وتعتمد هذه السياسات بالأساس على استراتيجية “تفريس” الإقليم، وتغيير هويته القومية والعرقية، وتشتيت سكانه في باقي أقاليم الدولة، وذلك من خلال التهجير القسري، والاختياري لسكانه، بسبب الأوضاع الاقتصادية والبيئية الصعبة التي يعاني منها الإقليم. ويعد إقليم خوزستان، وعاصمته الأحواز، نظرياً، أغنى الأقاليم الإيرانية، حيث تحتوي أراضيه، حسب بعض التقديرات، على 80% من نفط إيران، وحوالي 33% من الثروة المائية للبلاد، إذ يمر بالإقليم عدة أنهار مثل نهر كارون، وكرخة، والجراحي. أما واقعياً، فيعد الإقليم من أفقر الأقاليم الإيرانية وأقلها حظاً من حيث توافر الخدمات والبنى التحتية،لاسيما بعد القصف الكثيف الذي شهده الإقليم أثناء الحرب العراقية – الإيرانية (1980– 1988) الذي تسبب في تدمير أجزاء كثيرة منه، وعدم إقدام الحكومة المركزية في طهران على إعادة إعماره، فضلاً عن سياسة تغيير مسارات الأنهار التي أسهمت في تصحر أراضي الإقليم، وتغيير بيولوجية البيئة فيه. في إطار هذه السياسات، يشهد الإقليم بشكل متكرر احتجاجات عمالية وجماهيرية، تختلف أسبابها في كل مرة، لكنها تؤكد على رفض سياسة النظام تجاه الإقليم من ناحية، وسكانه من ناحية أخرى، وهو ما انعكس في الاحتجاجات الحالية التي بدأ يتسع نطاقها ليتجاوز خوزستان إلى غيرها من المحافظات الإيرانية. سياسات ممنهجة يشهد إقليم خوزستان، منذ 15 يوليو الحالي (2021) تظاهرات واسعة، بسبب ما اعتبره سكان الإقليم سياسة ممنهجة لمنع الإقليم من استغلال مقدراته، والسعى لتحويل ثرواته إلى المحافظات والأقاليم الأخرى دون النظر لاحتياجات سكانه. وتأتي هذه التظاهرت على خلفية إقدام السلطات الإيرانية على تغيير مسار ونقل مياه نهر كارون من الأحواز إلى محافظات أصفهان، ويزد، وقم. وقد شهد النهر الأكبر في الإقليم عمليات تغيير مسار متكررة منذ سنوات لمحافظات أخرى في العمق الإيراني، لمواجهة مشكلة المياة المتفاقمة في أغلب الأقاليم الإيرانية الداخلية، غير أن هذه السياسات قد تسببت في شح مياه الشرب في الإقليم، وانخفاض حاد في مستوى مياه الرى اللازمة لآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، مما أدى إلى انتشار التصحر، وتزايد العواصف الترابية، والإضرار بالبيئة بشكل عام، فضلاً عن نزوح السكان من المناطق المتصحرة وبصفة خاصة الفلاحين إلى المدن المختلفة. وقد أشارت وثيقة نشرتها منظمة “حقوق الإنسان الأحوازية” – مقرها بلجيكا- إلى أن الحكومة الإيرانية قد أصدرت قراراً بتنفيذ مشاريع نقل المياه وتخصيص الميزانية اللازمة لها من خلال إكمال مشاريع حفر انفاق “كوهرنك 3″ و”بهشت أباد” لغرض نقل مياه نهر كارون من الأحواز إلى أصفهان، على نحو أثار حفيظة سكان الإقليم، وأدى إلى تصاعد الدعوات إلى ضرورة إعادة النظر في سياسات السلطات الإيرانية تجاه الأحواز بصفة عامة، وفيما يخص إدارة الموارد المائية بصفة خاصة. وتجدر الإشارة إلى أن إيران تواجه أزمة توفير المياة والكهرباء لأغلب محافظاتها، بسبب تعرضها لموجة جفاف غير مسبوقة منذ 50 عاماً، نتجت عن ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض مستويات هطول الأمطار، بنسبة تزيد عن 40% عن مستويات العام الماضي، وقد تزداد هذه الأزمة سوءاً في المحافظات الحدودية، مما تسبب بدوره في خفض الطاقة الكهرومائية المنتجة في السدود الإيرانية، وانقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر في عموم إيران خلال الأشهر الأخيرة. ومع التسليم بوجود أزمة مياه في إيران، فإن إدارة الملف واجهت إشكاليات عديدة، بسبب الدخول في مشروعات غير مدروسة، ينتج عنها تداعيات سلبية عدة، لاسيما مشروع “بهشت آباد” الذي تولته مجموعة “خاتم المرسلين” المؤسسة الاقتصادية التابعة للحرس الثوري، ذلك المشروع الذي تعطل لسنوات بسبب مشكلات فنية عرقلت تنفيذه. وعلى الرغم من تأكيد السلطات الإيرانية على عدم وجود أى دوافع سياسية وراء قرارات تحويل مسار الأنهار في الأحواز، فإن سابق