من أوهام العرب في لحظتهم السياسية هذه، أن القضايا المصيرية مثل الاستقلال والتنمية والتحول الديمقراطي، يجب أن تبقى محصورة في الشأن المحلي. وأن ما يجري في سورية هو مسألة سورية، وبالتالي فإن ما يجب أن يشغل تفكير السوريين هو فقط إنقاذ بلدهم من الكارثة التي حلّت به، إثر الصدام ما بين توجهات جيل جديد تمتع بوعي جديد، وجيل قديم، وإن كان بعضه بجلد جديد، لا يزال مصرّا على البقاء في العصور المظلمة.
الانشطار السوري لم يكن مجرد خلاف سياسي، هو صراع بين مستويي وعي ودرجة انفتاح وأخرى، وعليه فإن الاحتدام القائم اليوم لن يتوقف على الاختراقات السياسية أو التفاهمات الدولية أو حتى خرافتي توحيد المعارضة وتغيير سلوك نظام الأسد، لأن المعارضة لن تتوحّد، والأسد لن يتغيّر.
اليقيني في ذلك مردّه إلى أن العالم الجديد سوق، وأن هذه السوق صارت بأنياب، ولم تعد مثل “سوق الحميدية” في دمشق القديمة، للترفيه والتنزّه والتسوّق الاختياري، وإنما تفرض السوق الجديدة قيمها ومفاهيمها على المساحات عبر الخرائط بلا رحمة، وكل من يصرّ على العيش رغما عن السوق تلتهمه وتهضمه وتلقي به خارج التاريخ.
الترف الذي يتعامل على أساسه كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن في اعتبارهما للملف السوري تفصيلا صغيرا مرّ عاجلا في لقائهما الأخير في جنيف، بعيدا عن قرارات مجلس الأمن واتفاق جنيف إياه، لا يعكس حقيقة ما يفكّر فيه العالم حول هذا الملف. فبقاء منطقة حساسة مثل هذا البلد بموقعه الجيوسياسي الفريد، في حالة فوضى وانهيار اقتصادي وشرذمة عسكرية ليس موضوعا للنقاش. الجواب دوما هو؛ يجب إنهاء الأوضاع والوصول إلى حالة الاستقرار، لم يعد مهمّا كيف؟ ولكن من المهمّ جدا السؤال؛ بمن يتحقق الاستقرار المنشود؟
الروس يعتقدون أن الأسد أو أيّا من مشتقات نظامه في المستقبل، ضمان للاستقرار، والأميركيون يعتقدون أن الجواب يجب ألا يأتي من دمشق، بل من الأطراف المستفيدة من استقرار دمشق وسورية تاليا، وعليه، لا يهم بمن سيتحقق الاستقرار طالما أن الفائدة قائمة، والفائدة هنا متحققة بخصوص جميع حلفاء واشنطن وأعدائها، من تل أبيب إلى أنقرة وطهران وموسكو. وليس العرب مع الأسف.
وسيكون من الصعب على السوريين مطالبة العالم بحل مشكلتهم، فضلا عن الأشقاء العرب، طالما بقيت تلك المعادلة قائمة، ولماذا المساعدة أصلا، ما دامت لا تتوافر مصلحة مباشرة لكل تلك الأطراف في تغيير الواقع؟ إذ لا أحد مستعدٌ لدفع الثمن إلى يوم القيامة. كما أن هناك عوامل لا يجري الحديث عنها بصراحة، وعند ذلك لا يمكن التقدّم لمعالجة مريض دون ذكر جميع الأعراض المحيطة بحالته الصحية.
من تلك العوامل، العامل الإسرائيلي الذي يجب النظر إليه بعين الاعتبار عند الحديث عن الملف السوري، فإسرائيل ليست لوكسمبورغ ولا المنطقة الحيادية بين الكويت والسعودية والعراق، وهي، بتاريخها الإشكالي مع الدول العربية ومن بينها سورية التي تحتل لها إسرائيل مرتفعات الجولان، تشكّل فاعلا مؤثرا في المعادلة والأوضاع بالعموم في الشرق الأوسط، وحين لا يرى السوريون ذلك أو ينظرون إليه على أنه محرّم لدى غالبية منهم، أو مغامرة لكسر التحريم لدى قلة حاولت، فهم يتجاهلون حجرا أساسيا في اللعبة. ويصح السؤال؛ ما هو شكل النظام الذي يمكن أن يقوم في دمشق والذي يمكن ألا تجده إسرائيل تهديدا لها؟ أو بصياغة أخرى، يمكن لإسرائيل أن تجده مفيدا لمصالحها، كما بحثت دول مثلها سابقا عن حالة كهذه؟
لا يدور هذا النقاش في هذه المقالة اليوم فقط، فقد كان محتدما من قبل، حين تصارعت مشاريع عدّة على سورية أواسط القرن العشرين، وكان اللاعبون تقريبا هم لاعبو اليوم مع بعض التغييرات الشكلية، وحينها عملت وزارة الخارجية الأميركية بكثافة على تصميم أفكار عديدة حول سوريا، مقتربة أكثر من التفكير البريطاني الذي كان قلقا للغاية حيال ترك سوريا بعيدا عن الحظيرة الغربية، ما استنفر طاقات جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي آنذاك، فعقد سلسلة من الاجتماعات مع خبراء السي.آي.إيه كانت نتيجتها صياغة توصيات نهائية تمّ رفعها إلى الرئيس دوايت آيزنهاور، وكانت تشير بوضوح إلى ضرورة إقامة نظام حكم “مناسب” في سورية.
