فالمنطق العقلاني لقياس الأمور يقضي بأن هذا الصحافي له سجل حافل، فهو سبق أن كشف أواخر الستينات تورط عناصر من الجيش الأميركي في مجازر في فيتنام، كما كتب عن الفضيحة الأشهر في تاريخ الرؤساء الأميركيين «ووترغيت» وقبل عشرة أعوام كان وراء فضح تعذيب جنود أميركيين لموقوفين عراقيين في سجن «أبو غريب».
أليس هذا التسلسل في الإنجازات هو ما استند له كل من احتفى بما كتبه «هيرش» بشأن الكيماوي السوري! وها هو الإعلام الممانع حوّل مقال «هيرش» بهذا الشأن إلى احتفالية. يكفي أن نبحث عن اسم «سيمور هيرش» مثلا عبر «تويتر» مثلا لنجد تغريدات كثيرة لمقاله عن الكيماوي السوري وقد أرفق بجملة سريعة بأن الرجل سبق أن كشف «أبو غريب» ومجزرة «ماي لي» في فيتنام. والإضافة السريعة في هذه التغريدات كافية لإقناع كثيرين بأن من قتل السوريين في الغوطة هم المخابرات التركية وليس النظام السوري فلا حاجة للتدقيق في مقال الرجل إذن..
لكن التدقيق في حالة «سيمور هيرش» تحديدا بات ملحا وأي تبن لمقاله الأخير من دون تمعن، فيه قفز عن حقائق يرغب البعض أن يهرب منها. نعم لـ«هيرش» أكثر من سبق صحافي أكسبه جوائز عالمية لكن هذه ليست الحقيقة الوحيدة عن الرجل. فالاستناد إلى مصداقية ما يقول يقتضي أيضا الانتباه إلى سجله الآخر من الإخفاقات وهو للحقيقة لا يقل أهمية عن إنجازاته.
«سيمور هيرش» كتب في عام 1974 أن السفير الأميركي لدى تشيلي متورط في انقلاب هناك وهو ما اعتذر عن عدم صحته بعد سنوات، وهو كتب كتابا عن الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي حوى الكثير من المغالطات مستندا إلى مصدر محدد لم يثبت أي منها وليعود «هيرش» نفسه وبعد سنوات ليصف مصدره بأنه كاذب. «هيرش» قال في عام 2004 إن لديه معلومات موثقة أن إدارة الرئيس جورج بوش ستشن حربا على إيران وتبين أن ذلك غير صحيح، وقال أيضا إنه خلال الاحتلال الأميركي للعراق اختفى مليار دولار وقال إن محطة تلفزيونية هددت بالإغلاق لأنها وضعت أسئلة محرجة للسيدة الأولى آنذاك لارا بوش، وهي أمور لم تثبت. لقد كتب هيرش وقال الكثير في حياته الحافلة التي تأرجحت ما بين الصعود والتراجع وذلك شأن كثيرين..
وللحقيقة، فإن من يرغب في تقصي إنجازات الرجل سيجد كثيرا منها ومن يبحث عن إخفاقاته فلن يعود خائبا للأسف وهذا أمر ضروري لحظه حين نقرأ مقالته الأخيرة حول الكيماوي السوري الذي استند فيه إلى من وصفه «بمصدر مطلع» وحيد من دون تقديم أي وثيقة أو صورة أو حتى تقرير رسمي كما كان حال كشوفاته السابقة.
لقد رفضت صحف كبرى هي «الغارديان» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» نشر مقال «هيرش» الأخير لأنه لا يستوفي الشروط الصحافية المطلوبة كما أغفله الكثير من الإعلام الغربي فيما اقتصر الاحتفاء به على مجموعات من اليسار أغراها أن في المقال اتهاما إلى الإدارة الأميركية. بالنسبة إلى السوريين فهم ليسوا بانتظار مقال «هيرش» ليعرفوا من قتلهم بالكيماوي، فهم يعرفونه تماما لكنهم مشغولون الآن بالهرب من براميله المتفجرة..
-------------------
الشرق الاوسط