يكفي دقائق من المتابعة المتمعنة لإعلام الاستبداد للوقوف على كل ما ذُكر أعلاه. هذه عناوين ثلاثة أخبار متتالية وردت على ما يُسمى ” الإخبارية السورية “؛ فلنتمعن بها دون تعليق:
– ” اسرائيل تحارب الوجود الفلسطيني بهدم المنازل “.
– “ مسلسل التعذيب في سجون البحرين مازال مستمراً “.
– “ الارهابيون يعرقلون التخلص من الكيماوي “.
يمكن للمراقب أن يملأ صفحات و صفحات على شاكلة ذلك، فالمسألة ليست عابرة بل منهج أمين للسياسات الإجرامية المرتكبة بحق السوريين. من هنا، معذور هكذا إعلام كونه مرآة وترجمة للمنهجية السياسية المرسومة للسلطة.
***********************
أما ما لايمكن للمرء أن يعذره أو يقبل منهجيته واستراتيجيته التخاطبية المستخدمة فهو ذلك الاعلام الذي اختطّ لنفسه نهج سلطة رابعة، وقدم نفسه صاحب مصداقية، يتحلى بالموضوعية والتوازن في تغطية الأحداث؛ إعلاماً لا يخدم ” إجندات ” مريضة مغرضة؛ وفي الوقت ذاته يقوم بالأمر ذاته، ولكن بذكاء و خبث تحت يافطة الموضوعية والتوازن.
ومن هنا يكون أخطر من الإعلام الغبي. فالغبي المتخلف مكشوف ولا يذهب ضحيته إلا الذي على شاكلته و الساذج. و جريمته آحادية البعد. أما الإعلام الذكي، فجريمته مضاعفة؛ فهو يكذب مرتين الأولى بتقديم نفسه كإعلام ذي مصداقية والثانية بمجانبة الحقيقة عبر الحذف والأضافة والتغيير عن سابق معرفة و تصميم.
يمكن أيضاً إضافة بعد ثالث للجريمة المرتكبة؛ فوسيلة الإعلام هذه قد تشكل مصدراً لوسائل إعلام أخرى تقتبس منها وتتغذى على أخبارها؛ وهنا تصبح الجريمة مضاعفة مرات ومرات. فَمن من وسائل الإعلام لا يعتبر وكالة ” رويترز ” مصدراً هاماً للأخبار.
من بين أخباركثيرة لها حول المسألة السورية، أختار خبراً تقدّم فيه الوكالة مرافعة هائلة عن ” التزام “
” النظام السوري ” بقرار الأمم المتحدة المتعلق بتدمير السلاح الكيماوي.
— استهلت الوكالة خبرها الذي قد يُقتبس مباشرة كما هو في وسائل إعلام أخرى بـ:
* ” سورية قامت بتجميع نحو 40% من ترسانتها في حاويات “
\ إذاً، هي جادة بالمسألة بحكم قيامها بعملية الجمع \
* “ تم نشر قوافل أمنية “
\ إذاً هي تسعى لتأمين و سلامة وصول الشحنات \
* ” غاية القوافل الأمنية التعامل مع العنف“
\ إذاً هي تعرض نفسها للخطر من أجل تأمين الشحنات \
* ” العنف الذي يضرب الساحل السوري “
\ الساحل بوابة إخراج الكيماوي، وهو في خطر حيث يهدده العنف، الذي يتسبب به الأرهابيون؛ والسلطة بريئة من أي عرقلة؛ و اللوم يجب أن يقع على ” الارهابين ” المعرقلين لذلك.
- يتبع ذلك التدليل على جدّية السلطة في الالتزام بالقرار الدولي مرافعة من نوع آخر تأتي على لسان ممثل ” النظام ” في الأمم المتحدة حيث يتم اقتباس تصريحه. يقول الجعفري:
“ الحكومة قد تضطر لتأجيل النقل “
أي أنها إن خالفت تكون مضطرة و السبب ” الارهابيون ”
— يتم بعدها إشراك رئيسة البعثة المشتركة للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في اقتباس تقول فيه :
” تم تجميع المواد في 72 حاوية في ثلاثة مواقع”
( لاحظوا الدقة والتحديد للتدليل على المصداقية )
— تزيد الممثلة : ” إن تمت الشحنة، يكون 90% من ترسانة سورية قد نُقل “
لاحظوا أيضاً استخدام عبارة (” إذاً” أو” إن “)
ليتضح لاحقاً المعرقل المضمر في العبارة الأولى، عندما تقول ” لم يتم منذ 20 مارس/أذار نقل أي مواد إلى مدينة اللاذقية؛ وسبب ذلك مقاتلوا ” المعارضة الأسلامية “
الرسائل التي يحملها التصريح :
* المعارضة مسلحة
* المعارضة مسلمة
* المعارضة تعرقل التسليم
عندما تقول الوكالة إنه ” منذ حوالي 20 آذار لم يتم نقل مواد …. ” ، فهي لا تضع التاريخ عبثاً. معروف أن القتال في جبال الأكراد بدأ في الحادي و العشرين من مارس أذار. الوكالة حاولت تقريب التاريخ الذي ذكرته من تاريخ بدء العمليات [ 2 مارس] لتواقته مع عدم النقل؛ و كأن تاريخ النقل كان محدداً بذلك التاريخ ، و قامت ” العصابات الأرهابية ” باختيار ذلك التاريخ من أجل العرقلة.
