إذا كانت ماسونية أديب اسحق مجرد تهمة ألصقها به (لويس شيخو)، فإن ماسونية جمال الدين الأفغاني مثبتة بقلمه، وباعترافه الشخصي، وقبل أن نورد ذلك النص الذي يعترف فيه الأفغاني بانتسابه للماسونية يستحسن أن نتذكر أن سمعة الماسونية لم تكن بذلك السوء في العالم العربي، حين انتمى إليها ذلك المفكر الإصلاحي الإيراني الأصل الأفغاني النسبة، الذي مهّد جسور التعارف والتواصل بين العرب والأفغان
ومن الاستطراد إلى السياق، فقد كان جمال الدين الأفغاني ومجايلوه ينظرون إلى الماسونية قبل تكشف دسائسها وكواليسها المتصهينة كحركة عالمية منافحة عن الحرية، وكجمعية دولية للأحرار في كل مكان، وبهذه الصفة دخل الأفغاني الغامض إلى الحركة ثم خرج من المحفل الفرنسي وهو أكثر غموضاً، ولأن انتسابه إلى الماسونيين وتنظيمهم لم يعد سراً عند الحفنة المشرقية التي كانت تعيش في باريس وجد ذلك المفكر الذكي أن خير وسائل الدفاع الهجوم، فاعترف أولاً بالانتساب وأسبابه: «وأول ما شوقني في بناية الأحرار ـ يقصد الماسونية ـ عنوان كبير خطير، حرية، مساواة، إخاء غرض منفعة الإنسان وسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق».
وبعد أن عاشر الأفغاني الماسونيين في فرنسا أربعين يوماً وأكثر بدأ يكتشف أن المكان موبوء «بجراثيم الأثرة والأنانية» ولعله طلب المساعدة السياسية من ماسونية باريس، فما أجابوه، لأنهم لم يروا فيه أكثر من عميل متحمس يصلح لخلخلة الأنظمة لا لتثبيت بدائل عنها، فلما لم يجد عندهم العون الذي كان يطلبه تغيرت اللهجة وقرر أن يهاجمهم في ذات الوقت الذي يثبت فيه انتسابه لتنظيمهم، وبذا يضرب ثلاثة عصافير معاً، فينتسب ويتبرأ، ويقطع الطريق على أي تفسير مغرض قد يصدر عن «شلة باريس» التي كانت تشاركه المنفى وبعض أعضائها لا يدري عن أهدافه إلا أقلها.
ونص ماسونية الأفغاني محفوظ في «الخاطرات» التي جمعها محمد باشا المخزومي تحت عنوان «خاطرات جمال الدين الأفغاني»، فبعد ان شرح المصلح أسباب انتسابه جاء أوان تبرير الانقلاب على الحركة: «.. هذا ما رضيته من الوصف للماسونية وارتضيته لها، ولكن مع الأسف أرى جراثيم الأثرة والأنانية وحب الرياسة.. وإذا لم تدخل الماسونية في سياسة الكون، وفيها كل بناء حر، وإذا آلات البناء التي بيدها لم تستعمل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة وإخاء ومساواة، وتدك صروح الظلم والعتو والجور فلا حملت يد الأحرار مطرقة حجارة».
* العروة الحيدرية
* ولاكتمال تثبيت ماسونية الأفغاني، لا بد أن نتساءل عن سكوت كتّاب عصر النهضة العربية الأوائل عن تفسيرها أو الإشارة إليها، فالدور الغامض لهذا المفكر الإسلامي كان معروفاً بالإشارات، والغمز دون اللمز، والحصيف لا يحتاج إلى دحمة قطار ليدرك أنه أمام تنظيم سري عالمي الطابع أخاف ولا يزال الأكاديميين والمؤرخين، وهيئات البحث العلمي شرقاً وغرباً.
ومن مضحكات أبحاثنا النهضوية والتنويرية، أننا إلى اليوم ندرس «العروة الوثقى» كصحيفة عربية في باريس دون أن نقف عند أصلها وهي الجمعية السرية التي شكلها الأفغاني قبل قدومه إلى العاصمة الفرنسية، مما يعني أن ماسونيته أصيلة وقديمة وليست وليدة المحيط الباريسي الذي وجد نفسه فيه مع شلته وتلاميذه.