وتم وضع الخطة التي سمّيت “مشروع أوميغا” التي اشترك في تصميمها كل من مدير الاستخبارات المركزية ألن دالاس، وخبراء شؤون الشرق الأوسط كيرمت روزفلت وآرشيبالد روزفلت وويلبر إيفلاند، وتم تكليف السفير الأميركي في لبنان رايموند هير بقيادة العملية.
آنذاك حظيت “أوميغا” بموافقة ومباركة آيزنهاور لأنه، كعسكري مخضرم، كان يرى أن سوريا إذا خرجت عن السيطرة فسيؤدي ذلك حتما إلى خسارة منطقة الشرق الأوسط كلها.
لم يسمع أحدٌ حينها كلاما عن دعم المعارضة لتشكيل كيان ديمقراطي في سورية، بل كانت الخطة الأميركية تقضي بسيطرة الجيش على السلطة، لكن لم يجر المضي بها بسبب نشوب حرب السويس واضطراب المنطقة. ثم عادت واشنطن وطرحت خطة أخرى سميت بالعملية “وابن” التي تقضي أيضا بإيصال الجيش إلى السلطة، وكان هدفها تأسيس مجلس عسكري حاكم، ولا ضرورة للإشارة إلى أن نغمة الحل في سورية عبر تشكيل مجلس عسكري “مُنقذ” تتصاعد في هذه المرحلة، وقتها كانت الفكرة بناء على توصيات مبكّرة من السفير الأميركي في دمشق جيمس إس موس الذي كتب في برقية أرسلها إلى رؤسائه أنه يجب على الحكومة الأميركية إيقاف ما سمّاه بـ”سقوط سوريا” تحت الهيمنة الروسية.
أما سلوين لويد وزير الخارجية البريطاني، في تلك الفترة، فقد طالب بعمل حاسم تجاه سورية في المستقبل القريب، وأصدر أنتوني أيدن رئيس الوزراء أوامره إلى كل من وزارة الخارجية والاستخبارات البريطانية للعمل على تأسيس نظام “مناسب” في سورية، معطيا الإذن بشنّ العملية “ستراغل” وتعني بالعربية “الانتشار المبعثر”، والتي دعمتها واشنطن بالطبع. وفي النهاية نجح مشروع وحيد دون غيره، لا يزال يحاول النجاة من العاصفة.
تلك المشاريع وغيرها، كانت تنظر إلى ضرورة السيطرة على سورية، لضمان المصالح في الشرق الأوسط. اليوم، فالظروف الحالية غير بعيدة عن تلك اللحظات. صحيح أنه ظهرت منذ ذلك الحين وحتى اليوم، بدائل معقولة لضمان المصالح في المنطقة، غير أن العامل الإسرائيلي، المعني كل العناية بمن يحكم دمشق، لا يزال لا يرى أن بلدا بالثقل الجغرافي والتاريخي مثل سورية، يمكن أن يكون هامشيا في حساباته، لذلك اشتغل على التفاهم مع الروس للعمل كوكلاء عن الإسرائيليين في الملف السوري، الذي تتسمّر أعينهم ليس فقط على أمن إسرائيل، وإنما على كعكة إعادة الإعمار القادمة في سوريا، والتي لن يقبلوا بأن تطالها أيدٍ قبل أيديهم، أما الروس فمصالحهم مضمونة مع الطرفين، النظام والمعارضة، لو أرادوا، إلا أنهم يفضلون العامل الأقوى؛ الإسرائيلي بالطبع. بينما يراقب الأميركيون العلاقة الإسرائيلية – الروسية الحميمة، معتبرين أنها علاقة عابرة لن تنجب تحالفا تاريخيا قد يشكل أي تهديد مزعج للعملاق الأميركي.
