتى في أجمل الأيام، تكون هذه الأسواق نصف معتمة. مدخل الأسواق رائع. أنا لا أتحدث عن رواق المسجد، لكن عن المدخل الضيّق الآخر، المتوارى عن الأنظار، والذي يحميه عتّاب منحن، مكوّنا استهلال ظلّ في الممرّ الصغير المعتم، الذي ينعطف لمسافة قصيرة، وثم لا يلبث أن يتوارى عن الأنظار.غير أن العتّاب المغطي بأوراق الخريف، ليس له أوراق حتى الآن، بعد حلول الربيع. أنه "السراجين" الذي يبدأ. الممرّ ينعرج، ثم يتواصل دونما نهاية.
في "سوق العطارين" يجلس الصادق عنون في محله دائما على هيئة اسكافي. ومحله صغير كما لو أنه عشّ، وواطئ السقف، مزدحم بالقوارير. أما العطورات التي يبيعها فهي الآن مزيّفة. لقد قدمت لفاليري عند عودتي إلى باريس، القارورتين الأخيرتين الأصليتين التي رأيت الصادق عنون يملؤهما بواسطة
أنبوب بعطر التفّاح، وقطرة قطرة بالعنبر الثمين. وهو لم يعد يلفّها اليوم، بشكل دقيق، وقد امتلأت
إلى النصف ببضاعة أكثر أهمية من ذي قبل، بشمع العسل البكر، وبخيط أبيض، ولم يعد يطلب مني أن أدفع ثمنا غاليا.
مع "لاورانس"، قبل عامين، كانت دقّته قد سلّتنا. لكأنها كانت تعطي ثمنا للأشياء. في كل غلاف ملفوف أكثر من اللزوم، كان العطر يصبح نادرا أكثر. في النهاية أوقفناه، ذلك أن المبلغ المالي الذي كان عندنا لم يعد كافيا. وبدون جدوى أيضا، بحثت عن ذلك المقهى المظلم الذي لم يكن يؤمّه سوى زنوج من السّودان ضخام الجثة. البعض منهم كان أصبع أرجلهم مقطوعا، إشارة إلى أنهم كانوا عبيدا. أغلبهم كانوا يضعون تحت عمائمهم، باقة صغيرة من الزهور البيضاء، ومن الياسمين المعطّر لكي ينتشوا. وهذه الباقة تنزل على الخدّ كما لو أنها خصلة رومانسية من الشعر، وتطبع على وجوههم تعبيرا ينمّ عن ارتخاء شهوانيّ. هم يحبّون عطر الزهور حدّ أنهم لا يتنشقونها أحيانا ليس بقوة وعلى هواهم، بل هم يدخلون التويجات المدعوكة في مناخرهم. في ذلك المقهى، كان أحدهم يغنّي، وأخر يروي حكايات. وثمة حمامات أليفة كانت تطير ثم تحطّ على أكتافهم.
تونس 7 مارس / آذار :
أطفال صغار يشاهدون هذا ويضحكون، ويروون لبعضهم البعض، المشاهد الإيمائية للـ "قره قوز" . رياضة صعبة للفكر: ليهذّب نفسه حتى يصبح هذا الأمر طبيعيا بالنسبة له.
الفرنسيون لا يذهبون إلى هناك. هم لا يعرفون كيف يذهبون إلى هناك. أنها دكاكين صغيرة بلا هيئة أو مظهر. ونحن نتسلّل إليها عبر باب واطئ. الفرنسيون يذهبون بانتظام إلى متبخترين قريبين من هناك، وهم مهرّجين كثيرا ولا يجذبون إلاّ السيّاج. العرب يحسنون الاختيار، ويعرفون حقا أنه ليس مهمّا هذا الحصان الذي من كرتون والذي يرقص، وهذا الجمل الذي من الخشب أو من القماش، والذي يرقص أيضا بشكل طريف جدّا بالتأكيد، لكن بطريقة سوقية تماما. هناك، قريبا، دكّان "قره قوز" تقليدي، كلاسيكي، بسيط بحيث لا يمكننا أن نجد شيئا أبسط منه، وبتقليد مسرحي رائع، حيث الـ"قره قوز" يختفي في وسط المشهد بين شرطيّين يبحثان عنه، فقط لأنه يحني رأسه ولم يعد باستطاعته أن يراهما. والأطفال يقبلون بذلك، ويفهمون مغزاه، ويضحكون. بالقرب من الـ"قره قوز" وبالقرب من مهرّجينا القدامى، يجب أن نتعلم من جديد الفن الدرامي الذي يحرص السيد "غونكور على قتله.
