ويذكر أحد أهالي السويداء أن العميد وفيق ناصر قائد المخابرات العسكرية السابق في الجنوب كان في بداية الثورة يحشد شباب السويداء ويحرضهم على جيرانهم أهل درعا. وكان يقول لهم إن الحوارنة إرهابيون متطرفون ولا بد أن تتصدوا لهم، وكان الهدف على الدوام دق الأسافين بين الأقليات والأكثرية وتحريض الطرفين ضد بعضهما بعضاً على أسس طائفية ودينية. وكلنا يتذكر في بداية الثورة كيف وزعت المخابرات السورية تسجيلاً صوتياً لأحد الشيوخ العملاء لها في درعا وهو يتطاول على نساء السويداء. وقد نجحت المخابرات وقتها في تأجيج الوضع بين درعا والسويداء في بداية الثورة من خلال ذلك التسجيل المخابراتي والشيخ الأمني كي تمنع أي تعاضد بين أهل السهل والجبل أثناء الثورة. ولم يترك وفيق ناصر طريقة إلا واستخدمها لدق الأسافين بين السويداء ودرعا عن طريق عمليات الخطف التي كانت ترعاها المخابرات في درعا والسويداء في آن معاً. لكن العقلاء في السهل والجبل كانوا دائماً يحبطون مخططات أجهزة الأمن السورية الشيطانية.
وعلى الرغم من أن غالبية المسيحيين السوريين قد تركوا البلد في فترة حكم حافظ الأسد إلا أن المسيحيين الباقين في سوريا ظلوا متناغمين مع النظام، مع أن الباحث المسيحي جورج كدر قد أكد في دراسة موثقة أن حافظ الأسد الذي كان يتظاهر بحبه للمسيحيين عمل على تهجير الغالبية العظمى منهم بهدوء. وظل العلويون الأقلية الأقوى التي استخدمها النظام ضد السوريين أثناء الثورة، وورطها بدماء الشعب بحيث يضعها النظام معه في القارب نفسه، إما ننجو معاً أو نغرق معاً. وعلى الرغم من أن العلويين المساكين قد ضحوا بمئات الألوف من شبابهم على مذبح النظام بحيث غدت بعض المناطق بلا رجال، إلا أنهم اضطروا للبقاء في خانة النظام لأنهم وجدوا أنفسهم في النهاية بلا حول ولا قوة ولا خبز.
تعالوا الآن نجري جردة حساب لوضع الأقليات في سوريا بعد أن انطلت عليها لعبة النظام الشيطاني وسقطت في الفخ ووجدت أنفسها الآن في وضع كارثي لا يقل سوءاً عن المناطق التي ثارت على النظام إن لم تكن أسوأ.
النظام الفاشي كان ومازال عادلاً في توزيع الظلم على كل السوريين بمن فيهم حاضنته الشعبية في الساحل السوري التي تعيش أسوأ ظروفها منذ عقود، فلم يكتف النظام بالتضحية بمئات الألوف من العلويين في حربه ضد السوريين، بل ها هو يتركهم الآن يعانون كارثة معيشية رهيبة
حاول الموحدون الدروز في السويداء أن ينأوا بأنفسهم عن الثورة، فلم يشاركوا بها على نطاق واسع، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا ضدها، بل إن نسبة لا بأس بها حاولت أن تشارك بطريقتها السلمية وتعرضت لأسوأ أنواع الملاحقة والترهيب، لكن المحافظة ظلت بطريقة أو بأخرى على الحياد، وامتنع أكثر من أربعين ألف شاب من السويداء من الالتحاق بجيش النظام، وحاول قائد حركة الكرامة المرحوم الشيخ وحيد البلعوس أن يواجه النظام بطريقته، فاغتاله النظام مع مجموعة من رفاقه فوراً وراح يسلح الشبيحة والزعران والعصابات كي تتحكم بالسويداء. وكان له ذلك. لا بل إنه دفع بالدواعش إلى شرق السويداء للانتقام من الأهالي، فقتلوا أكثر من ثلاثمائة شخص في يوم واحد وخطفوا العديد من النساء وكل ذلك كان بترتيب وإيعاز من النظام لتأديب السويداء بعد امتناع شبابها عن الالتحاق بالجيش.
لكن رغم كل ذلك، ينظر غالبية السوريين للمحافظة على أنها ظلت أقرب إلى ملعب النظام منها إلى ملعب الثورة، مع الاعتراف أنهم احتضنوا مئات الألوف من النازحين. وقد ساد هذا الانطباع لدى غالبية أهل السويداء أنفسهم الذين ظنوا أن ابتعادهم عن خط الأغلبية سيرضي النظام ويجنبهم مخاطر المشاركة في الثورة. لكنهم اكتشفوا أنهم كانوا مثل «معايد القريتين» «لا مع ستي بخير ولا مع سيد بخير» فأهل الثورة اعتبروهم متخاذلين والنظام اعتبرهم خونة لأنهم لم يشاركوه في قتل السوريين كما يريد. وبالتالي لم يخرج أهالي السويداء من المولد بلا حمص فقط، بل صاروا فريسة لإرهاب وتشبيح النظام الذي قام بتحويل المحافظة إلى شيكاغو سوريا، فأصبحت بؤرة لتجارة وتعاطي المخدرات وعصابات الخطف والقتل والإجرام والتنكيل اليومي وحتى التجويع، مما دفع ببعض شبان المحافظة أخيراً إلى العمل كمرتزقة في ليبيا وفنزويلا. وقد اعترف أحد كبار الوجهاء في المدينة أن السويداء تعاني أكثر من المناطق التي ثارت على النظام، لأن النظام مارس فيها تدميراً أخطر بكثير من القصف والبراميل المتفجرة.
وأضاف الوجيه أن كثيرين في السويداء يتمنون لو أنهم تعرضوا للقصف ولم يتعرضوا لعملية تخريب وتدمير وإفساد منظم تقوم بها أجهزة المخابرات السورية في المحافظة حتى الآن، ولم تترك وسيلة قذرة في التاريخ إلا واستخدمتها ضد الأهالي.
وعلى ما يبدو أن النظام الفاشي كان ومازال عادلاً في توزيع الظلم على كل السوريين بمن فيهم حاضنته الشعبية في الساحل السوري التي تعيش أسوأ ظروفها منذ عقود، فلم يكتف النظام بالتضحية بمئات الألوف من العلويين في حربه ضد السوريين، بل ها هو يتركهم الآن يعانون كارثة معيشية رهيبة، بعد أن أصبحوا غير قادرين على شراء علبة المتة مشروبهم المفضل، وصار الحصول على كيلو فاكهة حلماً بعيد المنال، مع أن الساحل هو بلد الفاكهة في سوريا، لكن عصابات النظام تجمع الفاكهة والخضار وتبيعها بالدولار للعراق والخليج وتحرم العلويين حتى من رأس البصل. وحدث ولا حرج عن أهالي الضحايا الذين باتوا يتسولون لقمة الخبز وحبة الدواء، بعد أن تركهم النظام فريسة للفقر والفاقة، وكان يعوضهم عن كل «شهيد» ساعة حائط أو صحارة طماطم.
ظنت الأقليات في سوريا أن النظام سيكافئها على وقوفها معه أو على بقائها على الحياد، لكنها اكتشفت متأخرة أنها كانت مجرد وقود وأدوات رماها بعد أن انتهى من استخدامها، وصار لسان حالها يقول: «غديت مثل معايد القريتيني لا صاد خير ولا سلم من ملامة».
----------
القدس العربي