لتحقيق ذلك، تحتاج إدارة بايدن للعمل على عدة محاور. أولها، من دون شك بناء الإطار الدبلوماسي والسياسي والعسكري لترتيب تموضعها العالمي. حيث يشكل هذا الإطار جوهر التوجه الاستراتيجي للوزير بلينكن. وترد من ضمن هذه المحاور مهمة تحديد لموقع كل منطقة من العالم في ضمن المصالح الشمولية للولايات المتحدة. وذلك في سياق سعي أمريكا للاستمرار بموقعها في الاقتصاد العالمي، وضمان خطوط التجارة العالمية وما يستتبعه ذلك من ضمان تفوقها في الفضاءات الثلاث، المياه الزرقاء وأعالي البحار، الفضاء السبراني والفضاء الجوي والكوني.
لكن بايدن العائد متأخراً الى الجيوستراتيجية، يجابه عالماً مختلفاً عن العالم الذي واجهه أيام أوباما. من ضمن ذلك بالطبع، حقيقة أن روسيا قد غدت أكثر توكيداً في عزمها على توسيع موقعها الدولي، وحقيقة أن الصين تبدو أكثر فأكثر مبادرة واقتحاماً في رسم مصالحها الاستراتيجية في كل من بحر الصين ووسط آسيا وفي سياقات مشروع الحزام والطريق.
ليس هذا فحسب، بل نستطيع القول إنه في إقليم الشرق الأوسط الذي يعج بالقوى المتنافسة، فإن العديد من “الأصدقاء” واجهوا حالة عدم التحديد والاسترخاء الأمريكي بالسعي لتنويع مصادر قوتهم الذاتية. من هذه الدول بالطبع تركيا وإسرائيل ومصر والدول العربية في الخليج، بل وإيران أيضاً.
في منطقة الشرق الأوسط حاولت روسيا بدورها، أن تصبح وسيط القوة المهيمن Power Brooker، بما يمكن تسميته بــ “السلم الإقليمي الروسي”، من خلال إمساكها بعدد من الخيوط إثر نزولها في سوريا. ومع استمرار حالة اللامبالاة الأمريكية، فإن التدخل الروسي في الإقليم قد سمح لها أن تصبح القوة التي يحتاجها كل المتصارعين الأبديين في الشرق الأوسط، لإبقاء صراعاتهم على نار خفيفة. لقد سمح هذا الواقع لروسيا تعظيم دورها في ملء الفراغ السياسي والاستراتيجي، على أمل أن يفتح هذا الدور الباب لاحقاً لتكريس جملة من الطموحات الاستراتيجية، عبر هيمنتها بدورها على بعض الخطوط الإقليمية للتجارة والطاقة نحو أوربا.
هكذا أصبحت روسيا محاوراً ضروريا لكل من إسرائيل وتركيا ودول الخليج العربية، بل وإيران بالطبع. وسمح التراخي الاستراتيجي الأمريكي وفقدان وضوح الأوليات الاستراتيجية الأمريكية بنشوء سياقات جديدة في العلاقات الدولية في الإقليم. فها هي تركيا تشتري الـ S400 وتتقاسم الأدوار والوظائف مع روسيا في سوريا، وها هو نتنياهو يطير إلى موسكو عشية نزول قواتها في سوريا، لتنسيق المواقف والاستراتيجيات وها هي روسيا تكرس عملية تقسيم الأدوار سوريا في إطار منصة سوتشي، وكذا فعلت مع إيران ودول الخليج العربي.
وبالنسبة لإسرائيل، فرغم أنه سرعان ما اتضح القصور الجوهري في قدرة روسيا على ضبط المطال الاستراتيجي الإيراني، وضمان لجم تهديدات الصواريخ الإيرانية الدقيقة، فإن العلاقات الخاصة بين نتنياهو وبوتين كانت تبقي هذه اللعبة مفتوحة وتسمح بعلميات قص العشب المتتالية ضد التهديدات الإيرانية. كما سمحت هذه العلاقة الخاصة أيضاً بإبقاء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية صماء مغلقة. ليس هذا فحسب، بل إن بعض الأوساط الإسرائيلية قد وجدت في هذا السبات الاستراتيجي الأمريكي فرصة لبناء شبكات جديدة من العلاقات، سواء مع المجمع التقني الروسي أو الصيني، وتمكنت من خلال ذلك من تسويق دبلوماسيتها السبرانية الأمنية.
