غسان كنفاني
كان كنفاني فلسطينا بستطيع ان بعطي الجواب القاطع لقضيته ، و ان يكتب شهادته دون خوق، وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم كما قال عنة احد النقاد ، له من الروايات : رجال فى الشمس ، - ما تبقى لكم ، - عائد إلى حيفا ، ام سعد ، - الشئ الاخر : من قتل ليلى الحايك ؟ و غيرها ، و له قصص قصيرة نعرض منها هذة القصة التي كتبها غسان كنفاني عام 1959 في دمشق :
--------------
في جنازتي
أيتها الغالية...
لو أردت الحقيقة فأنا لا اعرف ماذا يتعين عليّ أن اكتب لك..كل الكلمات التي يمكن أن يخفقها قلم مشتاق كتبتها لك عندما كنت هناك, أما الآن..فلا شيء أستطيع أن لا أكرره على مسمعك.. ماذا أقول لك؟ أأقول كما يقول أي إنسان سوي بان حبك يجري هادراً في دمي كطوفان لا يلجم؟ كنت أستطيع أن أقول لك ذلك لو كان هذا الذي يجري في شراييني شيئا ذا قيمة.. ولكنني في الحقيقة إنسان مريض.. فالدم الذي يحترق فيّ لا قيمة له على الإطلاق: فهو دم يليق بإنسان عجوز, نصف ميت, نصف ساكن, ليس في صدره سوى صناديق الماضي المقفلة, أما مستقبله فمجرد شمعة تضيء آخر لهبها كي تنطفئ, كي ينتهي كل شيء..
كنت اعتقد, أيتها الغالية, أن الأيام حين تمر سوف تبلسم قليلا من الجرح.. ولكن يبدو لي الآن أنني اشتد تهاويا كشيء افرغ من تماسكه على حين فجأة فهو لا يعرف ماذا يقيمه. أن كل يوم يحفر في صمودي صدعا لا يعوض.وكل لحظة تصفع وجهي بحقيقة أمر من حقيقة.. اليوم صباحا صعدت الدرج راكضا وحين أشرفت نهايته أحسست بقلبي ينشد على ضلوعي ويتوتر حتى ليكاد ينقطع..أي شباب هذا؟ أي قيمة تبقى يا عزيزة؟ آية قيمة؟ لماذا أسير اكثر إلى الأمام؟ أي شيء يلوح كالشبح في ظلمة سوادها أقتم من ضمير طاغية؟ أي شيء أفدته من حياتي كلها..نعم ؟ أي شيء؟
ولكنني كنت أعيش من اجل غد لا خوف فيه..وكنت أجوع من اجل أن اشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن اصل إلى هذا الغد..لم يكن لحياتي يوم ذاك أية قيمة سوى ما يعطيها الأمل العميق الأخضر بان السماء لا يمكن أن تكون قاسية إلى لا حدود.. وبان هذا الطفل, الذي تكسرت على شفتيه ابتسامة الطمأنينة, سوف يمضي حياته هكذا, ممزقاً كغيوم تشرين, رماديا كأودية مترعة بالضباب, ضائعا كشمس جاءت تشرق فلم تجد افقها..
ولكن السماء, والأرض, وكل شيء, كانوا على شكل مغاير لأمال صغيرة... لقد مضت قاسية بطيئة.. وحين كبر تسلمته عائلته كي يعطيها اللقمة التي أعطته يوم لم يكن يستطيع أن ينتزعها بنفسه.. المسؤولية شيء جميل... ولكن الرجل الذي يواجه مسؤولية لا يقدر على احتمالها تسلب رجولته شيئا فشيئا تحت ضغط الطلب...كل شيء في العالم كان يقف في وجهه...كل إنسان كان يصفعه, وكل يوم يمر كان يبصق في وجهه شعورا مرا حاد المرارة بالتقصير.
ورغم ذلك... كنت أقول لذات نفسي "اصبر، يا ولد، أنت ما زالت على أعتاب عمرك، وغداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة, الست تناضل الآن من اجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك, منذ اسه الأول...إلى الأخر" وكان هذا الأمل يبرر لي ألم يومي؛ وكنت أحدق إلى الأمام أدوس على أشواك درب جاف كأنه طريق ضيق في مقبرة...
