في الجولة الثانية لمفاوضات «جنيف 2»، قدمتُ مداخلة حول إرهاب السلطة، وكيف بدأ الحكم العسكري البعثي حملته لإثارة مشاعر غالبية السوريين وذلك بالنيل من عقيدة الأمة.
جرت احتجاجات على سياسة السلطة، منذ أحداث حماه الأولى 1964 التي جوبهت بالجيش والقصف المدفعي، الذي أدى إلى هدم جامع السلطان، ثم أحداث حمص بمناسبة الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، ثم أحداث دمشق 1965 التي اقتحم فيها الضابط سليم حاطوم المسجد الأموي بالآليات العسكرية وأطلق النار على المعتصمين العزل، ولا ينسى شعبنا الأحداث التي بدأت بحركة النقابات العلمية 1980 والتي أدت إلى حل النقابات واعتقال النقابيين، وعقب ذلك أحداث حماه التي يعرفها الجميع.
في كل المراحل لم يكن للسلطة سوى خيار واحد هو خيار القتل والقهر والاعتقال والتهجير وانتهاك الحرمات وارتكاب أخس الجرائم، حيث بلغ عدد الضحايا في آخر تلك المرحلة سبعين ألفا.
لم يُحاسب حافظ الأسد حين كان في زيارة إلى لندن، فغاب إلى مكان مجهول، كما لم يحاسب حين سلم الجولان هذه القطعة العزيزة على سوريا والتي تعد من أهم الأماكن تحصينا، فسلمها مع كامل العتاد والمخططات حين أمر الجيش بالانسحاب منها كيفيا دون ترتيب، في حين لم تكن قد وطئت قدم جندي صهيوني المنطقة، واختطف خليل مصطفى بريز الذي كتب كتابا عن سقوط الجولان اتهم فيه حافظ الأسد بالخيانة، فحكم عليه بخمسة عشر عاما في السجن قضاها ثلاثة وعشرين.
عند مجيء الحكم العسكري حوسب المواطن على أفكاره وليس على أعماله، وبدأت السجون والمعتقلات تغص بالمواطنين من كل الاتجاهات، وكان نصيب التيار الإسلامي هو الأوفر حظا.
أقدم حافظ الأسد تحت شعار «دول الطوق» أو الممانعة على الاستفادة من دول الخليج، وضُخت له الأموال بلا حساب، وذهب معظمها إلى الجيوب وجيوب أسرته، وشجع حافظ الأسد الفساد في جميع مرافق الدولة.
استولت الأسرة على 85 في المائة من الدخل القومي، وتحول 60 في المائة من الشعب السوري لما تحت خط الفقر، في حين أصبح 30 في المائة من القوى العاملة بلا عمل.
في مقابلة لصحيفة «دير شبيغل» الألمانية مع مصطفى طلاس، حين كان وزيرا للدفاع، صرح بأنه كان يوقع على 150 حالة إعدام أسبوعيا في دمشق أثناء أحداث الثمانينات، كما صرح بأنهم أخذوا الحكم بالقوة ولن يتركوه إلا بالقوة.
أمام هذه الصورة البشعة لنظام حكم تدثر بالطائفية والفساد، ورفع شعارات وهمية (ممانعة ومقاومة) من أجل تضليل الرأي العام المحلي والإقليمي، ومع بداية ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا لم يكن ممكنا أن يبقى الشعب السوري صامتا عما يجري في بلده.
في شهر مارس (آذار) 2011 تحرك السوريون بمظاهرات بسيطة في درعا جنوب سوريا، وكانت قد سبقتها في شهر فبراير (شباط) احتجاجات في دمشق، وتوسعت الاحتجاجات لتشمل معظم المدن والقرى، وكانت الشعارات تندرج تحت معاني الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، واستمر حراك الشعب سلميا لستة أشهر، فماذا كان جواب السلطة الحاكمة؟
الجواب الذي رآه العالم هو القتل، فقد سقط في الأشهر الستة السلمية الأولى خمسة آلاف شهيد برصاص جيش النظام وأمنه وشبيحته، ولم يكتف بالقتل، لكنه بدأ عمليات تمشيط للبيوت وتكسير زجاج النوافذ وخلط المواد التموينية مع بدء صفة حصار التجويع واستهداف خزانات المياه الاحتياطية لإفراغها من المياه حتى لا يستفيد منها الناس.