وأخبار تلك الجمعية السرية موجودة عند أخلص تلاميذ الأفغاني وهو الشيخ محمد عبده الذي نشر له الباحث الجاد المرحوم علي شلش في سلسلة الأعمال المجهولة نصاً يعترف فيه بجمعية (حيدر أباد) تلك المدينة التي ستكون بعد قرن ونصف القرن من الأفغاني مقراً لأسامة بن لادن، فانظر، وتفكر ولا تأخذ أحداث الدنيا بالسطحية التي يقترحونها عليك لتريح رأسك، وتترك لهم إدارة شؤون الكون لصالح جمعيات سرية ذات أهداف شديدة الغموض والالتباس، ومغرقة في سريتها.
يقول محمد عبده في رسالة إلى استاذه جمال الدين الأفغاني، تحمل تاريخ الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 1884 ميلادية، وقد كتبها من تونس: «استطعت أن ألتقي هنا العلماء ورجال الدين، وقد عرفتهم بنا، وقلت لهم: إن العروة ليست اسم الصحيفة، وإنما اسم جمعية أسسها السيد في حيدر أباد ولها فروع في كثير من الأقطار لا يدري أحدها عن الآخر شيئاً، ولا يعرف هذه الفروع إلا الرئيس وحده، كما قلت لهم إننا نرغب اليوم بتأسيس فرع جديد في هذا البلد».
وما دام الشيخ محمد عبده يتحدث عن نفسه وعن الأفغاني بصيغة التلازم «عرفتهم بنا» و«اننا نرغب» وما دام الأمر يتعلق بفرع لجمعية سرية، وليس لصحيفة، فلماذا لم نسمع أو نقرأ شيئاً في إثبات ماسونية محمد عبده أو نفيها؟.. خصوصاً أنه كان من الشلة الباريسية، التي ضمته مع الأفغاني ويعقوب صنوع وأديب اسحق وغيرهم من منفيي المشرق.
وليس بين يدي الباحثين ـ حتى الآن ـ نص بقلم محمد عبده يثبت ماسونيته كنص جمال الدين الأفغاني في خاطراته، لكن حياة الرجلين يصعب فصلها عقائدياً وإنسانياً وتنظيمياً، ولمن يريد إمساك طرف الخيط للسعي وراء نفي أو إثبات ماسونية الشيخ محمد عبده نشير إلى أن المستشرق البريطاني (ايلي كدوري) يعتبر الأفغاني ملحداً، وكذلك تلميذه ودليله مقطع من رسالة لمحمد عبده حول رد استاذه الأفغاني على المستشرق الفرنسي (رينان) يقول فيها «لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين»، ولخطورة هذه العبارة اضطر عبده لتفسيرها لاحقاً، فقال إنه وأستاذه يميزان بين إسلام القرآن وإسلام الحكام والمعنى حسب التفسير اللاحق أن القرآن سيف الدين وهو وحده الذي يفحم الحاكم والخليفة ويفل سيفه.
ودع هذا الخيط واتبع آخر، فقد كان الشيخ عبده أثناء منفاه البيروتي في ضيافة وموضع حفاوة أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وهؤلاء ركبتهم تهمة الماسونية إلى منتصف خمسينات القرن الماضي وكان الأمير محمد سعيد حفيد الأمير عبد القادر، قد خصص جناحاً في قصره الدمشقي لاجتماع المحافل الماسونية المشرقية وهي عديدة منها محفل ميسلون، ومحفل أمية ومحفل أبي العلاء ومحفل العدل الشقيق، ومحفل يحمل اسم الأمير عبد القادر الجزائري نفسه.
وإذا كانت تلك الحفاوة مجرد كرم ضيافة عربية وليست أخوة عقائدية، فماذا نقول عن عشرات الإشارات في كتابات الشيخ عن وحدة الهدف والتنظيم والمصير بينه وبين جمال الدين الأفغاني؟، وما الرابط بين جمعية حيدر أباد السرية والشلة الباريسية التي كانت على صلات وثيقة بالحركة الماسونية؟..
* محافل المشرق
* ومن الجائز شرعاً أن نعتقد أن سكوت الباحثين عن تتبع ماسونية محمد عبده «المحتملة»، يعود إلى الظرف التاريخي، فحين تم الاحتفاء في أوائل القرن الماضي ومنتصفه بإنجازات رجال التنوير لم تكن الماسونية ذات سمعة سيئة في المشرق العربي، بل كانت على الدوام من سمات التميز والنخبوية، فمنذ أن أنشأ (نابليون) في مصر عام 1798م محفل ايزيس بالقاهرة، انتشرت الماسونية في معظم أرجاء العالم العربي ووجدت في سورية ولبنان مرتعاً خصباً، فقد أنشأ الدكتور اسكندر بارودي وحده عدة محافل منها محفل حنين، ومحفل قاديشا، ومحفل دمشق الذي أُسندت رئاسته إلى مصطفى السباعي.