أوضاع كهذه لا يمكن أن تكون مفاتيح الحل لها في أدراج مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة ولا هيئات المعارضة ولا لجانها الدستورية ولا حتى في جيب الأسد ذاته. حينها يصبح من العبث إبقاء السوريين لقضيتهم قضية محلية سورية وحسب، وهذا يتوقف على الدرجة التي تغيّر فيها وعيهم السياسي خلال السنوات العشر الماضية، وإدراكهم للواقع من حولهم.
-------
العرب
الانشطار السوري لم يكن مجرد خلاف سياسي، هو صراع بين مستويي وعي ودرجة انفتاح وأخرى، وعليه فإن الاحتدام القائم اليوم لن يتوقف على الاختراقات السياسية أو التفاهمات الدولية أو حتى خرافتي توحيد المعارضة وتغيير سلوك نظام الأسد، لأن المعارضة لن تتوحّد، والأسد لن يتغيّر.
اليقيني في ذلك مردّه إلى أن العالم الجديد سوق، وأن هذه السوق صارت بأنياب، ولم تعد مثل “سوق الحميدية” في دمشق القديمة، للترفيه والتنزّه والتسوّق الاختياري، وإنما تفرض السوق الجديدة قيمها ومفاهيمها على المساحات عبر الخرائط بلا رحمة، وكل من يصرّ على العيش رغما عن السوق تلتهمه وتهضمه وتلقي به خارج التاريخ.
الترف الذي يتعامل على أساسه كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن في اعتبارهما للملف السوري تفصيلا صغيرا مرّ عاجلا في لقائهما الأخير في جنيف، بعيدا عن قرارات مجلس الأمن واتفاق جنيف إياه، لا يعكس حقيقة ما يفكّر فيه العالم حول هذا الملف. فبقاء منطقة حساسة مثل هذا البلد بموقعه الجيوسياسي الفريد، في حالة فوضى وانهيار اقتصادي وشرذمة عسكرية ليس موضوعا للنقاش. الجواب دوما هو؛ يجب إنهاء الأوضاع والوصول إلى حالة الاستقرار، لم يعد مهمّا كيف؟ ولكن من المهمّ جدا السؤال؛ بمن يتحقق الاستقرار المنشود؟
الروس يعتقدون أن الأسد أو أيّا من مشتقات نظامه في المستقبل، ضمان للاستقرار، والأميركيون يعتقدون أن الجواب يجب ألا يأتي من دمشق، بل من الأطراف المستفيدة من استقرار دمشق وسورية تاليا، وعليه، لا يهم بمن سيتحقق الاستقرار طالما أن الفائدة قائمة، والفائدة هنا متحققة بخصوص جميع حلفاء واشنطن وأعدائها، من تل أبيب إلى أنقرة وطهران وموسكو. وليس العرب مع الأسف.
وسيكون من الصعب على السوريين مطالبة العالم بحل مشكلتهم، فضلا عن الأشقاء العرب، طالما بقيت تلك المعادلة قائمة، ولماذا المساعدة أصلا، ما دامت لا تتوافر مصلحة مباشرة لكل تلك الأطراف في تغيير الواقع؟ إذ لا أحد مستعدٌ لدفع الثمن إلى يوم القيامة. كما أن هناك عوامل لا يجري الحديث عنها بصراحة، وعند ذلك لا يمكن التقدّم لمعالجة مريض دون ذكر جميع الأعراض المحيطة بحالته الصحية.
من تلك العوامل، العامل الإسرائيلي الذي يجب النظر إليه بعين الاعتبار عند الحديث عن الملف السوري، فإسرائيل ليست لوكسمبورغ ولا المنطقة الحيادية بين الكويت والسعودية والعراق، وهي، بتاريخها الإشكالي مع الدول العربية ومن بينها سورية التي تحتل لها إسرائيل مرتفعات الجولان، تشكّل فاعلا مؤثرا في المعادلة والأوضاع بالعموم في الشرق الأوسط، وحين لا يرى السوريون ذلك أو ينظرون إليه على أنه محرّم لدى غالبية منهم، أو مغامرة لكسر التحريم لدى قلة حاولت، فهم يتجاهلون حجرا أساسيا في اللعبة.
الانشطار السوري لم يكن مجرد خلاف سياسي، هو صراع بين مستويي وعي ودرجة انفتاح وأخرى، وعليه فإن الاحتدام القائم اليوم لن يتوقف على الاختراقات السياسية أو التفاهمات الدولية
لا يدور هذا النقاش في هذه المقالة اليوم فقط، فقد كان محتدما من قبل، حين تصارعت مشاريع عدّة على سورية أواسط القرن العشرين، وكان اللاعبون تقريبا هم لاعبو اليوم مع بعض التغييرات الشكلية، وحينها عملت وزارة الخارجية الأميركية بكثافة على تصميم أفكار عديدة حول سوريا، مقتربة أكثر من التفكير البريطاني الذي كان قلقا للغاية حيال ترك سوريا بعيدا عن الحظيرة الغربية، ما استنفر طاقات جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي آنذاك، فعقد سلسلة من الاجتماعات مع خبراء السي.آي.إيه كانت نتيجتها صياغة توصيات نهائية تمّ رفعها إلى الرئيس دوايت آيزنهاور، وكانت تشير بوضوح إلى ضرورة إقامة نظام حكم “مناسب” في سورية.