لكن الموسيقى التي تدور عليها الكراسي الموسيقية في الشرق الأوسط لم تكن لترسو على لحن مستقر. وسرعان ما بدأت مظاهر التململ في صفوف اللاعبين الإقليميين الذين راهنوا على دور روسيا كوسيط قوة متفرد. Power Brooker على ضبط إيقاعات نزاعاتها.
فتركيا مثلاً لم تكن لتستطيع أن تنتظر طويلا وعود إنجاز المشروع الاستراتيجي الروسي بتحويلها لعقدة توزيع للنفط نحو أوربا، كبديل لخياراتها الأوربية والأمريكية، ولا كانت راضية بدورها عن سياسات روسيا في المتوسط ولا في القفقاس ولا في ليبيا ولا في البحر الأحمر والسودان.
ومن جهتها لم تعد تستطيع إسرائيل التعويل على تعهدات روسيا ضبط التهديد الإيراني، ولا هي راضية عن رؤية عناصر حزب الله في الجولان. ولا إيران أصبحت راضية عن عدم تمكن روسيا ولا الصين من فك حصار العقوبات الأمريكية، ولا تمكنت روسيا من إقناع دول الخليج من أنها يمكن أن تشكل ضامناً للأمن الإقليمي في الخليج.
وهكذا تمطط دور وسيط القوة الروسي في محاولاته جسر النزاعات في الإقليم في وقت دخلت فيه المنطقة بأسرها حالة حرب إقليمية طائفية واثنية شاملة. بل أصبح من المستحيل الجمع بين هذه القوى المتصارعة وجودياً بحيث لم تعد تكفي الوعود بضبط التناقضات. وبدأت الفرصة التي فتحت لروسيا ما بين عام 2014 إلى 2021 كفرصة تاريخية لترتيب السلام الروسي في الإقليم تذوي في رمال الشرق الأوسط المتحركة.
ومع مجيء بايدن بدأ عهد جديد من خلط الأوراق، بل أضافت سياسته الكثير لهذه الموسيقى القلقة. وفي ظروف الانشغال الكبير للإدارة في ترتيب البيت الداخلي من جهة وفي تطوير سياسات الردع ضد الخصوم والمنافسين، فان المؤسسات الاستراتيجية المختلفة من وزارة الخارجية والدفاع الخ.. تجد فرصتها للاستمرار في أجنداتها الفعلية أجنداتها الموضوعة سلفاً.
هكذا وجدنا تركيا توجه عدة ضربات موجعة لمواقع وقوى حليفة لروسيا، سواء في إدلب أو ليبيا أو أذربيجان أو أوكرانيا والبحر الأسود. وها هي تركيا تصبح الآن وبالتوافق مع الولايات المتحدة القوة الدولية الأهم في أفغانستان، بل وفي وسط آسيا.
وهكذا أيضاً وجدنا ضبطاً واضحاً لمسار أحداث غزة للجم طموحات نتنياهو عن القيام بالاقتحام البري من جهة، ولضبط عناصر الصراع في الطرف الآخر عبر قطر ومصر والأردن. ولم تتأخر النخب الإسرائيلية عن قراءة التبدل الحاصل، في حين لم يبقَ لدى نتنياهو شيء يقوله وهو خارج من جلسة الكنيست التي أنهت سلطته، سوى التأكيد أن لا أحد سواه يمكن أن “يقف في وجه الولايات المتحدة”.
وتتصرف الدبلوماسية الأمريكية من خلال مقاربة جديدة تتجلى في عدم استعجالها في حصاد النتائج وتؤكد على اعتمادها على قدراتها الذاتية أولا وقبل كل شيء، بحيث تستعيد امتلاكها لخيوط اللعبة الإقليمية بشكل مباشر وليس بالإنابة. ولقد بدا ذلك واضحا في مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران. حيث وضع مسار واضح للعملية التفاوضية بحيث أن الدبلوماسية الأمريكية، رغم استفادتها من الدور الأوربي، فإنها تعتمد أولا وأخيراً على دورها المباشر.
وفي حين تلتزم الولايات المتحدة نفسها بعدم السماح بحصول إيران على القنبلة النووية، فإنها تطلب من إسرائيل عدم تصعيد الأوضاع. ويبدو واضحا تماما أن بايدن لا يريد أن يضعف الحكومة الهجينة في إسرائيل والتي تبدو مهمتها الأساسية إنهاء عهد نتنياهو وفتح الطريق أمام ديناميات جديدة للحياة السياسية في إسرائيل، بحيث تشهد العلاقات الإسرائيلية الأمريكية الآن مرحلة متقدمة من التنسيق.
