لا يمكن في البداية إنكار حالة الإحباط والمشاعر السلبية التي سيطرت على جمهور الثورة والمعارضة مع كل يوم كانت فيه هذه الانتخابات تقترب من موعدها، بالرغم من اليقين بأن ما سيجري لا يعدو أن يكون مسرحية هزلية مكررة يعرف الجميع تفاصيل السيناريو والإخراج، وأنها لا يمكن أن تحقق أي إضافة بالنسبة للنظام الذي كانت غايته الرئيسية تكريس بشار الأسد رئيساً لسوريا، ولا غرابة، أفلم يكن هذا هو الهدف دائماً، ومهما كان الثمن؟!
إيهام المجتمع الدولي طبعاً أن إصلاحات حقيقية حدثت في سوريا، وأنه بات هناك انتخابات رئاسية تعددية ينافس فيها الأسد مرشحون آخرون
لكن خلف هذا الهدف الأساسي كانت هناك أهداف أخرى ثانوية، لكنها في غاية الأهمية أيضاً، وخاصة بالنسبة لروسيا، وهو إظهار أن سوريا عادت لوضعها الطبيعي، إلى درجة يمكن معها تنظيم انتخابات على مستوى البلاد، وأن الشعب السوري عاد ليكون أكثر قناعة بنظامه الحالي، على الأقل باعتباره أفضل الخيارات، إلى جانب إيهام المجتمع الدولي طبعاً أن إصلاحات حقيقية حدثت في سوريا، وأنه بات هناك انتخابات رئاسية تعددية ينافس فيها الأسد مرشحون آخرون.. إلخ، وهو تمهيد بائس لإعادة اللاجئين واستقطاب أموال إعادة الإعمار، الهدفان اللذان تستميت موسكو من أجل تحقيقهما كما هو معروف.
لكن وإذا ما استثنينا الهدف الأول المحسوم بطبيعة الحال، وهو إعلان فوز بشار الأسد لولاية ثالثة، كنتيجة حتمية لهذا العرض المسرحي البائس، فإن الأهداف الأخرى، وهي الأكثر أهمية بالنسبة لحلفاء النظام كما قلنا، كان مصيرها الفشل الذريع، بل ويمكن القول إن ما أراده هؤلاء الحلفاء انقلب عليهم، وكانت النتيجة فضيحة مدوية.
فعلى صعيد نسب المشاركة، أظهرت الشهادات الواردة من مناطق سيطرة النظام، والصور والفيديوهات التي غامر الناشطون المعارضون المقيمون في هذه المناطق بشجاعة كبيرة من أجل إيصالها إلى العالم، أظهرت مدى ضعف الإقبال على التصويت، بل إن إعلام النظام ذاته وجد نفسه مضطراً، والحال هكذا، للتركيز على مشاهد (الاقتراع) في الثكنات العسكرية.
وإلى جانب تسريب مشاهد مراكز الاقتراع التي كانت أكثرها خاوية أو شبه خاوية، حفلت وسائل الإعلام بفيديوهات وصور أظهرت كيف أدار القائمون على المراكز الانتخابية والمسؤولون عن صناديق التصويت العملية، والتي بلغت من الكوميديا درجة غير متوقعة بالفعل إلى الحد الذي نجحت معه بإضحاك كثيرين ممن سيطر الوجوم عليهم وهم يشاهدون مسيرات التأييد الأمنية، وتوجه رأس النظام إلى أحد معاقل الثورة، وموقع واحدة من مجازر الكيماوي التي ارتكبها (دوما) من أجل الإدلاء بصوته هناك.
إصرار النظام على إجراء هذه الانتخابات شكل حافز قوياً بالنسبة لجمهور الثورة الذي اندفع مرة أخرى إلى الشوارع والساحات، داخل البلاد وخارجها
الفضائح التي تتالت حول هذه الانتخابات لم تتوقف عند ذلك، بل تجاوزتها إلى ما هو أبعد، مع نجاح الناشطين في المناطق التي أجريت فيها بالحصول على مقاطع صوتية تظهر حجم الابتزاز والتهديد الذي كان النظام مضطراً إليهما في النهاية، مع الإحجام الشعبي الواضح عن المشاركة في هذا الحدث، وهو أمر وإن كان مفروغاً منه بالأصل، على اعتبار أن الغالبية العظمى ممن كانوا يصوتون في الانتخابات التي تجري في سوريا حتى قبل تفجر الثورة، كانوا يفعلون ذلك بسبب الخوف بالدرجة الأولى، فإن أهمية انتشار هذه المقاطع تنبع من كونها تؤكد مجدداً أن خوف السوريين من بطش النظام وآلته الإجرامية لم يصبح راسخاً في قلوبهم، إلى الحد الذي يدفعهم للتصرف أتوماتيكياً كما تريد السلطة، بل كان لا بد من اللجوء مجدداً إلى أسلوب التهديد المباشر.
لكن الأهم من كل ما تقدم هو أن إصرار النظام على إجراء هذه الانتخابات شكل حافزا قوياً بالنسبة لجمهور الثورة الذي اندفع مرة أخرى إلى الشوارع والساحات، داخل البلاد وخارجها، من أجل التأكيد على استمرار روح الانتفاضة والتمسك بأهدافها، وشتان بين مظاهرات وإضرابات واعتصامات يقبل عليه أصحاب القضية بملء إرادتهم رغم طول أمد المعاناة، وبين مسيرات يكره على المشاركة فيها الشعب المغلوب في أكثره على أمره، والذي يتعامل هذا النظام مع أفراده في مناطق سيطرته كرهائن وأسرى.
لقد دفع هذا الحراك الشعبي المتقد في مواجهة انتخابات الأسد، أبرز القوى العظمى في العالم إلى التفاعل معه على مستوى عال، فأصدر العديد منها بيانات تؤكد على رفض هذه الانتخابات وعدم الاعتراف بقانونيتها أو شرعية نتائجها، وهو أمر بالرغم من أن لا نتائج عملية مباشرة له، إلا أنه مهم جداً بالنسبة للمستقبل، حيث تضع مواقف هذه الدول أمام النظام وحلفائه عقبات أخرى جديدة تعيق مساعيهم لإعادة تعويم بشار الأسد ونظامه، ويفرض على الدول التي تفكر بإعادة تطبيع العلاقات معه أن تعيد حساباتها مجداً.
كل ما سبق وغيره يؤكد أن خطط النظام وروسيا وإيران من تنظيم هذه الانتخابات انقلبت عليهم، والمكاسب السياسية والإعلامية التي ظنوا أنهم سيحققونها بسهولة أصيبت في مقتل، وهو أمر لم يكن ليتحقق لولا تعاضد جهود السوريين في كل مكان من أجل إظهار تهافت هذه الخطوة وإلحاق الفشل الذريع بها، فهل يمكن للعالم، وخاصة الدول التي تعيد تفكيرها بالنظام، أن يشك مرة أخرى بأنه لا مستقبل بالفعل للأسد لدى الشعب؟
----------
تلفزيون سوريا