ثم حدث شيء جميل, لقد انشقت الغيوم المتكومة عن ضوء بعيد, تحررت قليلا من ضغط الحاجة.. ثم.. ثم تعرفت إليك..أتذكرين؟ لقد جمعتنا حفلة صغيرة, وحين التقت عيوني بعيونك أحسست بمعول ينقض في صدري فيهدم كل المرارة التي اجترعتها طوال طفولتي... كان شعرك في أروع فوضى, وكانت عيونك مؤطرة بسواد آسر... لقد وجدت نفسي أحدق إليك دون وعي وكتبت أنت عن هذه اللحظة في مذكراتك ـ التي قرأتها فيما بعد ـانك استلطفت هذا البحار الذي يحدق كأنما يوشك أن يرمي مرساته في ميناء...
ومرة بعد مرة كنت أراك فأرى نفسي اشد التصاقا بنفسي... كنت اقف أمامك كطفل يفصله عن لعبته زجاج واجهة ملونة فحسب.. وترتجف الكلمات الموهنة في حلقي ثم تتساقط واحدة تلو الأخرى إلى صدري فاسمع لها خفقا عنيفا يهز أضلاعي... وعرفتك اكثر فاكثر... وكتبت في مذكراتك عن تلك الأيام..
” إنني انتظر أن اعرفه اكثر فاكثر..." وكنت أنا لا أقوى, بعد, على كتابة أيما شيء عنك...
ثم... آه أيتها العزيزة, لقد أحببتك بكل القوى التي تحتويها ضلوع إنسان يبحث عن استقرار.. بكل خفقان القلب الذي تعذب طوال عمره... بكل صلابة الأضلاع التي جاعت, وتشردت وتألمت... من اجل هذه اللحظة... كنت المنارة التي أشرقت على حين غرة أمام الزورق التائه... ونشبت بهذا الإيجاد بكل ما في زنودي من توق إلى الطمأنينة...
وكتبت لي, يوم ذاك, تقولين: "لماذا أنا اشتاق إليك كل هذا الشوق, إذا كانت أنا تعنينا نحن الاثنين..كما اتفقنا؟"وكنت أنا أضم أملى بعنف يليق به. وكنت أريدك.. أريدك..بكل ما في الكلمة من طلب.. ودا لي أن الحياة قد ابتسمت أخيرا وان القلعة الجهمة من الألم, القلعة التي ارتفعت حجرا مرا فوق حجر مر في وجودي.. هذه القلعة اطل من فوقها الآن على كل هذه السعادة.. وأعطاني هذا التصوير رضى كاف..
وغبت عنك بعيدا حيث اقتلع لقم عيشي اقتلاعا.. وهناك, في ذلك البلد البعيد الذي يحتوي على كل شيء وليس فيه أي شيء.. البلد الذي يعطيك كل شيء ويضن عليك بكل شيء وفي ذلك البلد البعيد الذي يتلون افقه في كل غروب بحرمان ممض, والذي يشرق صباحه بقلق لا يرحم..هناك, كنت أعيش على أمل أن أستطيع, في يوم يأتيان أضع حدا لكل شيء.. وان أبدا معك من جديد منذ البدء.. ولكن القدر كان لا يريد للشراع أن يندفع في ريح طموح وحينما جأرت عيون الطبيب تدب إلى خبر الرعب الذي يجري في عروقي, أحسست بالقلوع كلها تتهاوى في أعماقي, وسمعت قرقعة التهاوي تدوي في أذني, ويدور عالمي بي حتى يغشى عيوني بضباب ساخن.. وعيون الطبيب إتمامي تكفن مستقبلي, وعروق جبهته العريضة تقدم تفاصيل عذاب متصل ناشف.
وحين عادت بي أعصابي, سمعت كلمات جوفاء يقيؤها الطبيب بلا أعماق, كلمات عن الأمل, عن الشجاعة, عن العلم, عن الشباب...كلمات فقدت بكل معانيها, أصبحت حروفها مجرد ديدان صغيرة تلتف حول نفسها بلا مبرر... ما هي الشجاعة التي يطالبني بها الطبيب؟ أن أواجه مستقبلات أنا اعرف انه مشوب بالحرمان والتعاسة؟ أم أن استسلم لهذا المستقبل بالقدرية التي تليق بعجوز باع حياته كي يشتري أخرته كتاجر بلا رأسمال؟ ما هو الأمل وأنا على يقين بان لا شيء يلوح في الأفق... أي شباب؟ نعم أي شباب هذا الذي لم يومض قط... الذي لم يعش قط..أي شباب؟ كم تافهة قيمة الكلمات التي يرددها الطبيب لمجرد أن كتب الطب قالت ذلك.
ولكن الصفعة الأقوى أتت حينما هبطت الدرج عائدا من عيادة الطبيب, لقد تذكرتك... وفي اللحظة التي ومض فيها وجهك الحي في عيني, ومضت في صدري صاعقة يأس سوداء...