"قره قوز". قاعة صغيرة، طويلة- دكان في النّهار، وفي اللّيل ينكسر. ركح صغير بستار من القماش الشفّاف ينتصب، ويكون خلفيّة للظلال. عموديا، مقعدان على طول الجدران. هناك يجلس المشاهدون
ذوو المكانة الرفيعة، والحاصلون على بطاقات امتياز. يمتلئ وسط القاعة بأطفال صغار يتدافعون، ويجلسون على الأرض، تؤكل كميات من حبّ البطيخ الأحمر جفّفت في الملح، وهي حكسرات مثيرة جدّا حتى أنّ جيبي يفرغ منها كل مساء، وفي الصباح أملؤه منها بفلسين.
والمسلّي هنا هو هذه الكوّات في الجدار، والتي هي عبارة عن أسرّة غير لائقة مثل أعشاش خطاف البحر، ولا يتسلّق إليها الإنسان إلا بقوة ذراعيه ولا ينزل منها، ومنها يسقط، ولا تكترى إلاّ لسهرة بأكملها
لشبان من هواة سباق الثيران. إلى هنا عدت في كثير من الأمسيات. والجمهور كان دائما نفسه،
في البقاع نفسها، يكاد يستمع إلى نفس التمثيليات، ويضحك في نفس الأمكنة، مثلي أنا. والممثل الذي يُنطق
هذه الظلال، رائع.
"قره قوز". دكّان آخر. سودانيّون. حيث السودانيّون. العرب لا يذهبون بمحض إرادتهم. إذن نحن لا نرى هنا إلا زنوجا. لكن في هذا المساء، وجدت هناك أيضا فيدور روز اتبارغ . التمثيلية لم تبدأ بعد. (الفواصل بين المشاهد تطول أكثر من التمثيلية، وهذه الأخيرة لا تدوم أكثر من ربع ساعة). زنجيّ يرجّ جلجليات ، آخر يضرب على طبل مستطيل، والثالث، ضخم الجثة، يحرك رأسه برفق أمام روزبنارغ. ويكاد يكون جالسا عند أقدامنا، هو يغنيّ مرتجلا أغنية مأساوية رتيبة، فيها يقول حسب ما فهمت، أنه فقير جدّا، وأن روزنبارغ غنيّ جدّا، وأن الزنوج بحاجة إلى المال دائما. ولأنه يبدو شرسا قليلا، ولأنّ العرب يزعمون أنه ليس علينا أن نثق طويلا لا في الجمل، ولا في الزنجي، ولا في الصحراء، فإننا سرعان ما نصبح أسخياء.
"قره قوز". دكان آخر. هنا التمثيلية ليست غير ذريعة للقاءات. نفس الذين نراهم كل مساء، تراقبهم عين صاحب الدكان المتسامحة. طفل جميل بشكل مثير للغرابة، يعزف على مزمار قربة. يجتمع الناس حوله، بسبب وجوده. الآخرون من أصحابه. أحدهم يضرب على طبل له شكل وعاء. قعره يمكن أن يكون من جلد حمار. وهو، العازف على مزمار القربة، يجلب للمقهى الكثير من الزبائن، ويبدو وكأنه يبتسم للجميع دون تفضيل لأي واحد منهم. بعضهم يقولون له أبياتا من الشعر فيغنيها، ويتجاوب معها. وهو يلاطف الجميع، غير أن كل شيء يقتصر أحيانا حسب اعتقادي على بعض الاطراءات والملاطفات أمام الجميع. هذا الدكان ليس ماخورا، بل هو بالأحرى بلاط للغزل والحبّ. أحيانا، ينهض أحد الأطفال ويرقص. أحيانا أخرى يرقص اثنان. والرقص يصبح عندئذ نوعا من الايمائي الحرّ. أما التمثيلية فهي دائما فاحشة. أودّ أن أعرف قصة "القره قوز". لا بد أن يكون قديما. لقد قيل لي أنه أتى من القسطنطينية، وأن الشرطة تمنع ظهوره على المسارح في جميع الأماكن الأخرى من غير القسطنطينية وتونس.