وانضمام الأفغاني وبعض تلاميذه إلى الماسونية يدخل في إطار التحولات التي لحقت بتلك الحركة التي كانت حتى مطلع القرن السابع عشر تعتمد على المهندسين والمعماريين على اعتبار أن (أحيرام الصوري) مؤسسها الأول الذي استدعاه سليمان الحكيم لبناء الهيكل كان معمارياً، وهدف أحفاده التشييد والبناء، وقد ظلوا في هذا الإطار إلى أن دخلت الماسونية في التفسيرات المجازية وكثر فيها التأثير اليهودي وانتقلت منذ ثلاثة قرون لاعتبار البناء الأساسي هو بناء الروح ومنذ ذلك الوقت طغى على ذلك التنظيم وجود العلماء والأدباء والمصلحين الاجتماعيين.
ولم تتشوه سمعة الماسونية عند المشارقة إلا في خمسينات القرن الماضي، حين اكتشف المخدوعون بالأهداف السامية النظرية عن الإخاء والمساواة والحرية وجود أنشطة جاسوسية، واستخبارية لا يعرفون عنها شيئاً، وكانت القشة التي قصمت ظهر بعير الماسونية المشرقية الكشف عن الدور الذي لعبه المحفل الاسكوتلندي بالاسكندرية الذي تبين أنه كان مقراً للتجسس تم استخدامه بكثافة أثناء العدوان الثلاثي على مصر وضبطت فيه أجهزة الأمن المصرية بعد كشفه أجهزة لاسلكية، وشيفرات سرية ومعدات ضوئية لإرشاد الطائرات ليلاً، وكلها أنشطة وأدوات ليس فيها ذرة من الإخاء والمساواة والحرية.
أما قبل ذلك فقد كان النشاط الماسوني المشرقي علنياً قبل إقرار علنيته في أوروبا في العشر الأواخر من القرن العشرين، وآخر ظهور للماسونية المشرقية العلنية قبل العدوان الثلاثي تجلى في الرسالة التي تلقاها أمين عام الجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا في ربيع عام 1951 لدى انعقاد مجلس جامعة الدول العربية في دمشق، ويطلب فيها أمين الحداد رئيس محفل الإخلاص باللاذقية من القادة العرب ـ آنذاك ـ دعم نضال المغرب العربي.
ولا نظن أن قمة بيروت ستتلقى الأسبوع المقبل رسالة من أحد المحافل الماسونية العربية، فقد سارت الماسونية المشرقية عكس الغربية من العلنية إلى السرية، وما زال لها محافلها التي لا يعرف بوجودها غير المنتسبين إليها وفيهم على الدوام ثلة من كبار القوم ومتنفذيهم.
وربما كان جمال الدين الأفغاني و«شلة باريس» قد صدعوا رؤوس المحفل الأعلى وهم يطلبون المساعدة على دك عروش الشرق، فلما ضاقت الصدور بهم وبشكاواهم وتذمرهم أخرج لهم القطب الأعظم المادة 35 من القانون الماسوني العام والتي توصي الأتباع بالتالي «احترم الحكومة واخضع للشرائع ولا تدخل في مؤامرة، بل إذا مست الحاجة فقدم للحكومة الحاكمة المساعدة والعضد»، ثم ثنى بالمادة 36، وهي «تجنب المجادلات في أمر الدين والسياسة لكي تحفظ الفضائل الإنسانية».
وعندها أُسقط بيد جمال الدين وقرر الانسحاب، ففي القرن التاسع عشر ما يعرفه الإنسان في حيدر أباد يختلف عما يتعرف عليه في باريس، أما هذه الأيام، فكل ما يعرفه أهل نيويورك وواشنطن يحيط به علماً أهل «تورا بورا».
ولا تسأل عن تخطيطهما معاً ولا عن حجم التنسيق بينهما، فتلك أسئلة ماسونية سابقة لأوانها لن نستطيع حالياً تقديم إجاباتها لأن حجم ما نعرفه عن المصلحين الجدد ومراسلاتهم قليل للغاية وتسريباته الدولية تظل في حدود المسموح ولا تخرج عن إطار النخب السياسية، وهكذا لا يظل أمام الفضوليين إلا انتظار قرن ونيف لمعرفة الجواب، وسنوات الانتظار هذه تعادل تماماً من حيث الزمن ما يفصل جيلنا عن جيل الشيخ محمد عبده، وأستاذه الغامض جمال الدين الأفغاني.