يمكن تحديد السلسلة الغرائبية التي أدت إلى هذا الوضع، ليس بوفاة الرئيس الأب، بل منذ إعلان التصحيح، في الانقلاب الأخير للعسكر، وكان تصحيح ما سبقه من انقلابات. أدى إلى قيام نظام دكتاتوري، احتل فيه العسكر الدولة، على رأسه رجل عسكري استولى على الحكم، ولو ارتدى حلة مدنية، بينما السجون أصبحت المأوى البديل للسوريين، إن لم تجد السوري في بيته، فهو معتقل في فرع للمخابرات، يخرج بعد سنوات طويلة من الاحتجاز، إلى البيت أو إلى القبر.
منذئذ بدأ انحدار السوريين في اللاواقع، بات كل شيء أو أي شيء ممكن حدوثه، اعتاد الشعب عليه، بعدما جرى تطويعه على الرضوخ من خلال برنامج كان خليطاً من القهر اليومي والاعتقالات الدورية والتعذيب… كان من نتائجه، إشاعة أن الرئيس سيورث ابنه الحكم، فجرى تهيئة ابنه الطبيب للتوريث، مع أنه لم يُعرف عنه معالجة مريض. كان استدعاؤه ليتدرب على الحكم في معهد رئاسة الجمهورية، كان فيه المتدرب الوحيد، هناك درس على أيدي أساتذة مخابراتيين أطلعوه على حقائق الدولة الشمولية، خلالها انتسب إلى الجيش، وبدأ يقفز من رتبة إلى رتبة، تجاوز أغلبها، تمهيدًا لقيادة الجيش والرئاسة. بدت هذه الاندفاعة ستتوقف من تلقائها، فسوريا الجمهورية مانعة للتوريث، والدستور مانع لتقلد منصب الرئاسة بسبب السن. كان الاعتقاد أنه بوفاة الرئيس الأب ستتغير الأمور، فأوروبا القريبة على الضفة المقابلة، ترفل بالحرية والديمقراطية، على أمل التحاق سوريا بها بعدما دفعت الضريبة كاملة للعسكر.
هذا العوائق انهارت من تلقائها، وكانت المفاجأة، اعتلاء الابن سدة الرئاسة بعد تذليل موانع السن والتوريث خلال دقائق معدودات في مجلس الشعب، حتى أن الغرب دعاه بالانتقال السلس، وجاءت الوفود وباركت للرئيس الشاب دكتاتوريته على أن يطرأ عليها بعض التحسين. بدا كأن العالم على وفاق مع هذا اللاواقع، ولم يكن طارئاً، لقد صمم إلى الأبد، لا شيء سيتغير، حتى الغرب فتح للرئيس الجديد ذراعيه اعتقاداً منهم أنه سينضم إلى المجتمع الدولي، و فاتهم أن سنواته الجامعية في كلية الطب والسنوات التي أمضاها في بريطانيا لا تعني شيئاً، إزاء الدورة التدريبية المكثفة في المخابرات، ووصايا الأب الراحل، وما حذرته منه العائلة، أضف نصائح الرفاق الملالي.
في الربيع العربي، إذا كان الشعب استيقظ متأخراً، فأسوة بشعوب المنطقة، وإن اعتبر السوريون أنهم أحق من غيرهم باليقظة، مقارنة بما وقع عليهم من عسف طالهم، والتهديد المتواصل لمصادر عيشهم. تحركهم الرغبة في مشاطرة العالم بالحرية والعيش الكريم، كان الواقع الذي يلوح لهم، يتلخص بالديمقرطية. في حين كان اللاواقع الذين يعمل عليه النظام أجدى من أي واقع، ما دام الغرب يطيب له المشاركة به، بيد أن النظام سيستثمرهم باختراع الإرهاب وتضخيمه، مسجلًا النجاح الحقيقي محليًا وإقليميًا وعالميًا، فالإرهاب لم يكن واقعًا، بل لا أكثر من خطر متوقع من النزعة الجهادية المكبوتة لدى مجموعات صغيرة، المراقبة جيداً، يمكن التحكم بها، سواء بقمعها بالمشانق، أو تفعيلها بمهمات محدودة لتخويف الخصوم. كانت إدارة الإرهاب هي المطلوبة بالتحكم به داخليًا، وإطلاقه في بلدان الجوار والعالم.
جيُّرت المظاهرات الاحتجاجية إلى إرهاب، واعتبر المنتفضون ضد النظام إرهابيين، واكتسى اللاواقع بمجازر وحشية ودموية، وبدأ الحل العسكري الذي لم ينته. وإذا كان الغرب قد أيد مطالب المتظاهرين بالحرية والديمقراطية، لكن النظام سيلوح للغرب بقدرة اللاواقع، الذي حوّل جبهات القتال المتوزعة على الأرض السورية إلى بؤر إرهابية، بوسعهم الاستفادة منها في التخلص من الجهاديين، وتفريغ بلدانهم منهم بالقضاء عليهم في ميادين القتال، وفي حال انتصرت الخلافة، فلن يعودوا، وسيهرع ما فضل منهم إلى بلاد الشريعة الحقة.
كرس النظام هذا اللاواقع بابتكار المؤامرة الكونية، وتحويل الثورة إلى إرهاب، واعتقال المعارضين بحجة الاستقرار، وقتل المتظاهرين تحت أنظار العالم. لم يوفر النظام جريمة لم يرتكبها، سواء باستخدام الكيماوي، أو البراميل المتفجرة، كانت مدعومة باستدعاء الروس والإيرانيين وتدفق الميليشيات المذهبية لحمايته على الأرض، والدبلوماسية الروسية لحمايته في مجلس الأمن.
لا يمكن لهذا اللاواقع الاستمرار إلا بتواطؤ الغرب الديمقراطي الذي أصم أذنيه وانتحل المعاذير لعدم التدخل الفعلي لوقف إطلاق النار على المدنيين، أو معاقبة النظام على خرق الخط الأحمر الكيماوي، وعدم تزويد الجيش الحر بمضادات طيران، أو بإقرار مناطق وممرات آمنة. أما الدول الإقليمية فعملت على إضعاف المعارضة وشرذمتها وتحويلها إلى فصائل مقاتلة متأسلمة وعصابات قتل ونهب.
سلسلة لا يمكن حدوثها إلا في بلدان دكتاتورية، متخلفة ولاعقلانية، تُسيّرها عقلية أمنية، تنهب شعبها ، تطرده وتطارده، تصادر أمواله وأراضيه، تفقره وتبتزه… بعد عشر سنوات من الثورة والحرب، ها هي طوابير الخبز والغاز، وفقدان والمازوت والبنزين، وندرة الكهرباء … أليس منظرًا من شدة واقعيته الفجة أبرز تعبير عن اللاواقع السوري البغيض؟
من المشكوك فيه حدوث تغيير على نطاق محلي أو عالمي، نحن في زمن نحتاج فيه إلى تغيير في مجرى العصر، في الحياة نفسها التي تبدو ذاهبة إلى لا مكان، وتفرز زمانًا بلا آفاق. ولا مبالغة في هذا الشك العميق الذي ينتاب السوريين، عندما تصبح نظرة العالم إليهم غير واقعية، لن ينجح أي تغيير، إن لم يأخذ بحسبانه هذا اللاواقع الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بسلاح الواقع.
---------
الناس نيوز