وهذه هي التمثيلية التي غالبا ما شاهدتها:
عربيّ يفتح حمّاما. فاطمة والوكيلة تذهبان إلى هناك. "قره قوز" الفاحش، يطلب أن يدخل. له وحده، هو الذي يحتاج إلى ذلك أكثر من غيره، الحمّام يكون مغلقا. الجميع، الواحد بعد الأخر، يقدّمون أنفسهم. هناك في الحين، مجموعة من الأشخاص من التقليديين. الأعرابيّ الذي من الريف. مدخّن الحشيش. التركي. اليهودي. الشرطي. تأتي المرأة إلى العتبة. كل قادم جديد يقول كلمتين. هي تقبّل بقوة والجميع يدخلون، في حين يرضي "قره قوز" حاجته البشرية من كل واحد منهم ارتجالا. وكلّ واحد يغتصب بعد الأخر. لا أحد منهم يفلت من ذلك. المرأة أيضا في النهاية تغتضب أيضا، مقابل هديّة تتمثل في قربة من "اللاقمي" .وفي الحين يولد لها طفل. المشهد جميل. و"قره قوز" سعيد بإنجازه. وبالصبي الذي يبدو أنه ولد ذكيا. وأول صوت يطلقه الصبي يكون لطلب امرأة. وكل واحد من الرجال الذين كانوا بمثابة الألعوبة يخرج من الحمّام. و"قره قوز" يضربه. وهذا دليل على أنه الـ : « SUPER UOMO » (الرجل الأعلى).
هو لا يظهر إلاّ في شهر رمضان. والناس يصومون على مدى أربعين يوما من طلوع الشمس حتى الغروب، صوما مطلقا. لا أكل، ولا فواكه، ولا تبغ، ولا عطور، ولا نساء. وجميع الحوّاس التي يتمّ عقابها في النهار تنتقم لنفسها في الليل، والناس يتسلّون قدر ما يستطيعون. ومن المؤكد أن هناك عربا متدينون جدّا، يكون ليلهم في رمضان، عقب إفطار بسيط جدّا، منذوًرا للتعبد والتجهّد والصلاة. وثمة آخرون أيضا يواصلون تسلية أنفسهم حتى أثناء النهار. غير أن هذا لا يكون إلاّ في المدن الكبيرة التي أفسدها الفرنسيون. غير أن المسلمين جميعا، وبطبيعتهم تقريبا، متمّمون لواجباتهم الدينية، بانتظام ودقّة.
في هذه الليلة الأخيرة، أردت أن أرى من جديد، قبل أن أهرب، كل ما رغبت مدينة تونس أن تقدمه لي من شيء نادر ومن شيء غريب أكثر من قبل. سوف أتذكر أني تابعت لوقت طويل تلك الموسيقى العسكرية وهي تتجه إلى مقرّها، طنّانة جدّا، مضبوطة، جميلة، ومنتصرة، في حين، بكلّ موضع، على شاطئ البحر، والشوارع الفرنسية، تحدث نيران البنغال، من أوراق شجر الفلفل، فتيلة معدنيّة عجيبة ووردية. بالكاد يحيد بعض العرب عند مرورها. وموسيقى مقاهيهم الضعيفة تتواصل.
أعتقد أن كثيرين يتذكرون اليوم الذي فيه دخلت هذه الموسيقى إلى مدينتهم المهزومة. وكنت أخشى أن أعرف إذا ما كانوا لا يزالون يشعرون دائما بالكراهية تجاه الفرنسيين.
بحثت عن اللذة على طول نهج "المر". غير أني تحسّرت على "الحلفاوين" . مقهى عربي كان واسعا، وجميلا غير أن زبائنه كانوا بالكاد يحتملونني. الفرنسيون لم يكونوا يأتون أبدا إلى هذه المقهى. الحركة في "الحلفاوين" كانت تجذبهم، والأحياء الآخرى تظلّ صامتة. زنجي عجوز أخذ يرقص بطريقة مضحكة على نغمات مزمار القربة، وعلى ضربات الطبل.
عبر الشوارع المظلمة، أصل إلى "الحلفاوين". لم تكن هناك جموع كثيرة. ولم يكن هناك ما يمكن أن يلفت الانتباه. في نهاية المساء، وجدت من جديد روزانبارغ في دكّان الـ"قره قوز" الذي أخذته إليه في اليوم الأول. هو يفهم أيضا المنفعة التي يحصل عليها من خلال عودته المنتظمة إلى نفس الأماكن، لكي يتعود لا على وجوه كثيرة، وإنما لكي يتعوّد عليها أفضل. العرب يتعودون عليك، ونحن نبدو لهم أقلّ غرابة، وتصرفاتهم تكون مرتبكة في البداية، ثم تصبح عادية.