سياساتها في إقليم خوزستان يشير إلى عدم اكتراثها بعواقب مشروعات الاستفادة من مقدرات الإقليم النفطية والمائية وإيصالها لباقي أقاليم الدولة، نظراً للتغافل عن احتياجات الإقليم من هذه المقدرات وبالتالي إفقاره وإفقار سكانه، الأمر الذي ينتج عنه احتجاجات مستمرة يشهدها الإقليم منذ أبريل 2005 عندما اندلعت احتجاجات على خلفية نشر رسالة نسبت إلى محمد علي أبطحي مستشار الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، تحدث فيها عن عدة تدابير من شأنها تقليص نسبة العرب في الأحواز، وضرورة الحد من النفوذ العربي في الإقليم، من خلال خطة لتعديل التركيبة السكانية فيه ونقل العرب إلى شمال إيران. وتثير سياسات السلطات الإيرانية في الأحواز تخوفات عدة لدى قوميات أخرى وبصفة خاصة القومية الكردية التي تقطن أغلبيتها إقليم كردستان غرب إيران، حيث يتحسب الأكراد من امتداد السياسة المائية التي تمارسها السلطات الإيرانية في الأحواز إلى كردستان، لاسيما في ظل الحديث عن قرارات حكومية تفيد باعتزام السلطات تحويل مسارات أنهار في الإقليم نحو مناطق ريفية في العاصمة طهران، وهو ما يفسر قيام بعض الأكراد بتظاهرات مؤيدة للمحتجين الأحواز، فيما اتسعت رقعة الاحتجاجات خارج الأحواز، لتشمل بعض المدن خارج الإقليم، من بينها العاصمة طهران، إذ شهدت ساحة آزادي تظاهرة كبيرة، شملت طلبة عرب مهجرين إلى طهران، يقطنون حى “دولت آباد”، بالإضافة إلى مناطق قوميات أخرى لاسيما في محافظة أذربيجان الغربية، ذات الغالبية الآذرية. أبعاد جديدة اندلعت الاحتجاجات الحالية في وقت بالغ الأهمية بالنسبة للنظام الإيراني، حيث جاءت قبل أسبوعين تقريباً من تولي الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي مقاليد منصبه، وفي وقت تسعى الحكومة الحالية، والرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني، إلى انهاء مهماتها، وإغلاق ملفاتها في العديد من القضايا، لتأتي الاحتجاجات الممتدة في الأحواز لتلقي بظلالها علي المشهد السياسي الحالي، لاسيما في ظل الأبعاد المختلفة التي اتخذتها هذه الاحتجاجات، ويتمثل أبرزها في: 1- استمرار الاحتجاجات لفترة طويلة نسبياً: فعلى الرغم من التعامل الأمني مع المتظاهرين، وسقوط قتلى وعشرات المصابين واعتقال مئات المحتجين، فقد استمرت التظاهرات في أنحاء الإقليم، وامتدت إلى خارجه،في حين أن التظاهرات السابقة عادة ما يتم السيطرة عليها أمنياً في أيام معدودة. كما لم تهدأ التظاهرات حينما أقدمت القوات الأمنية المتمركزة في محافظات الإقليم بالقرب من ميادين التظاهر على التراجع بعض الشىء، وكذلك إرسال الجيش الإيرانى صهاريج مياه إلى مدن الإقليم فى محاولة لاحتواء هذه الاحتجاجات، التى اتخذت بدورها بعداً دولياً، وذلك بإعلان الولايات المتحدة متابعتها لتطورات التظاهرات، وانتقادها العنف الموجه ضد المتظاهرين. 2- دور مهم لوسائل التواصل الاجتماعي: أبدى مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في الداخل الإيراني، وفي الخارج، اهتماماً ملحوظاً بتطور الاحتجاجات، وذلك من خلال تناقل فيديوهات للتظاهرات، والدعوة لتنظيم تجمعات في ميادين أغلب المحافظات الإيرانية، تضامناً مع الحراك في الأحواز الذي شمل أكثر من 25 مدينة وقرية عربية في الإقليم، لاسيما مقاطع الفيديو التي توضح عنف الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين، والذي تسبب في مقتل 10 من المحتجين على الأقل حتى الآن، واعتقال ما يزيد عن 350 محتج أغلبهم من مدينة المحمرة. فيما تصدرت هاشتاجات مؤيدة للاحتجاجات مثل “#الأحواز_تنتفض”، و”#بسلام_آمنين” ضمن الأكثر تداولاً عبر منصة “تويتر”. كما دعت المنظمات الأحوازية في الخارج على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بها إلى التظاهر تضامناً مع الأحواز، أمام مقرات السفارات الإيرانية في أوروبا وأمام مقار هيئات تابعة للأمم المتحدة. وفي المقابل، أقدمت السلطات الإيرانية على قطع خدمة الإنترنت في أغلب مدن الإقليم، وحجب مواقع التواصل الاجتماعي عبر الهواتف النقالة، للسيطرة على دعوات التظاهر في الإقليم وخارجه، لاسيما في ظل استمرار الاحتجاجات على نحو غير مسبوق. 