هل تقبل هذه الانسانة رجلا مريضا؟ كي تنجب منه أبناء مرضى؟ هل تقبل أن تكون ممرضة؟ أن تعيش مع شاب نصف ميت؟
وكانت الأيام التي أتت ذات قساوة أعمق.. لقد فشلت أن أكون بطلا, أو شجاعا, كما أرادني الطبيب, وأحسست بان الأشياء الصغيرة التي كانت تملأ حياتي بالتفاصيل قد فقدت أهميتها بالنسبة لي, وان الأيام التي سوف تأتي لا تحمل في جوانحها أي خفقة جديدة لهذا القلب المسكين... لقد فشلت في أن امثل دور البطل... وكان كل شيء في الحياة يتحداني ويمتص صمودي ويشمخ أمام ضعفي كسد هائل من اليأس...
أنني امشي في جنازتي رغم انفي... كل العظات الجوفاء التي علمتها في السنوات الماضية تبدو لي الآن فقاعات صابون سخيفة شديدة السخافة, أن المرء يكون شجاعاً طالما هو ليس في حاجة أي الشجاعة... ولكنه يتهاوى حينما تصبح القضية قضية حقيقية...حينما يصبح عليه أن يفهم الشجاعة بمعنى الاستسلام..بمعنى أن يلقي جانبا كل ما هو إنساني ويكتفي بالتفرج, لا بالممارسة...
وكنت أنت, في كل طريقي إلى غرفتي, عذابي ودواري... وكنت أحس بك تتسربين من بين ضلوعي, من بين أصابعي, وإنني أعض عبثا على أمل لا يريد أن يبقى معي... وكانت جملتك تدوي في رأسي, جملتك التي كتبتها لي ذات يوم:"لو تبدلت أفكارك سأتركك... المهم سوف يكون فراق... أتفهم أنت معنى هذا الرعب ؟؟ " لم يتبدل رأسي, أيتها العزيزة, لقد تبدل دمي, تبدل كل شيء... وأخاف أن اقف أمام عيونك, استجدي حبك استجداء إنسان فقد أشياءه العزيزة.. أخاف ـ بكل ما في هذه الكلمة من جبن ـ أن أتطلع إلى عيونك فأرى معنى من معاني الرفض مغلفا بالشفقة.. سوف أحس بأن قدمي انزلقتا فوق الصخر الذي أمضيت عمري أتسلقه بكل قواي.. وسوف لن يقدر الوادي، قط، أن يعيد لي ولو شيئا من الرغبة في الاستمرار. أتعرفين معنى أن يفقد الإنسان كل شيء في مدى لحظات عودته إلى داره ؟ أتعرفين معنى أن يكتشف شاب بأن حياته القاسية الجافة لم تكن إلا عبثاً محضاً في لحظات قصار ؟ ثم ، أتفهمين معنى أن يقوم حب ما على أعمدة من الشفقة فحسب ؟
ونمت تلك الليلة في زورق جموح يناضل دوامة بلا قرار.. وكان رأسي مسرحاً لهزليات كثيرة تتعاقب دون رباط.. آرائي التي كونتها أصبحت في حاجة لتنظيف.. القيم التي عبدتها يجب أن تحطم .. الأحلام التي كونتها في صدري لم يعد لي حق امتلاكها، وكل شيء في ماضي وحاضري ومستقبلي تغلف بميوعة ذات رائحة عفنة.. وبدت لي كل القيم التي وضعها الإنسان المغرور لحياته ليست سوى هذيان سكران يريد أن ينسى..
وأفكار المريض، حينما تجمح به تصوراته، أفكار مضحكة مبكية.. لقد حبست لمدى لحيظات أن اختياري من بين آلاف الآلاف من البشر لأكون مريضاً الداء الملعون المزمن عملية تقييم فذة، وان هذا المرض وسام من طراز نادر يزين صدري من الداخل وأنني أكاد اسمع رنينه مع خفقان قلبي.. ولكن الحقيقة كانت شيئاً آخر.. وحينما صحوت كانت المأساة تمتد أمام بصري جهمة، حادة، سوداء، ممتدة في مستقبلي إلى ما لا نهاية، تعبق بالعجز والحرمان...