وتم وضع الخطة التي سمّيت “مشروع أوميغا” التي اشترك في تصميمها كل من مدير الاستخبارات المركزية ألن دالاس، وخبراء شؤون الشرق الأوسط كيرمت روزفلت وآرشيبالد روزفلت وويلبر إيفلاند، وتم تكليف السفير الأميركي في لبنان رايموند هير بقيادة العملية.
آنذاك حظيت “أوميغا” بموافقة ومباركة آيزنهاور لأنه، كعسكري مخضرم، كان يرى أن سوريا إذا خرجت عن السيطرة فسيؤدي ذلك حتما إلى خسارة منطقة الشرق الأوسط كلها.
لم يسمع أحدٌ حينها كلاما عن دعم المعارضة لتشكيل كيان ديمقراطي في سورية، بل كانت الخطة الأميركية تقضي بسيطرة الجيش على السلطة، لكن لم يجر المضي بها بسبب نشوب حرب السويس واضطراب المنطقة. ثم عادت واشنطن وطرحت خطة أخرى سميت بالعملية “وابن” التي تقضي أيضا بإيصال الجيش إلى السلطة، وكان هدفها تأسيس مجلس عسكري حاكم، ولا ضرورة للإشارة إلى أن نغمة الحل في سورية عبر تشكيل مجلس عسكري “مُنقذ” تتصاعد في هذه المرحلة، وقتها كانت الفكرة بناء على توصيات مبكّرة من السفير الأميركي في دمشق جيمس إس موس الذي كتب في برقية أرسلها إلى رؤسائه أنه يجب على الحكومة الأميركية إيقاف ما سمّاه بـ”سقوط سوريا” تحت الهيمنة الروسية.
أما سلوين لويد وزير الخارجية البريطاني، في تلك الفترة، فقد طالب بعمل حاسم تجاه سورية في المستقبل القريب، وأصدر أنتوني أيدن رئيس الوزراء أوامره إلى كل من وزارة الخارجية والاستخبارات البريطانية للعمل على تأسيس نظام “مناسب” في سورية، معطيا الإذن بشنّ العملية “ستراغل” وتعني بالعربية “الانتشار المبعثر”، والتي دعمتها واشنطن بالطبع. وفي النهاية نجح مشروع وحيد دون غيره، لا يزال يحاول النجاة من العاصفة.
تلك المشاريع وغيرها، كانت تنظر إلى ضرورة السيطرة على سورية، لضمان المصالح في الشرق الأوسط. اليوم، فالظروف الحالية غير بعيدة عن تلك اللحظات. صحيح أنه ظهرت منذ ذلك الحين وحتى اليوم، بدائل معقولة لضمان المصالح في المنطقة، غير أن العامل الإسرائيلي، المعني كل العناية بمن يحكم دمشق، لا يزال لا يرى أن بلدا بالثقل الجغرافي والتاريخي مثل سورية، يمكن أن يكون هامشيا في حساباته، لذلك اشتغل على التفاهم مع الروس للعمل كوكلاء عن الإسرائيليين في الملف السوري، الذي تتسمّر أعينهم ليس فقط على أمن إسرائيل، وإنما على كعكة إعادة الإعمار القادمة في سوريا، والتي لن يقبلوا بأن تطالها أيدٍ قبل أيديهم، أما الروس فمصالحهم مضمونة مع الطرفين، النظام والمعارضة، لو أرادوا، إلا أنهم يفضلون العامل الأقوى؛ الإسرائيلي بالطبع. بينما يراقب الأميركيون العلاقة الإسرائيلية – الروسية الحميمة، معتبرين أنها علاقة عابرة لن تنجب تحالفا تاريخيا قد يشكل أي تهديد مزعج للعملاق الأميركي.
أوضاع كهذه لا يمكن أن تكون مفاتيح الحل لها في أدراج مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة ولا هيئات المعارضة ولا لجانها الدستورية ولا حتى في جيب الأسد ذاته. حينها يصبح من العبث إبقاء السوريين لقضيتهم قضية محلية سورية وحسب، وهذا يتوقف على الدرجة التي تغيّر فيها وعيهم السياسي خلال السنوات العشر الماضية، وإدراكهم للواقع من حولهم.
-------
العرب