— تتابع الوكالة:
“ سيطر المقاتلون على معبرين …… ” وكأنها هاهنا توحي بأن النقل سيتم عبر هذين المعبرين. وهذا أمر عارٍ عن الصحة
— تتابع أيضاً:
” وسيطروا على قرية كسب الأرمنية ...” لنلاحظ استخدام عبارة ” أرمنية ” أي أن المعارضة تسيطر على الأقلية المسيحية الأرمنية.
فإن كانت القصة هي تسليم الكيماوي، فما ضرورة الحديث عن الأرمن والمسيحين والأقليات؟!
— وفي الخبر أيضاً :
” الأسد ارسل تعزيزات ……… و يدور قتال شديد …… “
يعني صعوبة مرورالكيماوي ….. يعني مهلة جديدة مطلوبة
— ثم يأتي الخبر صريحاً دون رتوش :
“….. في ضوء تدهور الوضع الأمني في محافظة اللاذقية …. فإنها ستؤجل مؤقتاً …. “
نلاحظ هنا :
* توسيع الدائرة جغرافياً عبراستخدام مفردة ” اللاذقية “
أي أن كل المنطقة غير آمنة ؛ و الأمر ليس محصوراً في ” كسب ” أي أن مرور الكيماوي غير آمن.
* وهنا تأتي العبارة المفتاحية ” ستؤجل ” و هي الغاية من الخبر، أي تقديم العذر المنطقي.
ولكن حتى تدلل على الالتزام وتعززه، استخدمت الوكالة عبارة ” مؤقتاً “
— تعود الوكالة لتوثق خبرها عبر ممثلة الأمم المتحدة و الوكالة عندما تقول على لسانها بأنها ” أبلغت مجلس الأمن بأن ( السلطات السورية قالت يوم الأحد إنها تريد نقل المواد الكيماوية للاذقية في الأيام القليلة الماضية)
بالمناسبة ” يوم الأحد ” وافق الثالث و العشرين من مارس\ أذار، و معروف أن بدء عملية الساحل كان في الحادي و العشرين منه. و يسأل المرء ها هنا لماذا لم يخرج التصريح قبل أسبوع أو أسبوعين مثلاً، إن كان هناك جدية ؟! وهل يشك أحد أن الكيماوي ( ثمن بقاء النظام ) سيُسلَّم، و لكنه يُستَخَدم من قبل النظام كذريعة لاستمرار القتل و” النصر” على ” الشعب السوري “.
— تدعم الوكالة مرافعتها هاهنا باقتباسها قولاً للجعفري ممثل النظام في الأمم المتحدة يتحدث فيه عن تعطيل مجلس الأمن اقتراحاً روسياً لاصدار بيان يعبّر فيه عن التحذير الشديد من جانب ( مجلس الأمن ) و (السيدة كاج ، ممثلة المنظمة )، و ( منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ). إذا لم يتطور الوضع الأمني بالاتجاه الصحيح.
أي التحذير من عواقب هذه الهجمات الأرهابية على ميناء اللاذقية على شحنات المواد الكيماوية“
* بداية، لم يقترب أحد من ” ميناء اللاذقية ” و الجعفري يذكره بقصدية؛ و رويترز تثبته له اقتباساً
* ثانياً، تضع ( السلطة ) و ( مجلس الأمن ) و ( ممثلة المنظمة ) و ( منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ) في جانب واحد….. ؛ مع علمها أن ( الثلاثة ) في جانب و ( السلطة ) في جانب آخر ، ومع ذلك تقتبس قول الجعفري وتسوّقه.
* أخيراً، أتى الأخطر في الخبر عندما تقدم وكالة روتيرز خلفيةً لموضوع تسليم الكيماوي حيث تقول:
“……… وافق الأسد على تدمير أسلحته الكيماوية في أعقاب غضب عالمي من الهجوم الكبير الذي وقع بغاز السارين في الغوطة في أغسطس/آب ، وقُتل المئات “
* إن استخدام صيغة ( الفعل المبني للمجهول ) ميزة لغوية في الكتابة التقانية من أجل الموضوعية، و تجاهل “الفاعل”؛ ليس موضوعية ولا علمية ولا مهنية في أمر واضح المعالم وواضح الفاعل. فالهجوم لا يد ولا رجل له ؛ ولا انطلق من ذات نفسه، وما ألف وخمسمائة سوري برقم عابر ذكره مخلوق على كوكب آخر. وما موافقة السلطة على تسليم ذلك السلاح إلا لمعرفتها ومعرفة العالم بارتكابها الجريمة ومبادلتها ذلك ببقائها.
*****************
أن تتنطح رويترز- الوكالة الأعلامية التي تشكل مصدراً أساسياً في برمجة الرأي العام – لاستخدام تلك الصيغة اللغوية، ليس إلا امتهاناً رخيصاً للبيع والشراء في مصائر الشعوب. فإن كانت جريمة الإعلام المتخلف واحدة، فجريمة رويترز وأمثالها مضاعفة بحكم مهنيتها وسمعتها العالمية.
و لكن إن كانت أمور البيع والشراء قد وصلت إلى هكذا مؤسسات فاخرة السمعة والمهنية، فعلى الدنيا السلام.
على هكذا مؤسسات أن تحترم إرثها وسمعتها. فالأمور في عالمنا أضحت مكشوفة تماماً حتى في حالات التذاكي القصوي … ويبقى الحق فوق الجميع حتى في العالم الأعمى.
أخيراً، نسأل ” رويترز ” : كم كان الثمن؟ ونقول لها: ” إن لم يكن هذا جريمة؛ فهو على الأقل عيب “
--------------------------
كلنا شركاء