لماذا كنت أفكر فيك أنت بالذات اكثر من أي شيء آخر ؟. لقد بدا لي كل شيء ممكن الاحتمال، ولكنك أنت كنت عذابي الخاص الملح.. وكنت أريد، بكل قواي، أن احل هذا الإلحاح بصورة من الصور، أن أتركك اهرب... أو أن التصق بك أكثر فأكثر.. ولكن الموقف الخائف، الموقف المتردد كان يقض رأسي بلا رحمة..
وبعد يوم آخر، وصلت إلى قرار.. أنني، الآن، لا أعرف ما الذي دفعني إلى ذلك القرار، لقد نسيت، أو فلنقل أن الأحداث التي جرت فيما بعد جعلتني أنسى.. ولكن الشيء الذي اذكر أنه كان في رأسي حينما قررت قراري هو أنني يجب أن أكون بطلاً ولو مرة واحدة حقيقية.. أن أكون واحداً من أولئك الذين ترد أسماؤهم في القصص بصفتهم واجهوا مواقفهم الحادة بشجاعة فائقة، وصفعوا أقدارهم الخاصة بكل ما في وسعهم من قسوة.. وقلت لنفسي، فيا أنا سعيد بعض الشيء بأنني توصلت إلى قرار: " سوف أسكب لها الحقيقة، كل الحقيقة.. ولسوف تعرفه هي أي عذاب حملته لنفسي حينما قررت أن أتركها تبحث عن طريق آخر لحياة سعيدة، هي تعرف كم احبها.. ولو لم تستطع أن تفهم عظم تضحيتي الآن. فلسوف تعرفها في المستقبل.. على أي حال.. أنا لا يهمني أن تعرف أو أن لا تعرف.. كل ما هنالك، أن ضميري سوف يرتاح بعض الشيء، وان حياتي، سوف تكسب شيئاً من الطمأنينة، والقناعة.."
أنت لا تعرفين، يا عزيزتي، كم كلفني هذا القرار.. فلنقل إنني كنت مريضاً منهاراً فلم أستطع أن أفهم أي عمل أنا مقدم عليه.. فلنقل أنني أردت أن أغوص حتى عنقي في أوحال التحدي المغرور وأنني أردت لنفسي أن تفقد كل شيء على الإطلاق طالما هي فقدت أهم الأشياء.. فلنقل أنني أردت أن أمزق كل ما في صدري من بقايا الآمال المحتضرة وأن هذا التحدي السخيف كان الطريقة الوحيدة التي أستطيع أن أبرهن فيها لنفسي – ولو لأقصر مدى ممكن – أنه مازال في توقي أن أتصرف كإنسان.. كأي إنسان.. فلنقل أيما شيء، ولكن الشيء الماثل بإصرار هو أن قراري كان نهائياَ.. وأنني، طوال الطريق إليك، كنت قابضاً عليه في صدري بكل ما في قدرتي.. وان ضلوعي كانت تنبض بقسوة، ولكن بلا جدوى..
ما جرى، بعد، أنت تعرفينه جيداً كيفما يعرف إنسان ما وجه عملة ما.. ولكنه لا يعرف وجهها الآخر على الإطلاق.. وكنت أنا ذلك الوجه الآخر، لقد صارعت في داخلي بكل قواي كي أستطيع أن أقول لك، أو ألهث أمامك، قراري.. ولكن كل شيء كان يرفض أن يصل على حلقي.. كنت لا اقدر أن أقف كما يقف أي بطل شكسبيري ليزف مأساته بجرأة القرون الماضية.. وكنت ابحث جاهداً عن نافذة ادخل منها.. عن كلمة أتعلق بها.. عن أي شيء اتكئ عليه.. ولكنني أعطيتك في ترددي فرصة نادرة لتهدمي مكل شيء..
لقد كنت أجرأ مني في أن تعترفي بان هنالك رجلاً أخر.. وبأنك مضطرة لأن ترضخي للفرص التي منحها لك.. والتي لم امنحها أنا.. ولكن هل قلت لي أنت بأن هنالك رجلا آخر حقيقة ؟ كلا.. انك لم تلفظي الكلمات.. قلتها بصراحة أقسى من أي كلمة واضحة.. وصفعتني بها قبل أن أجد الكلمة التي أحملها مأساتي، واشحنها بنبأ مرضي الحزين.. لقد قلت كل شيء بجرأة تليق بامرأة تريد أن تستقر.. وحينما غيبك الباب، غيبتك الأيام. وذهبت إلى حيث لا ادري، ولكنني أحس.. ولقد عذبتك اللحظة، هذا شيء واضح ولكنك تركت كل شيء معي، بين الجدران العارية، وذهبت.. بدأت.. نسيت.. ولم تسمعي مني ابدأ الكلمات التي زرعتها بكل ما تبقى من كرامتي. الكلمات التي جمعتها ليلة بعد ليلة من لهاثي.. وشجاعتي.. وخوفي.. والتي لم يتيسر لي أن أقولها لك..