القنطرة :
وصلنا إلى هناك في نهاية النّهار. نهار رائع. عثمان وصل في الصباح، وكان قد نام قليلا في منتصف النهار، غير أنه كان في المحطة منذ ساعة لانتظارنا. وهذه الساعة بدا له طويلة. ومع ذلك، قال لي أنه يعتقد أنه انتظرنا أكثر من ساعة. أما قبل ذلك، فقد بدا له أنه انتظرنا سنة
ثلاثة برانيس. غندورة من الحرير الأبيض ملبّسة بالحرير الأزرق ومزيّنة باللون القرمزي. وسترته من القماش الأزرق، وعمامته الكبيرة من حبل "داكن شادة على القماش الأبيض الرفيع الذي يسقط، تلامس الخدّ وتتموّج تحت الذّقن. هذه العمرة غيّرته. لم يكن يضع على رأسه العام الماضي، وهو في السادسة عشر من عمره، غير شاشية الأطفال. وفي سنّ السابعة عشر أراد أن تكون له العمامة المعقدة الخاصة بالرجال.
وقد دفع عثمان كل ما يملكه مقابل الحصول على لباسه الجديد هذا. لقد جمّل نفسه لهذا اللقاء. لولا استقباله لنا، لما تعرفت عليه إلاّ بصعوبة.
اقترب المساء ببطء. اجترنا المضيق، والشرق الرائع ظهر لنا بهدوء في تذهيبه الساكن. نزلنا تحت النخيل، تاركين عثمان ينتظر على الطريق السيّارة التي سوف تلتحق بنا. تعرّفت من جديد على كل الأصوات، أصوات الماء المتدفق والطيور. كل شيء كان مثلما كان حاله من قبل، هادئا، وقدومنا لم يغيّر شيئا. في السيّارة، حاذينا الواحة من بعيد. عند العودة، كانت الشمس تغرب. توقفّنا أمام باب مقهى عربيّ، بعد افطار رمضان. في الساحة، بالقرب منّا، تتعارك جمال في حالة استحرام. وحارس كان يصرخ بالقرب منها. قطعان الماعز كانت تعود. وقوائمها المندفعة، لازالت تحدث مثل العام الماضي، صوتا شبيها بصوت زخّات مطر عاقر.
من كل البيوت التي من طين رمادي، يصّاعد بخار دقيق، دخان أزرق لم يلبث أن لفّ الواحة وأبعدها. والسماء، كانت في الغرب، بزرقة جدّ صافية، وجدّ عميقة حتى أنها كانت تبدو وكأنها لا تزال مشبعة بالضّوء. الصمت أصبح رائعا. ليس باستطاعتنا أن نتخيّل أي غناء. أحسست أني أحببت بمّا هذه البلاد كما لم أحب بلادا أخرى. وليس هناك مكان نتأمل فيه أفضل من هذا المكان.
-----------------------------------------------
الصورة ك أندريه جيد
غدا : ماذا رأى الكاتب الفرنسي في بسكرة
ترجمة : حسّونة الـمصباحي
في الخريف، قبل ثلاثة أعوام، كان وصولنا إلى تونس رائعة . في ذلك الوقت كانت لا تزال، برغم الطرقات الواسعة التي تخترقها، والتي كانت قد أفسدتها، مدينة كلاسيكية جميلة، منتظمة بانسجام، وبيوتها البيضاء كانت تبدو وكأنها تضيئ في المساء بحميمية مثل قناديل من المرمر.
حالما نغادر الميناء الفرنسي، نحن لا نرى حتى ولا شجرة واحدة. ونحن نبحث عن الظلّ في الأسواق، تلك الأسواق الكبيرة المسقّفة، المقبّبة، أو المغطاة بأقمشة أو بألواح خشبيّة. ولا يدخلها إلاّ ضوء عليها جوّا خاصّا. وهذه الأسواق تبدو وكأنها مدينة داخل المدينة. واسعة، تكاد تكون مساحتها ثلث مساحة مدينة تونس- من فوق السّطح، حيث كان بول لورانس يذهب ليرسم، لم نكن نرى حتى البحر غير مدرج مقطوع، وسطوح بيضاء تقطعها باحات كمثل الخنادق حيث يتمطّى قلق النساء. في المساء، كلّ الأبيض يصبح خبّازيا، والسماء بلون الشاي الوردي. في الصباح، يصبح الأبيض ورديا في سماء بلون بنفسجيّ. لكن بعد أمطار الشتاء، تخضرّ الجدران، وتغطيها أعشاب وحافة السّطوح تبدو وكأنها حافة سلّة
من الورود.
تحسّرت على تونس الكلاسيكية، البيضاء، الجدّية التي رأيتها في ذلك الخريف، والتي كانت تجعلني أفكر وأنا أتيه في الشوارع المتساوية، في هيلانة التي في "فاوست" الثاني ، أو في "بسيشي"، "ممسكا بقنديل العقيق بيده" هو يجول في ممرّ من القبور.
