ولأن ياسين الحافظ اختلف عن كثير من المثقفين والسياسيين العرب في تبني مواضيع فكرية وسياسية لم تكن في اهتمام هؤلاء المثقفين كالثورة القومية الديمقراطية والتأخر التاريخي وتقييم الواقع العربي وفق هذا المفهوم ، فقد وصف بالسابح عكس التيار ، ولأن التيار العام هو التيار الذي يخدم مصالح الشعب فإن ياسين كان من أكثر المثقفين الذين وقفوا مع هذا التيار دون الالتزام بالمطالب الشعبوية المبنية على الرغبات والأحلام . ومع موجة الانتقادات الحادة التي توجه الآن لليسار وهي تحمله هزائم الأمة وتعزيز سلطة الاستبداد وفشل العمل السياسي فإن السؤال هو . أين موقع ياسين من هذا اليسار ؟ .
وفقاً للمفهوم الذي ساد عن اليسار والذي يدعو لرفض الواقع القائم وتحقيق واقع آخر أساسه التقدم و النهضة وما تحمله هذه النهضة من مفاهيم سياسية واجتماعية وثقافية وبالخصوص مفهوم الديمقراطية فإن ياسين الحافظ يمثل واحداً من أبرز أعمدة اليسار وذلك من خلال تحليله للواقع تحليلاً واقعياً عقلانياً ورسمه برنامج فكري سياسيي يدعو لقلب هذا الواقع وتغييره مجسداً ذلك في ممارسته العمل السياسي من خلال الأحزاب التي تبنت هذا التغيير . وانتقد بشدة حتى الذين أعلنوا انتسابهم لليسار لكنهم في الواقع كانوا متصالحين مع هذا الواقع أو يمارسون فيه طفولة تجعلهم يخرجون التاريخ من رأسهم بدل أن يخرجوا رأسهم من التاريخ كما وصفهم .
منذ بداية تكون الوعي لديه وكما يذكر في سيرته الذاتية ( تاريخ وعي – أو سيرة ذاتية ) التي رافقت كتابه الهزيمة والإيديولوجية المهزومة ، كان همه ينصب على نقد عمارة المجتمع المتأخر التي تنتج إيديولوجيات متأخرة على كل الأصعدة ، وذلك بخلاف أغلب المثقفين الذي كان همهم ينصب على الاهتمام بالسياسية اليومية للحاكم تأييداً كان أو نقداً متجاهلين الواقع الإيديولوجي المتأخر حتى لهذه السياسة أو غارقين فيها ، وهذا ما سهل عليه الاستعداد للتصالح مع منجزات فتوح العالم الحديث ، والتحرر من قيود نظام القرابة العشائري ، والانتقال لممارسة السياسة الحديثة . كما أدى إلى تطوه تطوراً تصاعدياً ليرسخ وعياً سياسياً ديمقراطياً وضعه كواحد من كبار المثقفين في القرن العشرين كما ذكرت إحدى الصحف الغربية في حينها .هذا التطور المثابر للوعي لم يتوقف عند حد وكل ما فيه قابل للنقاش والنقد وهو ما يمثل أعلى درجات الفهم ليس للديمقراطية فحسب بل للآخر المختلف الذي لا يتوقف احترامه والتفاعل مع آرائه عند أي مستوى.
لم يتنكر ياسين وهو في قمة عطائه للأخطاء الفكرية والسياسية التي وقع فيها هو أو من عملوا معه وذلك بخلاف كثير ممن التزموا اليسار وكانوا يخفون أخطاءهم أو يتعالون عليها . لم يكن متسامحا مع مثل هذه الأخطاء تحت أية حجة أو مسايراً من منطلق شعبوي ، بدوي ، تدليسي يراكمها بدل أن يواجهها ، و كان يرى أن إحدى عوامل تطور الوعي تكمن في " الصدمة " أي تحريك العقل بمواجهته بالحقيقة وبيان أخطائه بصراحة قبل تصحيحها . فهو إذ يتعرض في سيرته إلى نقد عمارة المجتمع في كل بلدان الوطن العربي التي تتشابه في السمات الاجتماعية والسياسية لكن الأنظمة التي تحكم هذه البلدان لا تتفق إلا على ممارسة أقسى أنواع الاستبداد والقمع والفساد والنهب .
صيرورة الوعي هذه لم تكن بلا ثمن طالما أن الكثير من المثقفين والكتاب يرون أن التطور في الوعي هو ( انحراف عن المبادئ ) التي تحولت عندهم إلى صنم لا يمكن تغييرها أو تبديلها. نقول ذلك لأن هناك من أخذ على ياسين وغيره مثل هذا التحول بسبب عجزهم عن الحوار والنقاش ، وبين هؤلاء من قرأ ياسين ولم يفهمه ، ومنهم من لم يقرأه أصلاً . رغم أن ياسين لم يخفي حديثه عن هذا التغيير بل أعلنه باعتزاز في عنوان واضح في سيرته " الانتقال من معتقد إيماني إلى آخر " ، كما لا يخفي ما تعرض له بسبب هذا الانتقال من اتهامات . وهو يرى أنه " من الصعب على المرء أن يتخلى دفعة واحدة عن المعتقد الإيماني ، لكن ذبول معتقد إيماني في عقل من العقول لا يعفيه بالضرورة من انبثاق توجهات عقلانية واقعية ".
مع كل التحول الذي واكب مسيرة ياسين الفكرية والسياسية فإن قضيتين أساسيين بقيتا راسختين في مسيرته الفكرية و ممارسته العملية وهما ، الديمقراطية بكل المفاهيم التي تحملها من حرية الرأي والتعبير ، وحقوق الإنسان والمواطن ، وتحرر المرأة كمواطن له حق المساواة في المجتمع ليس على الصعيد القانوني فحسب بل على الصعيد الفكري و الاجتماعي والسياسي ، موضوع الأكثرية والأقلية كحالة سياسية تؤدي لوحدة المجتمع وليس كحالة طائفية أو قومية أو دينية تقسم المجتمع وتفتته ، ثم قضية المجتمع المتأخر المفوت ونقده لهذا المجتمع والسعي لعلمنته وتقدمه بحيث يتحول إلى مجتمع يحمي المواطنة والمساواة وسيادة الشعب ويعزز مكانة الفرد الملتزم بقيم الشغل وسيادة القانون وربط الكلمة بالشيء ، والفكر بالواقع ، وإذا كانت هذه المفاهيم غريبة عن مجتمعنا وفق ما هو سائد إلا انه لن يكون هناك تقدم لهذا المجتمع دونها باعتبارها عناصر أساسية في الثورة القومية الديمقراطية التي وضع أسسها الفكرية بالتعاون مع عدد من المثقفين .
عند هذا الوعي وهذا التحليل يبقى ياسين يسارياً بامتياز لكنه اليساري المنفتح على كل الاتجاهات والتيارات ، محباً للحرية ورافضاً كل أشكال الاستبداد والاستغلال والنهب مهما كانت حججها ومبرراتها .
---------------------------------------
بمنااسبة ذكرى وفاته الخامسة والثلاثين .