ولعلّ مارتن إنديك، سفير الولايات المتحدة الأسبق في إسرائيل، ومساعد وزارة الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي يشغل حالياً موقع المبعوث الأمريكي الخاصّ إلى محادثات السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية؛ هو أبرز الأمثلة الكلاسيكية، والمعيارية تماماً. وكان إنديك أوّل يهودي يتولى سفارة الولايات المتحدة في الدولة العبرية، وتلك سابقة مفاجئة تماماً، قدّمها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون هدية نفيسة إلى أصدقائه في مختلف مجموعات الضغط اليهودية الأمريكية.
ومع ذلك، فإنّ إنديك غادر منصبه في إسرائيل، خريف 1997، لا تودّعه دموع الامتنان والعرفان، بل أقذع الشتائم؛ الأمر الذي أثار التساؤل البسيط المنطقي: كيف لرجل يهودي، سفير للقوّة الكونية الأعظم، يعمل في كيان يزعم اليهودية قلباً وقالباً، أن يقابله الإسرائيليون بالجحود، إلى درجة تشييعه باللعنات؟ والآن، أيضاً، لماذا يتهمه الإسرائيليون بـ"قلّة الأصل" والنفاق، بسبب إثارة مشكلة المستوطنات؛ هو الذي كان يعرف، منذ البدء، أنّ بناءها لن يتوقف، وسوف يتواصل طيلة أشهر المفاوضات؟
مفيد، هنا، استذكار نادرة أولى تخصّ إنديك، حول "موقف جوهري" ترى إسرائيل أنّ على كلّ يهودي الالتزام به، إزاء القضايا اليهودية الكبرى، والتي تتصدرها مسألة القدس كعاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. الحكاية تعود إلى احتفالات إسرائيل بالذكرى الألفية الثالثة لاختيار الملك داود مدينة القدس عاصمة لـ"الكومنولث اليهودي"، حين اعتذر إنديك عن المشاركة، وقدّم ثلاث حجج بدل الواحدة، لتبرير غيابه: أنّ الحدث "ثقافي" في الاساس، وهو يعني الملحق الثقافي الأمريكي، الذي تواجد بقوّة وتعمّد لفت الأنظار إليه حتى بدا كالطاووس أو كأمّ العروس؛ وأنّ سعادة السفير، كان في الآن ذاته، يرعى وليمة شواء في تل أبيب بمناسبة يوم العمل (الإسرائيلي أيضاً)؛ وأنه، ثالثاً، كان مدعواً للمشاركة في افتتاح ملجأ محصّن في هرتزليا، لصالح أمن اسرائيل أيضاً وأيضاً.
النار التي فُتحت على إنديك لم تشتعل في إسرائيل وحدها، بل امتدّ لهيبها إلى الولايات المتحدة، في الشوارع كما في وسائل الإعلام. ولقد غمز الكثيرون من قناة هذا اليهودي "الصبي"، الضعيف أمام دنيس روس (وكأنّ الأخير ليس يهودياً!)، والمؤتَمِر بـ"تخريفات" وارن كريستوفر و"حثالة" جيمس بيكر في وزارة الخارجية! رئيس تحرير أسبوعية "نيو ريببليك" كتب توبيخاً شديد اللهجة ضدّ سعادة السفير الصبي، وذكّره بأنّ قرار التخلف عن الاحتفال هو "سخف في سخف"، وينمّ عن معاناة إنديك من عقدتين: أنه سفير أمريكي يهودي في الدولة العبرية التي تحتفل بحدث يهودي تاريخي عمره ثلاثة آلاف عام، وأنه سفير أمريكي من أصل أسترالي!
نادرة ثانية، من وحي جولات التفاوض الراهنة، رواها الصحافي الإسرائيلي دافيد ماكوفسكي، كبير معلقي "جيروزاليم بوست"؛ وأراد منها، كما كتب شخصياً، صبّ الزيت على نار الـ"فانتازم" العربي حول وجود أربعة حاخامات في وزارة الخارجية الأمريكية. الحكاية دارت ذات ليلة في بيت السفير الأمريكي، عشية وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الخليل، أواخر 1996. كان آرون ميللر، مساعد دنيس روس ويده اليمنى، قد استأذن فريق العمل لأداء الصلاة اليهودية المعروفة باسم Kaddish، على روح والدته التي توفيت مؤخراً في كليفلاند. وأبى روس إلا أن يشارك زميله في الصلاة، ثم انضمّ إليهما إنديك، والمستشار القانوني لفريق العمل الأمريكي جوناثان شوارتز، و... إسحق موردخاي، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وكان موجوداً لأغراض استكمال الاتفاق. ويروي ماكوفسكي أنّ المفاوضين الفلسطينيين وقعوا في حيص بيص أمام هذا المشهد، ولم يكن في وسعهم القيام بشيء آخر سوى الحملقة في الفراغ!
.. الفراغ، ذاته، الذي لم يقدّم ولم يؤخّر في ماضي المفاوضات إياها، ولا يبدو انه سيفعل في مستقبلها؛ كلما توجّب أن تكون الولايات المتحدة هي الراعي الأشبه، في ناظر إسرائيل، بخبز الشعير: مأكول مذموم!