هم يغرسون أشجارا في الطرقات العريضة، وفي الساحات. تونس ستكون أكثر جمالا، غير أنه لم يكن هناك أي شيء يمكن أن يشوّهها على هذه الصورة. قبل عامين، كان نهج "المر" و"رحبة الغنم" لا يزالان يسمحان لنا بأن نعرف أين ننقل، وفيهما، حسب اعتقادي، ما كان يمكن أن يكون للشرق الأكثر بعدا، وافريقيا الأشدّ سرية، مذاق غرابة يسبّب لنا ذهولا أقوى. شكل مختلف من أشكال الحياة، تحقّق كله في الخارج، ممتلئا جدّا، وقديما، وكلاسيكسا، ومثبّتا. ليس هناك بعد وفاق بين حضارات الشرق، وحضارتنا نحن التي تبدو بشعه، خصوصا لما تريد أن تصلح. صفائح معدنية، وأوراق من الزنك تحلّ شيئا فشيئا محلّ حصائر القصب، وسقوف الأسواق، وفوانيس توزّع الضوء على الحيطان، حيث قديما كان نور الليالي ، ينتشر على "رحبة الغنم" الواسعة، دون أرصفة، الصامتة، والفاتنة، وحيث قبل عامين، في دفء الليالي التي يكون فيها القمر مكتملا، كان يأتي أعراب وإبل ليناموا. وكان باب مسجد يفتح. ومنه يخرج أعراب متجمّعون حول فانوس، ويتوقفون في الشارع لينشدوا نشيدا دينيا رتيبا.
بنوا أرصفة في الأسواق. في واحدة من أجمل الممرات، قاعدة الأعمدة التي تستند إليها القباب، طُمرت. أعمدة ملتوية، خضراء حمراء، بتاج ضخم، ومتقن الصّنع. القبّة بيضاء بالجير، لكنها بالكاد مضاءة. حتى في أجمل الأيام، تكون هذه الأسواق نصف معتمة. مدخل الأسواق رائع. أنا لا أتحدث عن رواق المسجد، لكن عن المدخل الضيّق الآخر، المتوارى عن الأنظار، والذي يحميه عتّاب منحن، مكوّنا استهلال ظلّ في الممرّ الصغير المعتم، الذي ينعطف لمسافة قصيرة، وثم لا يلبث أن يتوارى عن الأنظار.غير أن العتّاب المغطي بأوراق الخريف، ليس له أوراق حتى الآن، بعد حلول الربيع. أنه "السراجين" الذي يبدأ. الممرّ ينعرج، ثم يتواصل دونما نهاية.
في "سوق العطارين" يجلس الصادق عنون في محله دائما على هيئة اسكافي. ومحله صغير كما لو أنه عشّ، وواطئ السقف، مزدحم بالقوارير. أما العطورات التي يبيعها فهي الآن مزيّفة. لقد قدمت لفاليري عند عودتي إلى باريس، القارورتين الأخيرتين الأصليتين التي رأيت الصادق عنون يملؤهما بواسطة
أنبوب بعطر التفّاح، وقطرة قطرة بالعنبر الثمين. وهو لم يعد يلفّها اليوم، بشكل دقيق، وقد امتلأت
إلى النصف ببضاعة أكثر أهمية من ذي قبل، بشمع العسل البكر، وبخيط أبيض، ولم يعد يطلب مني أن أدفع ثمنا غاليا.
مع "لاورانس"، قبل عامين، كانت دقّته قد سلّتنا. لكأنها كانت تعطي ثمنا للأشياء. في كل غلاف ملفوف أكثر من اللزوم، كان العطر يصبح نادرا أكثر. في النهاية أوقفناه، ذلك أن المبلغ المالي الذي كان عندنا لم يعد كافيا. وبدون جدوى أيضا، بحثت عن ذلك المقهى المظلم الذي لم يكن يؤمّه سوى زنوج من السّودان ضخام الجثة. البعض منهم كان أصبع أرجلهم مقطوعا، إشارة إلى أنهم كانوا عبيدا. أغلبهم كانوا يضعون تحت عمائمهم، باقة صغيرة من الزهور البيضاء، ومن الياسمين المعطّر لكي ينتشوا. وهذه الباقة تنزل على الخدّ كما لو أنها خصلة رومانسية من الشعر، وتطبع على وجوههم تعبيرا ينمّ عن ارتخاء شهوانيّ. هم يحبّون عطر الزهور حدّ أنهم لا يتنشقونها أحيانا ليس بقوة وعلى هواهم، بل هم يدخلون التويجات المدعوكة في مناخرهم. في ذلك المقهى، كان أحدهم يغنّي، وأخر يروي حكايات. وثمة حمامات أليفة كانت تطير ثم تحطّ على أكتافهم.
