وقد نجح صدام في وقف الإيرانيين عند حدهم بعد أن أنهكهم بالحرب والاستنزاف إلى حد أن الخميني قال بعد أن وافق على وقف القتال مع العراق إنه مضطر لتجرع السم. بعبارة أخرى، فقد نجح صدام في خطوته الأولى في تقليم أظافر العدو الإيراني الذي كان يفكر منذ وصول الخميني إلى الحكم في اجتياح المنطقة العربية. لكن صدام ومن ورائه العرب الذين كانوا يدعمون ويمولون حربه ضد إيران بدأوا يتصرفون فيما بعد بعقلية العنزة التي بعد أن تعطيك حليباً طيباً تقوم أحياناً برفس الوعاء الذي فيه الحليب، فينسكب الأخير على الأرض. هذا طبعاً إذا أحسنا الظن بالعرب واعتقدنا أن سياساتهم الاستفزازية للعراق بعد انتهاء الحرب مع إيران كانت مجرد سوء تصرف وليست جزءاً خبيثاً من مخطط أمريكي كبير لاحق كان يريد إيصال العراق والمنطقة بأكملها إلى ما وصلت إليه الآن ومن ثم تسليمها لإيران.
وللتذكير فإن صدام حسين بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وبعد أن خرجت بلاده منهكة ومستنزفة تماماً من الحرب وكان بأمس الحاجة للدعم المادي، بدأ يشعر وقتها بأن بعض دول الخليج تحاول أن تعمق أزمته الاقتصادية والمعيشية بدل أن تساعده للخروج من الأزمة وذلك إما بزيادة انتاج النفط وتخفيض الأسعار، مما يضر بالاقتصاد العراقي المنهك، أو بالتنقيب عن النفط واستخراجه في منطقة متنازع عليها بين الكويت والعراق، مما جعل صدام حسين يجن جنونه وقتها.
خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية دعمت الكويت والسعودية العراق اقتصاديا ووصل حجم المساعدات الكويتية للعراق أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية إلى ما يقارب 14 مليار دولار، كان العراق يأمل بدفع هذه الديون عن طريق رفع أسعار النفط بواسطة تقليل نسبة إنتاج منظمة أوبك. واتهم العراق كلاً من الكويت والإمارات برفع نسبة إنتاجهما من النفط بدلاً من خفضه مما أدى إلى انخفاض أسعار النفط بنسبة كبيرة. وبدأت الأحداث تأخذ منحنى تصعيدياً من قبل النظام العراقي حيث بدأ العراق بتوجيه اتهامات للكويت مفادها أن الكويت قامت بأعمال تنقيب غير مرخصة عن النفط في الجانب العراقي. وصرح صدام حسين آنذاك أن الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات كانت بمثابة دفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي حسب تعبيره وأن على الكويت والسعودية التفاوض على الديون أو إلغاء جميع ديونهما على العراق، ويُقدر صندوق النقد الدولي حجم الديون العراقية للكويت بستين مليار دولار. وتعدت مطالب صدام حسين إلى طلبه من دول الخليج 10 مليارات دولار كمنحة للعراق. لكن لم تثمر الجهود الدبلوماسية في تخفيف حدة التوتر رغم الحديث عن تقديم منح كويتية وسعودية للعراق بحوالي عشرين مليار دولار مقابل ترسيم الحدود بين العراق والكويت، غير أن الجانبين الخليجي والعراقي فشلا في معالجة الأزمة، أو ربما تم إفشال الصفقة بين العراق والخليج لأن المخطط الكبير يتطلب ذلك تمهيداً لما هو قادم. ويمكن القول إن تلك اللحظة أي غزو الكويت مهد للكارثة التي أسست للخراب العربي الذي نعانيه الآن، وأدت أيضاً إلى فتح الباب على مصراعيه أمام إيران في اختراق المنطقة بضوء أخضر أمريكي لم يعد ينطلي حتى على تلاميذ المدارس.
