عرض الباحث ضمن القسم الأوّل من الكتاب المعنون "المعجزة"، وضْعَ المسيحيّين في الدولة الإسلاميّة قبل وبعد معركة مرج دابق سنة 1516، والأحداث التي مرّت عليهم بعد هذه المعركة، بالأخصّ خلال الستين سنة الأخيرة من حكم الأمبراطوريّة العثمانيّة، حيث تعرّضوا للقمع والاضطهاد، منذ مجازر 1860 في لبنان، التي أذكت نارها القوّات التركيّة. ثمّ شهدنا ذروة الظلم الذي حصد آلاف النفوس، خلال الحرب الكونيّة الأولى. بالإضافة إلى مجازر الأرمن في العام 1915، وتجويع جبل لبنان الذي أدّى إلى موت ثلث سكّانه.
ونشير هنا إلى أحد مظاهر القهر الذي تعرّضت له المجموعات المسيحيّة خلال حكم العثمانيّين، كما ورد ضمن الصّفحة 37، بـ"...استمرار ظاهرة انتزاع الأطفال المسيحيّين من أسرهم وتدريبهم وإدخالهم في صفوف الإنكشاريّة، حتّى سنة 1638 حين ألغى الباب العالي ما كان يُعرف في ذلك الحين بـ (الدوشرمه)".
وللأمانة، فقد عرض الباحث أيضًا "التنظيم الإداري أو نظام المِلَل" الذي أصدره السلطان محمّد الثاني عام 1454م. بموجب فرمان، والذي يعطي رجال الدين المسيحيّين "السلطة الروحيّة والقضائيّة والإداريّة في مسائل الأحوال الشخصيّة على جميع مسيحيّي السلطنة إلى أيِّ كنيسة انتموا". مشيرًا إلى ما حقّقه نظام المِلَل هذا، من إصلاحات جذريّة، أُطلق عليها مسمّى (التنظيمات)، وقد أجرتها السلطة العثمانيّة المتمثلة "بالخطي شريف كلخانة" عام 1839 و"الخطي شريف هامايون" عام 1856. وهو ما يمكن تشبيهه - وفق ما ورد في الكتاب - بمعجزة النهوض المسيحي في الدولة الإسلاميّة.
تناول القسم الثاني من الكتاب، واقع المسيحيّين في المشرق، قبل وبعد الربيع العربي، عارضًا أوضاع المسيحيّين في الجمهوريّة العربيّة السوريّة حتّى العام 2011، أي قبل سنتين من تاريخ صدور النسخة الأولى من الكتاب. كما أكّد أنطوان سعد، على العروبة الأصيلة التي يتمتّع بها المسيحيّون الفلسطينيّون، بالرغم من نِسبهم الضئيلة مقارنةً مع باقي الأديان، مبيّنًا التزامهم بالقضيّة الفلسطينيّة العادلة، حيث ورد في الصفحة 59: "حتّى أنّهم بمجملهم يقاطعون إلى حدٍّ ما، من تعاملوا من اللبنانيّين الجنوبيّين مع القوّات الإسرائيليّة التي احتلّت جنوب لبنان وفرّوا من قراهم لدى انسحابها عام ألفين، غير مميّزين، بخلاف غيرهم، بين مسلم ومسيحيّ ودرزي".
كما فنّد المراحل المؤلمة التي مرّ بها المسيحيّون في العراق منذ سقوط الدولة العثمانيّة ودخول بلاد الرافدين تحت سلطة البريطانيّين، عارضًا الانتفاضة التي قامت بها المجموعة الإثنيّة الأشوريّة، وكيفيّة قَمْعها بطريقة عنيفة، عندما تخلّت بريطانيا عن الوعود التي قطعتها للأشوريّين بإنشاء دولة خاصّة بهم. فتُركت هذه المجموعة المسيحيّة عرضة "لعقاب قاسٍ دمويّ أنزلته بها القوّات الحكوميّة وفصائل من الأكراد".