3- تضارب التصريحات الرسمية حول الاحتجاجات: دائماً ما تقابل الاحتجاجات الشعبية والفئوية التي يشهدها إقليم خوزستان باتهامات بالتخوين توجهها السلطات الإيرانية للمتظاهرين، واستخدام الحلول الأمنية للسيطرة السريعة على الاحتجاجات ومحاصرتها، غير أنه مع استمرار التظاهرات، وتزايد العنف تجاه المتظاهرين، تصاعدت انتقادات بعض المسئولين السياسيين والشخصيات العامة، لحالة الإقليم المتردية. ففي الوقت الذي تعزي فيه الحكومة الإيرانية أزمات الإقليم المائية إلى “الإصرار” على زراعة الأرز الذي يستهلك قدراً وفيراً من مياه الرى، انتقد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي مسئولي إقليم خوزستان، وحملهم مسئولية تردي أوضاع الإقليم وشح الماء فيه، فيما بدا وكأنه محاولة لاحتواء غضب المتظاهرين، كما انتقد محسن حيدري مندوب الأحواز في مجلس خبراء القيادة مشروع “بهشت آباد” نظراً لتأثيره السلبي علي الإقليم. فيما عبر الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد عن تضامنه مع مطالب المحتجين، منتقداً سياسة الحكومة التي تحرم الإقليم من الاستثمارات والتنمية، كما انتقد الرئيس الأسبق محمد خاتمي سياسة القمع تجاه المتظاهرين السلميين، ودعا إلى النظر بجدية في مطالبهم، فيما أعاد أنصار خاتمي مقولته: “إيران تتنفس من خوزستان” للدلالة على أهمية الإقليم، وما يتمتع به من مقومات. ويمكن القول بأن تصريحات الرئيسين السابقين تأتي في إطار انقسامات بين مفاصل السلطة داخل النظام الإيراني، وسيولة الوضع السياسي قبل تسليم الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي السلطة من الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني. مستقبل الاحتجاجات تمهد سياسات السلطات الإيرانية التمييزية في الأحواز الطريق أمام احتجاجات سكانه المستمرة والمتجددة تجاه هذه السياسات. فعلى سبيل المثال، أشار تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في إيران جاويد رحمان الصادر عن ربيع 2021 إلى “وجود سياسات تهجير قسري من المناطق التي تقطنها القوميات في البلاد، تضم من بينها القومية العربية في الأحواز”، وعدد التقرير سبل التمييز ضد الإقليم، لاسيما في سوق العمل في قطاع النفط والغاز، موضحاً أن الإقليم يحتوي على العديد من المنشآت النفطية التي يحصل فيها الفرس على الوظائف القيادية، بينما ينتمي معظم الأحوازيين إلى العمال ذوي الياقات الزرقاء، وأن سكان الإقليم يشغلون فقط 5% من وظائف صناعة النفظ في الإقليم، وذلك طبقا لتصريح ممثل المرشد الأعلى في الأحواز محسن حيدري، في 6 يناير2021. وعلى الرغم من التقارير الدولية التي تكشف الواقع التمييزي الذي تعاني منه القوميات في إيران، إلا أن النظام الإيراني لم يسبق أن قدم أية تنازلات تذكر أمام مطالبات حقوقية للأحواز، لاسيما وأن ملف حقوق الإنسان في إيران بمجمله محل خلاف بين إيران والدول الغربية، ولم يحدث فيه أى اختراق حتى خلال حقبة المفاوضات التي سبقت التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي في 14 يوليو 2015، وكان ملف حقوق الإنسان في إيران حاضراً بقوة في هذه المفاوضات، حتى استطاعت إيران تحييده والتوصل لاتفاق مع القوى الدولية، قبل أن تنسحب منه الولايات المتحدة الأمريكية في 8 مايو 2018، غير أن المفاوضات الجارية حالياً بشأن إعادة إحياء الاتفاق لا تتضمن الملف الحقوقي كشرط لإعادة الاتفاق، مما يعني أنه من غير المتوقع أن يبدي النظام الإيراني مرونة في هذا الملف بشكل عام، وتجاة قضية الأحواز بشكل خاص خلال المرحلة القادمة
--------------------------------------.
موقع كارون - مركز الاهرام للدراسات
--------------------------------------.
موقع كارون - مركز الاهرام للدراسات