اللوم يقع أولاً وأخيراً على القيادة العراقية التي لم تحسب الأمور جيداً وقتها وتصرفت كالثور الهائج بدون عقل ولا روية
لقد ضاعت ثمان سنوات من الحرب العراقية مع إيران سدى، وضاعت معها عشرات المليارات من الدعم العربي للعراق ضد إيران. وبعد أن كانت إيران مهيضة الجناح تلعق جراحها بعد سنوات ساحقة من الحرب، شعرت فجأة بأن أحلام الخميني باجتياح المنطقة العربية بدأت تتحقق، فقد كان الغزو العراقي للكويت بداية الفرج لإيران، وقد وفر صدام حسين وبعض دول الخليج وقتها كل ما تشتهيه إيران، فبدل أن تقرأ دول الخليج المستقبل جيداً، تمادت في استفزاز صدام ودفعه إلى التهور، وبدل أن يخرج صدام من الكويت بأقل الخسائر، راح يكابر. وقد ذكر وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر وقتها أن بلاده كانت تتمنى أن يرفض صدام الخروج من الكويت كي تبرر تشكيل تحالف دولي ضد العراق وتنفيذ مخططها القادم. وهذا الذي حصل. ويذكر بيكر أن رجليه كانت ترتجفان تحت الطاولة وهو يجري مفاوضات مع طارق عزيز ممثل الرئيس العراقي في جنيف حول الخروج من الكويت، خوفاً من أن يوافق صدام على الخروج. وعندما عاد طارق عزيز إلى طاولة المفاوضات بعد دقائق على اتصاله مع القيادة العراقية، أخبر جيمس بيكر بأن القيادة ترفض الخروج من الكويت. ويقول بيكر في تلك اللحظات توقفت رجلاي عن الارتجاف تحت الطاولة، لأن اللعبة الأمريكية كما يبدو نجحت.
طبعاً لا يمكن تبرئة أمريكا مطلقاً من لعبة الغزو كما ذكرنا آنفاً، فقد ذكرت التقارير وقتها أن السفيرة الأمريكية ايبريل غلاسبي في بغداد وقتها طمأنت الرئيس العراقي أن أي هجوم عراقي على الكويت شأن عراقي ولا يخص أمريكا، وكانت بذلك طبعاً تنصب فخاً تاريخياً لصدام. لكن تقارير أخرى جديدة تؤكد أن السفيرة الأمريكية لم تقدم أي تطمينات لصدام، بل حذرته من مغبة العدوان على الكويت وعواقبه الخطيرة. لكن في كلا الحالتين، وبغض النظر عن وجود مؤامرة أمريكية أم لا، فإن اللوم يقع أولاً وأخيراً على القيادة العراقية التي لم تحسب الأمور جيداً وقتها وتصرفت كالثور الهائج بدون عقل ولا روية. ولا يمكن أيضاً تبرئة الجانب الخليجي الذي راح وقتها ينكأ الجراح العراقية بدل مداواتها.
من مفارقات التاريخ أو دهائه أن الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان فعلاً يحمي البوابة الشرقية للعرب من الخطر الفارسي والذي كان صادقاً جداً في التصدي للفرس وكسر شوكتهم، هو الذي ساعدهم من خلال غزوه للكويت في اقتحام البوابة الشرقية واحتلال العراق لاحقاً والسيطرة عليه وعلى شعبه وثرواته، بل أيضاً في استخدامه كممر لغزو سوريا ولبنان واليمن وتشكيل ما يسمى بالهلال الشيعي الذي صار الآن بدراً. هل نجحت إيران من دون المباركة الأمريكية والإسرائيلية؟ طبعاً لا. هل يعقل أن واشنطن التي تخطط لعشرات السنين إلى الأمام لم تكن تعرف أن سقوط النظام العراقي سيؤدي إلي تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة؟ وكي لا ننسى أيضاً، فإن الجنرال الأمريكي نورمان شوارتسكوف قائد عملية «عاصفة الصحراء» التي أخرجت القوات العراقية من الكويت كتب في مذكراته لاحقاً إن أمريكا أجرت مناورات عسكرية عام 1978 في الصحراء المصرية، أي حتى قبل وصول صدام حسين إلى الحكم في العراق، تمهيداً لغزو العراق لاحقاً. وهو الأمر الذي حدث فيما بعد عام 2003. وعندما وصلت القوات الأمريكية إلى غرب العراق، اتصل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وقتها برئيس الوزراء الإسرائيلي شارون وقال له: « زال الخطر العراقي عنكم». لقد نجح المخطط الذي صار واضحاً بتوريط العراق في حربه مع إيران أولاً، ومن ثم بغزو الكويت، ومن بعده بالحصار القاتل على العراق وشعبه، ثم غزوه وتدميره وتفكيكه وتسليمه لإيران ليكون ذلك بداية انهيار المنطقة تباعاً. لقد كان التواطؤ بين أمريكا وإيران في العراق مجرد بداية لما نراه الآن في سوريا واليمن ولبنان. والحبل على الجرار. لكن البعض يرى أنه من الظلم تحميل وزر ذلك للنظام العراقي السابق، فحتى لو لم يغز صدام الكويت، كانوا سيجدون له ألف حجة وحجة لغزو العراق وإسقاطه وإيصال المنطقة بأكملها إلى هنا حسب مخططهم المرسوم منذ عقود وعقود. لكن كما يقول المثل الإنكليزي: رقصة التانغو تحتاج إلى اثنين.
----------
القدس العربي
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
هكذا فتح صدام حسين ودول الخليج وأمريكا أبواب المنطقة لإيران
|
|
|