أيضًا توقّف عند الهجرة القسريّة للمسيحيّين التي تفاقمت بعد غزو الكويت وبعد سقوط نظام البعث، فاتحًا بابًا للأمل بعودة المسيحيّين إلى أرضهم، من خلال وضعهم الحالي في الإقليم الكردي، والذي هو نموذج يُحتذى من حيث التعامل معهم وحفظ حقوقهم والسماح لهم بممارسة نشاطاتهم الاجتماعيّة والدينيّة: "إنّ هذا النموذج بمثابة الفرصة الثانية بالنسبة إليهم التي سوف تُسهم، في حال بقيت الأمور في هذا الاتّجاه، في انتعاش الحالة المسيحيّة في هذا الأقليم الذي يبقى عراقيًّا حتّى إشعار آخر".
أمّا وضع المسيحيّين في أرض الكنانة، فلم يكن أفضل من وضعهم في بقيّة دول المشرق. وممّا ورد في مطلع الفصل الرابع من هذا القسم: "فمناخ البلد اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا يطغى عليه منحًى متشدّد... ويجري التعبير عن هذا المنحى في أكثر من مجال وفي مقدّمها تقييد حرّيّة ترميم المباني الدينيّة القديمة، ومنع بناء كنائس جديدة، ومراكز اجتماعيّة تابعة للكنيسة يفترضها النمو السكّاني الطبيعي القبطي." عرض الكاتب الواقع بجميع أبعاده، وبخاصّة بعد ثورة 1952، حيث "لم يحظَ المسيحيّون في البرلمان بنسبة توازي حتّى نصف نسبتهم العدديّة المعترَف بها رسميًّا، لا تلك التي تعلنها الكنائس المصريّة." وتوقّف عرضه للأمور عند حدود زمنيّة أقصاها تاريخ فوز الأخوان المسلمين بالحكم عام 2012.
أمّا عن الحالة في الأردن، فقد عمد المؤلِّف إلى إظهار التباين بين الوضع السياسي والوضع الاجتماعي. فعلى الصعيد السياسي يراهن المسيحيّون الأردنيّون كثيرًا على الملك الهاشمي الذي يشكّل الضمانة الوحيدة لهم ضمن الأغلبيّة المسلمة، كما أنّه بحاجة لدعمهم، وبالأخصّ بعد توقيع اتّفاق وادي عربة الذي يتحفّظ عليه المسلمون المتشدّدون. في حين ينمّ الوضع الاجتماعي القبلي عن انسجام تامّ بين البدو، حيث ورد في الصفحة 78، نقلًا عن أحد المراجع: "لا يوجد عند البدو تعصّب وتفرقة. فالكاثوليك والأورثوذوكس والمحمّديّون يعيشون في وئام تامّ، وعندما يكون المرء موجودًا في وسطهم، من الصعوبة أن يلاحظ أنّهم ينتمون إلى طوائف مختلفة. وتجدر الإشارة في هذا الإطار، إلى أنّهم تمكّنوا من تطويع الدين بشكل يناسب أسلوب عيشهم، وهذا ما تغاضى عنه رجال الدين عندهم." على أمل أن يزول المنحى الإسلامي المتشدّد في هذه المملكة، والذي يتأثّر بالثورات العربيّة ويتفاعل معها.
أمّا على صعيد الجمهوريّة العربيّة السوريّة، فنلاحظ اكتفاء أنطوان سعد بعرض موجز للأحداث التي أثّرت على الديمغرافيّة المسيحيّة – أكان سلبًا أم إيجابًا - اعتبارًا من تاريخ الانتداب الفرنسي حتى عام 2011.