وكنت أحدق إلى الباب العتيق بعدما أغلقته.. كان يخيل إلي أنني مازلت أراك تدقين أرصفة دمشق، وكنت اسمع خفقات خطواتك بكل وضوح، ولكنني كنت في القاع.. في آخر الدوامة.. لقد شعرت فوراً أي شيء فقدت.. وفقدته رغم أنفي.. أنت لا تعرفين أنك أضعت علي فرصتي الأخيرة في أن استعيد إنسانيتي التي امتصها المرض حتى آخرها.. أنت لا تعرفين كم حرمتني من وسيلتي الوحيدة التي كنت أريد أن أقنع نفسي بأنني ما زالت أستطيع أن أكون شجاعاً.. وبدت لي كل حياتي صدفة فارغة لم يكن لها أي معنى.. وأن أخطاء العالم كلها تلتقي عندي..
لماذا تسرعت في الاعتراف ؟ لماذا ؟ لماذا لم تتركي لي فرصتي الخاصة في أن أمثل آخر أدواري ؟ .. ولكنك لا تعرفين.. لقد حدث كل شيء بسرعة، وأنت الآن هناك، في حديقة ما، أن لك كل الحق في أن تفعلي، وفي أن يفعل، ولكن من يستطيع أن يمنعني، أنا الآخر، من أن أحقد عليكما.. على الجميع.. وعلى نفسي ؟ من يستطيع أن يحرمني من أن أكرهكم جميعاً.. وأتمنى الموت لكم.. ولي.. ولكل شيء؟القيم والمثل ؟ كلا، أنها قيمكم ومثلكم انتم.. الناس الأصحاء السعداء.. أما قيمي ومثلي فهي شيء آخر.. شيء خاص مختلف يتناسب وأكوام المرارة التي أعيش فوقها.
أرأيت ؟ لقد كان الفرق لحظة واحدة فحسب.. لو تأخرت في اعترافك، لكان تغير كل شيء. ولكن الفرصة قد ضاعت الآن.. وابتدأت أنت تماماً من حيث انتهيت أنا..
--------------
في جنازتي
أيتها الغالية...
لو أردت الحقيقة فأنا لا اعرف ماذا يتعين عليّ أن اكتب لك..كل الكلمات التي يمكن أن يخفقها قلم مشتاق كتبتها لك عندما كنت هناك, أما الآن..فلا شيء أستطيع أن لا أكرره على مسمعك.. ماذا أقول لك؟ أأقول كما يقول أي إنسان سوي بان حبك يجري هادراً في دمي كطوفان لا يلجم؟ كنت أستطيع أن أقول لك ذلك لو كان هذا الذي يجري في شراييني شيئا ذا قيمة.. ولكنني في الحقيقة إنسان مريض.. فالدم الذي يحترق فيّ لا قيمة له على الإطلاق: فهو دم يليق بإنسان عجوز, نصف ميت, نصف ساكن, ليس في صدره سوى صناديق الماضي المقفلة, أما مستقبله فمجرد شمعة تضيء آخر لهبها كي تنطفئ, كي ينتهي كل شيء..
كنت اعتقد, أيتها الغالية, أن الأيام حين تمر سوف تبلسم قليلا من الجرح.. ولكن يبدو لي الآن أنني اشتد تهاويا كشيء افرغ من تماسكه على حين فجأة فهو لا يعرف ماذا يقيمه. أن كل يوم يحفر في صمودي صدعا لا يعوض.وكل لحظة تصفع وجهي بحقيقة أمر من حقيقة.. اليوم صباحا صعدت الدرج راكضا وحين أشرفت نهايته أحسست بقلبي ينشد على ضلوعي ويتوتر حتى ليكاد ينقطع..أي شباب هذا؟ أي قيمة تبقى يا عزيزة؟ آية قيمة؟ لماذا أسير اكثر إلى الأمام؟ أي شيء يلوح كالشبح في ظلمة سوادها أقتم من ضمير طاغية؟ أي شيء أفدته من حياتي كلها..نعم ؟ أي شيء؟
ولكنني كنت أعيش من اجل غد لا خوف فيه..وكنت أجوع من اجل أن اشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن اصل إلى هذا الغد..لم يكن لحياتي يوم ذاك أية قيمة سوى ما يعطيها الأمل العميق الأخضر بان السماء لا يمكن أن تكون قاسية إلى لا حدود.. وبان هذا الطفل, الذي تكسرت على شفتيه ابتسامة الطمأنينة, سوف يمضي حياته هكذا, ممزقاً كغيوم تشرين, رماديا كأودية مترعة بالضباب, ضائعا كشمس جاءت تشرق فلم تجد افقها..