تونس 7 مارس / آذار :
أطفال صغار يشاهدون هذا ويضحكون، ويروون لبعضهم البعض، المشاهد الإيمائية للـ "قره قوز" . رياضة صعبة للفكر: ليهذّب نفسه حتى يصبح هذا الأمر طبيعيا بالنسبة له.
الفرنسيون لا يذهبون إلى هناك. هم لا يعرفون كيف يذهبون إلى هناك. أنها دكاكين صغيرة بلا هيئة أو مظهر. ونحن نتسلّل إليها عبر باب واطئ. الفرنسيون يذهبون بانتظام إلى متبخترين قريبين من هناك، وهم مهرّجين كثيرا ولا يجذبون إلاّ السيّاج. العرب يحسنون الاختيار، ويعرفون حقا أنه ليس مهمّا هذا الحصان الذي من كرتون والذي يرقص، وهذا الجمل الذي من الخشب أو من القماش، والذي يرقص أيضا بشكل طريف جدّا بالتأكيد، لكن بطريقة سوقية تماما. هناك، قريبا، دكّان "قره قوز" تقليدي، كلاسيكي، بسيط بحيث لا يمكننا أن نجد شيئا أبسط منه، وبتقليد مسرحي رائع، حيث الـ"قره قوز" يختفي في وسط المشهد بين شرطيّين يبحثان عنه، فقط لأنه يحني رأسه ولم يعد باستطاعته أن يراهما. والأطفال يقبلون بذلك، ويفهمون مغزاه، ويضحكون. بالقرب من الـ"قره قوز" وبالقرب من مهرّجينا القدامى، يجب أن نتعلم من جديد الفن الدرامي الذي يحرص السيد "غونكور على قتله.
"قره قوز". قاعة صغيرة، طويلة- دكان في النّهار، وفي اللّيل ينكسر. ركح صغير بستار من القماش الشفّاف ينتصب، ويكون خلفيّة للظلال. عموديا، مقعدان على طول الجدران. هناك يجلس المشاهدون
ذوو المكانة الرفيعة، والحاصلون على بطاقات امتياز. يمتلئ وسط القاعة بأطفال صغار يتدافعون، ويجلسون على الأرض، تؤكل كميات من حبّ البطيخ الأحمر جفّفت في الملح، وهي حكسرات مثيرة جدّا حتى أنّ جيبي يفرغ منها كل مساء، وفي الصباح أملؤه منها بفلسين.
والمسلّي هنا هو هذه الكوّات في الجدار، والتي هي عبارة عن أسرّة غير لائقة مثل أعشاش خطاف البحر، ولا يتسلّق إليها الإنسان إلا بقوة ذراعيه ولا ينزل منها، ومنها يسقط، ولا تكترى إلاّ لسهرة بأكملها
لشبان من هواة سباق الثيران. إلى هنا عدت في كثير من الأمسيات. والجمهور كان دائما نفسه،
في البقاع نفسها، يكاد يستمع إلى نفس التمثيليات، ويضحك في نفس الأمكنة، مثلي أنا. والممثل الذي يُنطق
هذه الظلال، رائع.
"قره قوز". دكّان آخر. سودانيّون. حيث السودانيّون. العرب لا يذهبون بمحض إرادتهم. إذن نحن لا نرى هنا إلا زنوجا. لكن في هذا المساء، وجدت هناك أيضا فيدور روز اتبارغ . التمثيلية لم تبدأ بعد. (الفواصل بين المشاهد تطول أكثر من التمثيلية، وهذه الأخيرة لا تدوم أكثر من ربع ساعة). زنجيّ يرجّ جلجليات ، آخر يضرب على طبل مستطيل، والثالث، ضخم الجثة، يحرك رأسه برفق أمام روزبنارغ. ويكاد يكون جالسا عند أقدامنا، هو يغنيّ مرتجلا أغنية مأساوية رتيبة، فيها يقول حسب ما فهمت، أنه فقير جدّا، وأن روزنبارغ غنيّ جدّا، وأن الزنوج بحاجة إلى المال دائما. ولأنه يبدو شرسا قليلا، ولأنّ العرب يزعمون أنه ليس علينا أن نثق طويلا لا في الجمل، ولا في الزنجي، ولا في الصحراء، فإننا سرعان ما نصبح أسخياء.