وعلى طول مساحة الإقليم، تظهر ملامح مستجدة لتكييف سياسات الدول الإقليمية مع التوجهات الأمريكية الجديدة، وليس أقلها التقارب المصري التركي والسعودي التركي، والزيارات الهامة للأمير خالد بن سلمان وكذلك العاهل الأردني لواشنطن.
لاقت القمة الأمريكية الروسية الكثير من الاهتمام تجاه ما يمكن أن يرشح عن الشرق الأوسط. لكن النتائج العملية تجعلنا نجزم أن هذه القمة لا تزال بعيدة كل البعد أن تكون يالطا جديدة، يتم فيها تقاسم الأدوار والجغرافيا. بل إن جل ما يمكن أن نستنتجه من نتائج الزيارة هو أنها وضعت حجر الأساس لقواعد منع الاشتباك التكتيكي الأمريكي الروسي في الإقليم لا أكثر ولا أقل. وفي حين كانت مكافحة الإرهاب تشكل الأولوية في الاستراتيجية الأمريكية في العهود السابقة، ثمة شعور أن الأهم في هذه المرحلة هو إعادة حسم التفوق الاستراتيجي الأمريكي وإعادة الإمساك بتلابيب السلام الأمريكي في الشرق الوسط ووسط آسيا في مواجهة عدد من المنافسين الجديين.
وإذ تنفك الولايات المتحدة بعيداً عن التواجد الفعلي على البر فإنها تستمر في تعزيز وتكثيف قدراتها الجوية والبحرية في منطقة الشرق الأوسط. ويشكل هذا رداً واضحا على كل ما يقال عن خروج أمريكا من الإقليم وانشغالها بالاشتباك مع القوى الاستراتيجية المنافسة. بل إن هذه المشاغل بالذات هي التي تعطي للإقليم أهميته كممر ومنصة استراتيجية لا تحتمل الفراغ على الإطلاق.
ومن ذات المنظور يمكن أن نلمس أن الولايات المتحدة إذ تقلص وجودها البري في الإقليم، إلا أنها بالمقابل تظهر استعدادها العملي كي تتيح أدواراً رئيسة في إدارة الإقليم للقوى الحليفة والشريكة.
حيال ذلك نشهد حراكاً روسياً توكيدياً مضاداً. فالمناورات في البحر الأسود، واجتماع اتفاقية شانغهاي، وقصف في إدلب، تحضيرات عسكرية ضد الأكراد في شرق الفرات، والتهديد الروسي الأخير بالتصدي للقصف الإسرائيلي ضد المواقع الإيرانية في سوريا، وليست هذه سوى مؤشرات أولية، ولكن جديدة تماماً. ويوحي هذا الحراك بأننا نشهد اشتباكا وانزياحاً بين نظامين للأمن والسلام.
وهنا ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه. فطالما أن الجميع يستبعد الحرب المفتوحة، بل ويهرب منها، وطالما تتصاعد التناقضات بين اللاعبين الإقليميين بما يجعل لغة المناوشات والسجالات العسكرية غير قابلة للضبط، وطالما أن الكراسي الموسيقية تستمر في الدوران، هل يمكن أن تنحرف اللعبة في المنطقة نحو الضرب بالكراسي، أي نحو الحرب وهل نسير إلى هكذا حرب ونحن نائمون؟
الأمر المقلق في المشهد أن لا أحد يملك زمام ضبط المجابهة الإقليمية، بل لا أحد مستعد لدفع ثمنها. وفي حين أن ذلك قد يعني أن أمر انفلات المجابهة لا يزال مستبعداً، لكن في ذات الوقت يعني أن المجابهة تغدو غير قابلة للضبط. وإذ تثبت التحولات منذ بداية العام مدى عدم اليقين والشك المتبادل وفي حين تغوص المنطقة أكثر فأكثر في خراب الميليشيات، وتفكك الدولة الوطنية وحيث يستجير الكل بسلامة رأس، فمن يطفئ الحريق إن اشتعل؟ الاحتدام والترقب هو سيد الموقف في الشرق الأوسط الآن. أما عن الصين وعن لبنان فثمة حديث آخر.
------------
الناس نيوز
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
ما بين الاحتدام والترقب تنضج الأزمات أو.. تنفجر
|
|
|