ولكن السماء, والأرض, وكل شيء, كانوا على شكل مغاير لأمال صغيرة... لقد مضت قاسية بطيئة.. وحين كبر تسلمته عائلته كي يعطيها اللقمة التي أعطته يوم لم يكن يستطيع أن ينتزعها بنفسه.. المسؤولية شيء جميل... ولكن الرجل الذي يواجه مسؤولية لا يقدر على احتمالها تسلب رجولته شيئا فشيئا تحت ضغط الطلب...كل شيء في العالم كان يقف في وجهه...كل إنسان كان يصفعه, وكل يوم يمر كان يبصق في وجهه شعورا مرا حاد المرارة بالتقصير.
ورغم ذلك... كنت أقول لذات نفسي "اصبر، يا ولد، أنت ما زالت على أعتاب عمرك، وغداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة, الست تناضل الآن من اجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك, منذ اسه الأول...إلى الأخر" وكان هذا الأمل يبرر لي ألم يومي؛ وكنت أحدق إلى الأمام أدوس على أشواك درب جاف كأنه طريق ضيق في مقبرة...
ثم حدث شيء جميل, لقد انشقت الغيوم المتكومة عن ضوء بعيد, تحررت قليلا من ضغط الحاجة.. ثم.. ثم تعرفت إليك..أتذكرين؟ لقد جمعتنا حفلة صغيرة, وحين التقت عيوني بعيونك أحسست بمعول ينقض في صدري فيهدم كل المرارة التي اجترعتها طوال طفولتي... كان شعرك في أروع فوضى, وكانت عيونك مؤطرة بسواد آسر... لقد وجدت نفسي أحدق إليك دون وعي وكتبت أنت عن هذه اللحظة في مذكراتك ـ التي قرأتها فيما بعد ـانك استلطفت هذا البحار الذي يحدق كأنما يوشك أن يرمي مرساته في ميناء...
ومرة بعد مرة كنت أراك فأرى نفسي اشد التصاقا بنفسي... كنت اقف أمامك كطفل يفصله عن لعبته زجاج واجهة ملونة فحسب.. وترتجف الكلمات الموهنة في حلقي ثم تتساقط واحدة تلو الأخرى إلى صدري فاسمع لها خفقا عنيفا يهز أضلاعي... وعرفتك اكثر فاكثر... وكتبت في مذكراتك عن تلك الأيام..
” إنني انتظر أن اعرفه اكثر فاكثر..." وكنت أنا لا أقوى, بعد, على كتابة أيما شيء عنك...
ثم... آه أيتها العزيزة, لقد أحببتك بكل القوى التي تحتويها ضلوع إنسان يبحث عن استقرار.. بكل خفقان القلب الذي تعذب طوال عمره... بكل صلابة الأضلاع التي جاعت, وتشردت وتألمت... من اجل هذه اللحظة... كنت المنارة التي أشرقت على حين غرة أمام الزورق التائه... ونشبت بهذا الإيجاد بكل ما في زنودي من توق إلى الطمأنينة...
وكتبت لي, يوم ذاك, تقولين: "لماذا أنا اشتاق إليك كل هذا الشوق, إذا كانت أنا تعنينا نحن الاثنين..كما اتفقنا؟"وكنت أنا أضم أملى بعنف يليق به. وكنت أريدك.. أريدك..بكل ما في الكلمة من طلب.. ودا لي أن الحياة قد ابتسمت أخيرا وان القلعة الجهمة من الألم, القلعة التي ارتفعت حجرا مرا فوق حجر مر في وجودي.. هذه القلعة اطل من فوقها الآن على كل هذه السعادة.. وأعطاني هذا التصوير رضى كاف..