"قره قوز". دكان آخر. هنا التمثيلية ليست غير ذريعة للقاءات. نفس الذين نراهم كل مساء، تراقبهم عين صاحب الدكان المتسامحة. طفل جميل بشكل مثير للغرابة، يعزف على مزمار قربة. يجتمع الناس حوله، بسبب وجوده. الآخرون من أصحابه. أحدهم يضرب على طبل له شكل وعاء. قعره يمكن أن يكون من جلد حمار. وهو، العازف على مزمار القربة، يجلب للمقهى الكثير من الزبائن، ويبدو وكأنه يبتسم للجميع دون تفضيل لأي واحد منهم. بعضهم يقولون له أبياتا من الشعر فيغنيها، ويتجاوب معها. وهو يلاطف الجميع، غير أن كل شيء يقتصر أحيانا حسب اعتقادي على بعض الاطراءات والملاطفات أمام الجميع. هذا الدكان ليس ماخورا، بل هو بالأحرى بلاط للغزل والحبّ. أحيانا، ينهض أحد الأطفال ويرقص. أحيانا أخرى يرقص اثنان. والرقص يصبح عندئذ نوعا من الايمائي الحرّ. أما التمثيلية فهي دائما فاحشة. أودّ أن أعرف قصة "القره قوز". لا بد أن يكون قديما. لقد قيل لي أنه أتى من القسطنطينية، وأن الشرطة تمنع ظهوره على المسارح في جميع الأماكن الأخرى من غير القسطنطينية وتونس.
وهذه هي التمثيلية التي غالبا ما شاهدتها:
عربيّ يفتح حمّاما. فاطمة والوكيلة تذهبان إلى هناك. "قره قوز" الفاحش، يطلب أن يدخل. له وحده، هو الذي يحتاج إلى ذلك أكثر من غيره، الحمّام يكون مغلقا. الجميع، الواحد بعد الأخر، يقدّمون أنفسهم. هناك في الحين، مجموعة من الأشخاص من التقليديين. الأعرابيّ الذي من الريف. مدخّن الحشيش. التركي. اليهودي. الشرطي. تأتي المرأة إلى العتبة. كل قادم جديد يقول كلمتين. هي تقبّل بقوة والجميع يدخلون، في حين يرضي "قره قوز" حاجته البشرية من كل واحد منهم ارتجالا. وكلّ واحد يغتصب بعد الأخر. لا أحد منهم يفلت من ذلك. المرأة أيضا في النهاية تغتضب أيضا، مقابل هديّة تتمثل في قربة من "اللاقمي" .وفي الحين يولد لها طفل. المشهد جميل. و"قره قوز" سعيد بإنجازه. وبالصبي الذي يبدو أنه ولد ذكيا. وأول صوت يطلقه الصبي يكون لطلب امرأة. وكل واحد من الرجال الذين كانوا بمثابة الألعوبة يخرج من الحمّام. و"قره قوز" يضربه. وهذا دليل على أنه الـ : « SUPER UOMO » (الرجل الأعلى).
هو لا يظهر إلاّ في شهر رمضان. والناس يصومون على مدى أربعين يوما من طلوع الشمس حتى الغروب، صوما مطلقا. لا أكل، ولا فواكه، ولا تبغ، ولا عطور، ولا نساء. وجميع الحوّاس التي يتمّ عقابها في النهار تنتقم لنفسها في الليل، والناس يتسلّون قدر ما يستطيعون. ومن المؤكد أن هناك عربا متدينون جدّا، يكون ليلهم في رمضان، عقب إفطار بسيط جدّا، منذوًرا للتعبد والتجهّد والصلاة. وثمة آخرون أيضا يواصلون تسلية أنفسهم حتى أثناء النهار. غير أن هذا لا يكون إلاّ في المدن الكبيرة التي أفسدها الفرنسيون. غير أن المسلمين جميعا، وبطبيعتهم تقريبا، متمّمون لواجباتهم الدينية، بانتظام ودقّة.
في هذه الليلة الأخيرة، أردت أن أرى من جديد، قبل أن أهرب، كل ما رغبت مدينة تونس أن تقدمه لي من شيء نادر ومن شيء غريب أكثر من قبل. سوف أتذكر أني تابعت لوقت طويل تلك الموسيقى العسكرية وهي تتجه إلى مقرّها، طنّانة جدّا، مضبوطة، جميلة، ومنتصرة، في حين، بكلّ موضع، على شاطئ البحر، والشوارع الفرنسية، تحدث نيران البنغال، من أوراق شجر الفلفل، فتيلة معدنيّة عجيبة ووردية. بالكاد يحيد بعض العرب عند مرورها. وموسيقى مقاهيهم الضعيفة تتواصل.
