ففي جو الارتباك الذي ساد في تلك الفترة، ليس في التلفزيون وحده، بل في أجهزة الأمن أيضا وقطعات الجيش التي أعلنت الاستنفار الكامل، ومنعت فيها الإجازات ومغادرة الثكنات.. ساد الارتباك في أجواء التلفزيون السوري، وأعلنت سرية المداهمات التي تحمي مبنى التلفزيون الاستنفار، والتدقيق في وجوه وهويات الداخلين والخارجين من وإلى المبنى، وبرزت المخالب الأمنية لهذه المؤسسة الإعلامية التي سقطت عنها كل أقنعة العمل الإعلامي، لتعود إلى أصلها كفرع أمن يدار بعقلية الاستيلاء الطائفي.
أتذكر أن الأكثرية العلوية في التلفزيون اكتست وجوهها باللون الأصفر وامتزج الحزن الجنائزي لديها بالخوف الغرائزي فصارت أحاديثهم في الغرف المغلقة في كل الأقسام محضا طائفية، تجتر مخاوف ما بعد رحيل الأسد على مصير الطائفة، وتستبعد الزملاء الذين ينتمون إلى مكونات الشعب السوري الأخرى!
لكن أول إهانة وجهها القدر للقائد الخالد في يوم رحيله أنه بسبب هذا الارتباك في التلفزيون... اتخذ مدير القناة الأولى في التلفزيون السيد عبد القادر قصاب قراراً ببث برامج علمية لأنه لم يعرف ما يبث قبل أن يعلن خبر الوفاة الرسمي ويوضع القرآن... فأعطاه قرارا ببث برامج علمية، مطمئنا إلى أنه لن تكون هناك أي محاذير أو دلالات سياسية في تلك البرامج..
لكن لسوء حظه تصادف أن منسق البرامج لم يجد سوى برنامج عن الذباب... وبعد بثه تلقى مدير عام الهيئة اتصالا هاتفيا يشتم ويلعن ويطلب التحقيق فيمن اتخذ قرار بث برنامج الذباب في الوقت الذي "انشغلت الكرة الأرضية كلها بتسريبات خبر رحيل السيد الرئيس" وسرعان ما صدر قرار بإيقاف عبد القادر القصاب عن العمل.. ريثما يتم البت في أمره.. ثم صدر قرار بإقالته من منصبه.. وكانت تلك أولى بشائر انتقام التاريخ وسخرية القدر من ذكرى "القائد الخالد!"
بعد إقالة عبد القادر القصاب من إدارة القناة الأولى في التلفزيون السوري خلفه في المنصب د. فؤاد شربجي، ثم خلف د. شربجي السيد غسان الشهاب الذي كان مثالا للموظف الخائف في تاريخ التلفزيون، وعندما طلبت الإدارة منه أن يضع أفلاما علمية أثناء انشغال العالم كله بحدث سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي في التاسع من نيسان عام 2003 لأنها لا تريد أن تعبر عن أي موقف.. اتعظ مما جرى لسلفه، فتحاشى أفلام الذباب ووضع أفلاما عن التماسيح.. بعد أن تحاشى الإعلام السوري إعلان خبر سقوط بغداد.. وما زال!
------------
اورينت