وغبت عنك بعيدا حيث اقتلع لقم عيشي اقتلاعا.. وهناك, في ذلك البلد البعيد الذي يحتوي على كل شيء وليس فيه أي شيء.. البلد الذي يعطيك كل شيء ويضن عليك بكل شيء وفي ذلك البلد البعيد الذي يتلون افقه في كل غروب بحرمان ممض, والذي يشرق صباحه بقلق لا يرحم..هناك, كنت أعيش على أمل أن أستطيع, في يوم يأتيان أضع حدا لكل شيء.. وان أبدا معك من جديد منذ البدء.. ولكن القدر كان لا يريد للشراع أن يندفع في ريح طموح وحينما جأرت عيون الطبيب تدب إلى خبر الرعب الذي يجري في عروقي, أحسست بالقلوع كلها تتهاوى في أعماقي, وسمعت قرقعة التهاوي تدوي في أذني, ويدور عالمي بي حتى يغشى عيوني بضباب ساخن.. وعيون الطبيب إتمامي تكفن مستقبلي, وعروق جبهته العريضة تقدم تفاصيل عذاب متصل ناشف.
وحين عادت بي أعصابي, سمعت كلمات جوفاء يقيؤها الطبيب بلا أعماق, كلمات عن الأمل, عن الشجاعة, عن العلم, عن الشباب...كلمات فقدت بكل معانيها, أصبحت حروفها مجرد ديدان صغيرة تلتف حول نفسها بلا مبرر... ما هي الشجاعة التي يطالبني بها الطبيب؟ أن أواجه مستقبلات أنا اعرف انه مشوب بالحرمان والتعاسة؟ أم أن استسلم لهذا المستقبل بالقدرية التي تليق بعجوز باع حياته كي يشتري أخرته كتاجر بلا رأسمال؟ ما هو الأمل وأنا على يقين بان لا شيء يلوح في الأفق... أي شباب؟ نعم أي شباب هذا الذي لم يومض قط... الذي لم يعش قط..أي شباب؟ كم تافهة قيمة الكلمات التي يرددها الطبيب لمجرد أن كتب الطب قالت ذلك.
ولكن الصفعة الأقوى أتت حينما هبطت الدرج عائدا من عيادة الطبيب, لقد تذكرتك... وفي اللحظة التي ومض فيها وجهك الحي في عيني, ومضت في صدري صاعقة يأس سوداء...
هل تقبل هذه الانسانة رجلا مريضا؟ كي تنجب منه أبناء مرضى؟ هل تقبل أن تكون ممرضة؟ أن تعيش مع شاب نصف ميت؟
وكانت الأيام التي أتت ذات قساوة أعمق.. لقد فشلت أن أكون بطلا, أو شجاعا, كما أرادني الطبيب, وأحسست بان الأشياء الصغيرة التي كانت تملأ حياتي بالتفاصيل قد فقدت أهميتها بالنسبة لي, وان الأيام التي سوف تأتي لا تحمل في جوانحها أي خفقة جديدة لهذا القلب المسكين... لقد فشلت في أن امثل دور البطل... وكان كل شيء في الحياة يتحداني ويمتص صمودي ويشمخ أمام ضعفي كسد هائل من اليأس...
أنني امشي في جنازتي رغم انفي... كل العظات الجوفاء التي علمتها في السنوات الماضية تبدو لي الآن فقاعات صابون سخيفة شديدة السخافة, أن المرء يكون شجاعاً طالما هو ليس في حاجة أي الشجاعة... ولكنه يتهاوى حينما تصبح القضية قضية حقيقية...حينما يصبح عليه أن يفهم الشجاعة بمعنى الاستسلام..بمعنى أن يلقي جانبا كل ما هو إنساني ويكتفي بالتفرج, لا بالممارسة...
وكنت أنت, في كل طريقي إلى غرفتي, عذابي ودواري... وكنت أحس بك تتسربين من بين ضلوعي, من بين أصابعي, وإنني أعض عبثا على أمل لا يريد أن يبقى معي... وكانت جملتك تدوي في رأسي, جملتك التي كتبتها لي ذات يوم:"لو تبدلت أفكارك سأتركك... المهم سوف يكون فراق... أتفهم أنت معنى هذا الرعب ؟؟ " لم يتبدل رأسي, أيتها العزيزة, لقد تبدل دمي, تبدل كل شيء... وأخاف أن اقف أمام عيونك, استجدي حبك استجداء إنسان فقد أشياءه العزيزة.. أخاف ـ بكل ما في هذه الكلمة من جبن ـ أن أتطلع إلى عيونك فأرى معنى من معاني الرفض مغلفا بالشفقة.. سوف أحس بأن قدمي انزلقتا فوق الصخر الذي أمضيت عمري أتسلقه بكل قواي.. وسوف لن يقدر الوادي، قط، أن يعيد لي ولو شيئا من الرغبة في الاستمرار. أتعرفين معنى أن يفقد الإنسان كل شيء في مدى لحظات عودته إلى داره ؟ أتعرفين معنى أن يكتشف شاب بأن حياته القاسية الجافة لم تكن إلا عبثاً محضاً في لحظات قصار ؟ ثم ، أتفهمين معنى أن يقوم حب ما على أعمدة من الشفقة فحسب ؟
ونمت تلك الليلة في زورق جموح يناضل دوامة بلا قرار.. وكان رأسي مسرحاً لهزليات كثيرة تتعاقب دون رباط.. آرائي التي كونتها أصبحت في حاجة لتنظيف.. القيم التي عبدتها يجب أن تحطم .. الأحلام التي كونتها في صدري لم يعد لي حق امتلاكها، وكل شيء في ماضي وحاضري ومستقبلي تغلف بميوعة ذات رائحة عفنة.. وبدت لي كل القيم التي وضعها الإنسان المغرور لحياته ليست سوى هذيان سكران يريد أن ينسى..
