ارحمنا يا عمّ الحاج!
سائق الجمهوريّة هو إذاً مطمئنٌّ لتشوّه النقاش السياسيّ والوطنيّ في لبنان وتمحوره حول نزاع الصلاحيّات بين رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة. فمشكلة لبنان، بحسبه، هي مشكلة نظام سياسيّ وتوزيع صلاحيات أنتجت واقعاً "لا يمكننا الاستمرار فيه".
ويعنيه كثيراً أن يظلّ واقع الاشتباك في لبنان متّصلاً بهذه العناوين وأن لا يتعدّاها إلى العنوان الأساس، وهو وجود حزب الله عقيدةً وممارسةً سياسيّةً وجهاديّةً عابرةً للحدود الوطنيّة من خلال ارتباط عضويّ بمشروع ثوريّ معلن في المنطق
في خطابه الأخير بدا نصرالله معنيّاً بأمر واحد، وهو تنظيم قواعد الاشتباك في الشارع في ظلّ عدم وجود حلول سياسيّة في الأفق: "لا تشكّلوا حكومة إن شئتم، وأنا من جهتي لن أضغط على حليفي المسيحيّ لتقديم تنازلات قاسية، ولكن من الآن حتّى تجدوا حلّاً أحذّركم من الاستمرار في لعبة قطع الطرق، ولا سيّما طريق الساحل بين الجنوب وبيروت". هذا هو فحوى رسالة نصرالله الأخيرة. وبموازاة ذلك عاد في النقاش حول الحكومة إلى المربّع الأوّل، أي مربّع التفكير في الصيغ والمعادلات. ففيما جدّد موافقته على حكومة اختصاصيّين، دعا إلى معاودة التفكير في حكومة تكنوسياسيّة.. أيْ عاد إلى مربّع التفكير، الذي يعني عمليّاً تجميد الحلول.
إنّه واقعُ حالٍ واحدٌ من صنعاء التي رفض الحوثيّ فيها مبادرة الحلّ السعوديّة قبل الاطّلاع على بنودها، بل اكتفى بتويت للسفير الإيراني في صنعاء "حسن إيرلو" حدد فيها دفترة شروط وقف الحرب . إلى بيروت التي عاد نصرالله فيها إلى مربّع التفكير والتمحيص والتحليل.
مجدّداً المشكلة في مكان آخر تماماً. وللأمانة يحدّد المسؤولون الإيرانيّون أحياناً بمنتهى الجدّيّة والشفافيّة طبيعة الأزمة والصراع اللذين يختطفان لبنان. ففي تغريدة لحسين أمير عبداللهيان، مساعد رئيس البرلمان الإيرانيّ للشؤون الدوليّة، وأحد رجال اللواء المقتول قاسم سليماني، يقول: "تنتهج كلّ من الولايات المتّحدة وفرنسا والسعوديّة سياسةَ عدم وجود حكومة قويّة، والانقسام، وإضعاف المقاومة، وهي الوجه الثاني من تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيونيّ وإضعاف لبنان".
الصياغة الإيديولوجيّة لا تخفي إلا قليلاً دقّة توصيف الأزمة في لبنان. لنترك جانباً مسألة التطبيع مع إسرائيل كهدف لإضعاف لبنان، فهذه دونها تفاهمات كبيرة في المنطقة، ولا سيّما بين سوريا، أيّ سوريا، وإسرائيل. ولنترك جانباً افتراض وجود نهجٍ أميركيّ فرنسيّ وسعوديّ فاعل بالاتجاه الذي أشار إليه عبداللهيان، إذ لا دليلَ حقيقيّاً على مشروع مشترك بهذا المعنى أو سياسة يمكن تعريفها بوضوح، بقدر وجود تجاهل سعوديّ للبنان، ومبادرة فرنسيّة متعثّرة، وموقف أميركيّ يقارب لبنان من زاوية مكافحة الإرهاب بالمعنى التقنيّ والاستخباريّ، وبلا أيّ مضمون سياسيّ حقيقيّ.
ما يبقى من تغريدة عبداللهيان هو ما يسمّيه "إضعاف المقاومة"، أي ميليشيا حزب الله المندرجة في صراع أوسع وأكبر من طاقة ومصالح لبنان ضمن فلك إيديولوجيّ ثوريّ مركزه طهران.
بصراحة وبوضوح أنا أتّفق مع عبداللهيان في كون إضعاف حزب الله مقدّمةً ضروريةً لقوّة لبنان ومنعته، وأنّ ضعف لبنان هو نتاج موضوعيّ لقوّة حزب الله. هذه المعادلة الصفريّة هي التي تعطّل أيّ حلّ حقيقيّ ومستدام للبنان يسمح له بتفعيل إمكاناته وطاقاته الكامنة وعودته الى خارطة الدول الناجحة.
لنتخيّل أنّ حزب الله اختفى من الحياة السياسيّة اللبنانيّة. سيكون بإمكان لبنان أن يتحايل على كلّ ما هو غير واضح في الدستور لناحية توزيع الصلاحيّات والأدوار لأنّه بكل بساطة لن تكون هناك قوّة قاهرة يتسلّح بها طرف ضد آخر كما يتسلّح عون اليوم بعضلات حزب الله.. وسيكون بإمكان لبنان أن يستدرج كمّاً من المساعدات والقروض الميسّرة والاستثمارات الأجنبيّة الراغبة في العودة إلى لبنان. وستكون قدرة القوى المحليّة على معاندة الإصلاحات المطلوبة أقلّ بكثير.
كيف؟
عبقريّة الشرّ اللبنانيّة تربط قوّة الغطاء المتوافر لحزب الله بقوّة صاحب الغطاء. ثم تربط قوّة صاحب الغطاء بقدرته على تكبير حصّته من الكعكة اللبنانيّة. وتربط حصّته من الكعكة بملفّات تقنيّة محدّدة مثل الكهرباء. وتربط حلّ الكهرباء بأكثر السبل المدرارة للمال، مثل حلّ البواخر أو السدود أو المعامل وفق رؤية تحاصصيّة ناهبة للمال العامّ. وفق عبقريّة الشرّ اللبنانيّة يصير الطريق إلى القدس يمرّ عبر باخرة "فاطمة غول". هكذا ينمو التحالف بين المافيا والميليشيا. في غياب الميليشيا تتضاءل فجاجة المافيا بلا شكّ.
أصاب عبداللهيان، وتغريدته هي ما يجب أن يكون محور السجال السياسيّ في لبنان، فلا مهمة وطنيّة تعلو على مهمّة إضعاف حزب الله وإنهاء حال الشذوذ الوطنيّ الذي يشكّله بسلاحه ومشروعه تحت ستار المقاومة المزيّفة.
أما من سيضعف حزب الله، وللأسف معه لبنان، فهو هذا الإهمال الأمميّ الممنهج لبلد صغير قرّر بعض من فيه أنّه قادر على "صناعة المعادلات في المنطقة وتغييرها".. وقرّر العالم في المقابل أن يفضح الحيلة اللبنانيّة البسيطة، التي ملخّصها أنّ "العالم يموّلنا ويرعانا لنكون أداة عدوان عليه".. حسناً لقد تغيّر الوضع.
جوعوا أيّها الأحبّة وواصلوا تغيير العالم بأمعاء خاوية، وليطعمكم حسن نصرالله عزةً وكرامة.
--------------
اساس ميديا