أي نظام حكم يفعل هذا بمواطنيه، رغم أن الثورة، بحسب ما صرح به بشار الأسد للإعلام، في أشهرها الستة الأولى كانت سلمية؟
ثم انتقل أعوان السفاح لبرنامج آخر كانوا أتقنوه أيام حافظ الأسد، وهذا البرنامج هو انتهاك الحرمات.
كل هذه الممارسات اللاأخلاقية والمنافية لأبسط قواعد الأخلاق والقانون أضحت طريقا ممنهجا لما يقوم به أعوان بشار الأسد من عسكريين وأمنيين وشبيحة. وحتى يتبين للقارئ أن السلطة الحاكمة السورية كانت قد بيتت النية لارتكاب الجرائم فإنها سنت قوانين عن طريقها تحمي نفسها من المساءلة إذا ارتكب أحد عناصرها جريمة، مثال ذلك ما نصت عليه المادة 16 من المرسوم التشريعي السري رقم 14 لعام 1969 وغيره.
لقد تحول الشعب السوري بناء على ما تقدم إلى برميل بارود لا يحتاج إلا لعود ثقاب كي ينفجر، وكنت قد نبهت إلى ذلك مرارا وتكرارا، ولكن ما من مجيب.
إذن، لقد هيأ نظام الجريمة في سوريا، من خلال ممارساته، الجو ليكون مناسبا للانفجار، ومن خلال ذلك بدأ بإجراء تصفيات جماعية كما فعل والده حافظ الأسد الذي قتل في عهده ما يقارب سبعين ألف مواطن ونال تغطية إعلامية عالمية على جرائمه.
إذن، فالانفجار الذي وقع في سوريا، وتحول الاحتجاجات إلى ثورة، بات أمرا متوقعا لحالة الاحتقان التي كان يعيشها المواطن السوري، والذي وجد أنه لا سبيل أمامه ليحيا حياة كريمة سوى أن يُسقط جدار الخوف ويمضي قدما لتحقيق حريته وكرامته، ولم يكن بالإمكان وقف هذا السيل الجارف من الشباب الثوار الذين خرجوا عفويا دون قيادة ميدانية، ومن غير قيادة سياسية، بسبب عدم وجود أحزاب سياسية لها وزن أو شخصيات تتمتع بكاريزما لقيادة الثورة.
في المقابل، كانت السلطة الحاكمة تتسم بالغباء السياسي والعنجهية والهمجية، فقابلت المظاهرات بالعنف الدموي غير المسبوق، وتكشفت عورة نظام أسرة الأسد عن حقد وبشاعة في ممارسات إجرامية لم نعهد لها مثيلا.
ومن هنا يجب أن نسأل أنفسنا: هل كانت الثورة قَدر الشعب السوري؟ وماذا كان بإمكان هذا الشعب أن يفعل إزاء حكم أسرة تجاوزت في جرائمها جرائم التتار وهولاكو وجنكيز خان؟ لقد خلد التاريخ نيرون لإحراقه روما، ونحن الآن أمام أسرة دمرت أعرق مهد للحضارة في التاريخ، ولا تزال تمعن في التخريب والتدمير والحرق للمدن والقرى والبشر. بينما يواجهها شعب صامد مصمم على نيل حريته واسترداد بلاده التي سرقت منهم، بينما يقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي ومنقسما عاجزا عن اتخاذ خطوة حاسمة لحماية شعب كامل من القتل والتهجير، وفي الطرف المقابل يقف الكرملين وطهران وحلفاؤهما من مجرمي الطائفية البغيضة من «حزب الله»، وما يسمى ألوية عراقية، وحوثيين وباكستانيين وأفغان أتوا إلى سوريا لقتل السوريين تحت شعارت ليست في محلها.
هيثم المالح - عضو الائتلاف السوري المعارض
--------------------------------