أعتقد أن كثيرين يتذكرون اليوم الذي فيه دخلت هذه الموسيقى إلى مدينتهم المهزومة. وكنت أخشى أن أعرف إذا ما كانوا لا يزالون يشعرون دائما بالكراهية تجاه الفرنسيين.
بحثت عن اللذة على طول نهج "المر". غير أني تحسّرت على "الحلفاوين" . مقهى عربي كان واسعا، وجميلا غير أن زبائنه كانوا بالكاد يحتملونني. الفرنسيون لم يكونوا يأتون أبدا إلى هذه المقهى. الحركة في "الحلفاوين" كانت تجذبهم، والأحياء الآخرى تظلّ صامتة. زنجي عجوز أخذ يرقص بطريقة مضحكة على نغمات مزمار القربة، وعلى ضربات الطبل.
عبر الشوارع المظلمة، أصل إلى "الحلفاوين". لم تكن هناك جموع كثيرة. ولم يكن هناك ما يمكن أن يلفت الانتباه. في نهاية المساء، وجدت من جديد روزانبارغ في دكّان الـ"قره قوز" الذي أخذته إليه في اليوم الأول. هو يفهم أيضا المنفعة التي يحصل عليها من خلال عودته المنتظمة إلى نفس الأماكن، لكي يتعود لا على وجوه كثيرة، وإنما لكي يتعوّد عليها أفضل. العرب يتعودون عليك، ونحن نبدو لهم أقلّ غرابة، وتصرفاتهم تكون مرتبكة في البداية، ثم تصبح عادية.
القنطرة :
وصلنا إلى هناك في نهاية النّهار. نهار رائع. عثمان وصل في الصباح، وكان قد نام قليلا في منتصف النهار، غير أنه كان في المحطة منذ ساعة لانتظارنا. وهذه الساعة بدا له طويلة. ومع ذلك، قال لي أنه يعتقد أنه انتظرنا أكثر من ساعة. أما قبل ذلك، فقد بدا له أنه انتظرنا سنة
ثلاثة برانيس. غندورة من الحرير الأبيض ملبّسة بالحرير الأزرق ومزيّنة باللون القرمزي. وسترته من القماش الأزرق، وعمامته الكبيرة من حبل "داكن شادة على القماش الأبيض الرفيع الذي يسقط، تلامس الخدّ وتتموّج تحت الذّقن. هذه العمرة غيّرته. لم يكن يضع على رأسه العام الماضي، وهو في السادسة عشر من عمره، غير شاشية الأطفال. وفي سنّ السابعة عشر أراد أن تكون له العمامة المعقدة الخاصة بالرجال.
وقد دفع عثمان كل ما يملكه مقابل الحصول على لباسه الجديد هذا. لقد جمّل نفسه لهذا اللقاء. لولا استقباله لنا، لما تعرفت عليه إلاّ بصعوبة.
اقترب المساء ببطء. اجترنا المضيق، والشرق الرائع ظهر لنا بهدوء في تذهيبه الساكن. نزلنا تحت النخيل، تاركين عثمان ينتظر على الطريق السيّارة التي سوف تلتحق بنا. تعرّفت من جديد على كل الأصوات، أصوات الماء المتدفق والطيور. كل شيء كان مثلما كان حاله من قبل، هادئا، وقدومنا لم يغيّر شيئا. في السيّارة، حاذينا الواحة من بعيد. عند العودة، كانت الشمس تغرب. توقفّنا أمام باب مقهى عربيّ، بعد افطار رمضان. في الساحة، بالقرب منّا، تتعارك جمال في حالة استحرام. وحارس كان يصرخ بالقرب منها. قطعان الماعز كانت تعود. وقوائمها المندفعة، لازالت تحدث مثل العام الماضي، صوتا شبيها بصوت زخّات مطر عاقر.
من كل البيوت التي من طين رمادي، يصّاعد بخار دقيق، دخان أزرق لم يلبث أن لفّ الواحة وأبعدها. والسماء، كانت في الغرب، بزرقة جدّ صافية، وجدّ عميقة حتى أنها كانت تبدو وكأنها لا تزال مشبعة بالضّوء. الصمت أصبح رائعا. ليس باستطاعتنا أن نتخيّل أي غناء. أحسست أني أحببت بمّا هذه البلاد كما لم أحب بلادا أخرى. وليس هناك مكان نتأمل فيه أفضل من هذا المكان.
-----------------------------------------------
الصورة ك أندريه جيد
غدا : ماذا رأى الكاتب الفرنسي في بسكرة