وسُكِب حبر كثير، واستُهلك كلام كبير حول هذه التظاهرة، لسببين، أوّلهما مخاوف أثارها المفكّرون السياسيون من اللعب على أوتار المشاكل الأمنية التي تعاني منها البلاد، ترويجاً لإقامة دولة بوليسية، وثانيها ظهور تفسّخ ضمن الفريق الوزاري للرئيس إيمانويل ماكرون، إذ إنّه، فيما كان وزير الداخلية جيرار دارمانان يشارك الى جانب الشرطة في التظاهرة، أطلق المتظاهرون صيحات الإستنكار ضد وزير العدل إريك دوبون موريتي الذي كان يدافع في البرلمان عن مشروع قانون تقدّم به تحت عنوان "من أجل الثقة بالمؤسسة القضائية".
وتعتبر الشرطة أنّ الأحكام القضائية التي تصدر بحق مرتكبي الجرائم ضد أفرادها، أوهن من أن تشكّل رادعاً يمنع تكرار هذه الجرائم، ويحول دون توسيع نطاقها، كما أنّ النهج القضائي العام ضد عموم الموقوفين يطيح بالمساعي التي تبذلها الشرطة لحفظ سيادة القانون في البلاد، ولهذا فإنّ المطلب الأساسي الذي حمله المتظاهرون هو إنزال عقوبات "آلية" بالمرتكبين، أي أنّ الشرطة تطمح الى سحب صلاحية تقدير العقوبة للقضاة ولهيئات المحلّفين.
في دول العالم الثالث، يكمن طموح الساعين الى إقامة دولة العدالة، إلى تخفيض مستوى تأثير رجال الأمن على القضاء، على اعتبار أنّ هذا النهج يعزّز الديكتاتورية الأمنية. فرنسا، في هذه التظاهرة التي شاركت فيها الغالبية الساحقة لاختلاف التلاوين السياسية، باستثناء "أقصى اليسار" الذي يمثلّه حزب "المتمرّدون" بزعامة جان لوي ملينشون، تبدو كأنّها تسير، في الإتجاه المعاكس.
والسير في "الإتجاه المعاكس" له مبرّراته، فالمسألة الأمنية التي تندرج تحت إطارها ملفات مثل الإرهاب والإتجار بالمخدّرات واللاجئين، تحتل المرتبة الأولى في السباق الرئاسي، في موسمه الحالي.
وتستغل المؤسسات الأمنية هذا الجنوح القوي نحو اليمين، من أجل تعزيز موقعها في النظام، خصوصاً أنّ جزئية من تململها محقّة، فالتعاطي العنفي مع رجال الأمن ينمو نموّاً كبيراً، كما أنّ مظاهر تحدّي القانون تكبر إلى درجة كانت قد دفعت وزير الداخلية الآتي الى فريق ماكرون من فريق الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، إلى استعمال توصيف "التوحّش المجتمعي". وهو توصيف لاقى استهجاناً كبيراً من كثير من المفكرين والسياسيين، ومن بينهم وزير العدل الآتي الى فريق ماكرون مع ميول يسارية.
ولكنّ للقضاء الفرنسي رأياً آخر. الأرقام المتعلّقة بأعماله تُظهر أنّ دمغه بالتراخي مجرّد افتراء، ونسب كل "مصائب الأمّة" إليه محاولة لتحريف المسؤوليات، فمواجهة ملفّات الإرهاب والمخدرات واللاجئين ليست مسؤولية قضائية، بل هي مسؤولية سياسية وأمنية في آن. والقضاء يعاني من شحّ في الموارد أكثر ممّا تعاني منه الشرطة.
وللمفكّرين السياسيين رأي آخر أيضاً، إذ يعتبرون أنّ الشكوى من قساوة الأحكام القضائية كبيرة، وأنّ مناعة الأنظمة الديموقراطية لا توفّرها المؤسسات الأمنية التي ترتاح الى الأعمال القضائية، بل خشية المؤسسات الأمنية من الأحكام القضائية، وأنّ نهاية العدالة تبدأ، في تلك اللحظة التي تصبح فيها الأحكام التي ينطق بها القضاء، نابعة من "عقوبات آلية" تمنعهم من التعاطي مع كل ملف على أساس المعطيات المتوافرة فيه.
إنّ النقاش حول هذه المسألة يطول، لأنّه يثير سجالاً كبيراً في زمن يكثر فيه، ليس في فرنسا فحسب بل على امتداد العالم أيضاً، رافعو شعار "الأمن هو الحل"، إلّا أنّه من المؤكد أن المشاكل التي تعاني منها المجتمعات، بدأت تثير كثيراً من التساؤلات حول قدرة الأنظمة الديموقراطية على تطبيب نفسها من الأمراض التي تفتك فيها، إذا ما بقيت عاجزة أمام إيجاد علاجات حقيقية لجذور المشاكل، فللهجرة أسبابها، ولسقوط "هيبة السلطة" مبررّاتها، ولتنامي العنف جذوره، والإنتفاضة على القضاء لا تتصل بما يصدره من أحكام بل من شعور يبدأ في اليوميات الاجتماعية بفقدان العدالة.
وفي هذا النوع من المعارك، يخسر الجميع، لأنّ كل طرف يُظهر مساوئ الطرف الآخر، فتكثر الإصطفافات التي يستغلّها التطرّف لمصلحته، ولكنّ فرنسا، بالإستناد الى الأسبقيات، تملك ما يكفي من ليونة فكرية ومن حماية مؤسساتية، من أجل أن تفيد نفسها من المواجهات التي تحتدم فيها، مما يسمح لها دائماً بإيجاد تسويات، على قاعدة "إعطِ لقيصر ما لقيصر وما للّه للّه".
-----------
النهار العربي والدولي
-----------
النهار العربي والدولي