يُعنى القسم الثالث من الكتاب بالشؤون اللبنانيّة، واضعًا الإصبع على الجرح النازف لغاية تاريخه، مضيئًا على الحقائق التي يتجاهلها السياسيّون المسيحيّون وأتباعهم، واستمرارهم في نهجهم الانقسامي العمودي، وجرّ مجتمعهم إلى الانهيار الشامل، مشيرًا في الصفحة 92 إلى أنّ "هذا لا يعني على الإطلاق أنّ تراجع الدور المسيحي في لبنان تتحمّل مسؤوليته الأوساط الإسلاميّة أكثر من المسيحيّة، بل على العكس. ولعلّ المفارقة الأبرز هي أنّه بخلاف سائر مسيحيّي الشرق، يتحمّل مسيحيّو لبنان مسؤوليّة كبيرة في وصول وضعهم إلى هذه الدرجة من التأزّم، بنتيجة خيارات قياداتهم وسياساتهم ومطامعهم وطموحاتهم الشخصيّة." كما أدرجَ عرضًا لـ"محطّات وخيارات حاسمة في تاريخ لبنان"، اعتبارًا من تاريخ الثورة العربيّة عام 1917.
والآن يعيش المسيحي الواعي على أمل أن يدركَ جميع المسيحيّين بأنّ التجربة اللبنانيّة فريدة ومميّزة، ويجب المحافظة عليها، تيمّنًا بالإرشاد الرسولي، مراهنًا على إدراك الأغلبيّة المسلمة أنّ هذه التجربة هي مثال الكيانيّة اللبنانيّة النهائيّة. فالأكثريّة المسيحيّة قد خرجت من حالة الوهم الذي وضعت نفسها فيه عن طواعية بعد إعلان حدود دولة لبنان الكبير، حين كانت معارضتها لسلخ لبنان عن سوريا نابعة من قناعة لديها بأهمّيّة اندماجها مع التيّارات العربيّة الإسلاميّة المتشدّدة. وقد استغلّ الغرب والكيان الصهيوني الغاصب التطرّف إلى أبعد الحدود، بغية توسيع الشرخ في المجتمعات العربيّة، خدمة لمصالحهم.
فَصَل الباحث الخيارات الرامية إلى الحفاظ على المسيحيّين ما بين الشرق ولبنان، معتبرًا أنّ بقاءهم في الشرق خيارٌ إسلاميّ، بينما هو في لبنان خيارٌ مسيحيّ بامتياز، وأنّ اشتراكهم مع أبناء بلدهم من الطوائف الأخرى مبنيٌّ على تجاوب الجميع مع تطلّعات ومتطلّبات الوجود الحرّ.
إذا كانت الأمور قد استتبّت نوعًا ما مؤخّرًا في مصر، بعد خسارة الإخوان المسلمين الحكم - باستثناء بعض الأحداث الأليمة التي ألمّت بالمسيحيّين الآمنين، والتي عولجت تداعياتها معالجة آنيّة- فإنّ الوضع في سوريا بعد عام 2011 تداخلت فيه أحداث كبيرة غير متوقَّعة، أثّرت في الوجود المسيحي، ممّا يجعل القارىء في حيرة من أمره، متسائلًا، لماذا أهمل الباحث الدؤوب أنطوان سعد، الأحداث بعد هذا التاريخ (2011) في الطبعة الأخيرة من كتابه الصادرة في العام 2019؟! آملين أن يباشر ببحثٍ آخرَ منفرد، يتعلّق بتطوّر الأحداث في سوريا الشقيقة.
إذا كان المسيحيّون الملح الذي لا يفسد في المجتمع الشرقي، وفقدانهم يُفقد هذا المجتمع جودة طعمه المميّز اجتماعيًّا وثقافيًّا، فإنّ المسؤولين المسيحيّين في لبنان اليوم – وللأسف الشديد – كانوا الطّبّاخين الذين أضرموا نارًا لا تُطفأ تحت قِدْر الصنميّة الفكريّة، والتي تجلّت بوضوح عند انقسامهم مؤخّرًا وتحوّلهم إلى أطراف متنازعين، عوض أن يسعوا متّحدين لبناء علاقة متينة مع الإسلام الليبرالي. إنّ ضعف المسيحيّين وتشرذمهم، واضمحلال النهج الإسلامي المنفتح، كفيلان بالقضاء على الكيان اللبناني. فأيّها المسيحيّون، تاجروا بالوزنة التي أوكلت لكم، وكونوا الملح الذي لا يفسد.
------
النهار