وأفكار المريض، حينما تجمح به تصوراته، أفكار مضحكة مبكية.. لقد حبست لمدى لحيظات أن اختياري من بين آلاف الآلاف من البشر لأكون مريضاً الداء الملعون المزمن عملية تقييم فذة، وان هذا المرض وسام من طراز نادر يزين صدري من الداخل وأنني أكاد اسمع رنينه مع خفقان قلبي.. ولكن الحقيقة كانت شيئاً آخر.. وحينما صحوت كانت المأساة تمتد أمام بصري جهمة، حادة، سوداء، ممتدة في مستقبلي إلى ما لا نهاية، تعبق بالعجز والحرمان...
لماذا كنت أفكر فيك أنت بالذات اكثر من أي شيء آخر ؟. لقد بدا لي كل شيء ممكن الاحتمال، ولكنك أنت كنت عذابي الخاص الملح.. وكنت أريد، بكل قواي، أن احل هذا الإلحاح بصورة من الصور، أن أتركك اهرب... أو أن التصق بك أكثر فأكثر.. ولكن الموقف الخائف، الموقف المتردد كان يقض رأسي بلا رحمة..
وبعد يوم آخر، وصلت إلى قرار.. أنني، الآن، لا أعرف ما الذي دفعني إلى ذلك القرار، لقد نسيت، أو فلنقل أن الأحداث التي جرت فيما بعد جعلتني أنسى.. ولكن الشيء الذي اذكر أنه كان في رأسي حينما قررت قراري هو أنني يجب أن أكون بطلاً ولو مرة واحدة حقيقية.. أن أكون واحداً من أولئك الذين ترد أسماؤهم في القصص بصفتهم واجهوا مواقفهم الحادة بشجاعة فائقة، وصفعوا أقدارهم الخاصة بكل ما في وسعهم من قسوة.. وقلت لنفسي، فيا أنا سعيد بعض الشيء بأنني توصلت إلى قرار: " سوف أسكب لها الحقيقة، كل الحقيقة.. ولسوف تعرفه هي أي عذاب حملته لنفسي حينما قررت أن أتركها تبحث عن طريق آخر لحياة سعيدة، هي تعرف كم احبها.. ولو لم تستطع أن تفهم عظم تضحيتي الآن. فلسوف تعرفها في المستقبل.. على أي حال.. أنا لا يهمني أن تعرف أو أن لا تعرف.. كل ما هنالك، أن ضميري سوف يرتاح بعض الشيء، وان حياتي، سوف تكسب شيئاً من الطمأنينة، والقناعة.."
أنت لا تعرفين، يا عزيزتي، كم كلفني هذا القرار.. فلنقل إنني كنت مريضاً منهاراً فلم أستطع أن أفهم أي عمل أنا مقدم عليه.. فلنقل أنني أردت أن أغوص حتى عنقي في أوحال التحدي المغرور وأنني أردت لنفسي أن تفقد كل شيء على الإطلاق طالما هي فقدت أهم الأشياء.. فلنقل أنني أردت أن أمزق كل ما في صدري من بقايا الآمال المحتضرة وأن هذا التحدي السخيف كان الطريقة الوحيدة التي أستطيع أن أبرهن فيها لنفسي – ولو لأقصر مدى ممكن – أنه مازال في توقي أن أتصرف كإنسان.. كأي إنسان.. فلنقل أيما شيء، ولكن الشيء الماثل بإصرار هو أن قراري كان نهائياَ.. وأنني، طوال الطريق إليك، كنت قابضاً عليه في صدري بكل ما في قدرتي.. وان ضلوعي كانت تنبض بقسوة، ولكن بلا جدوى..
ما جرى، بعد، أنت تعرفينه جيداً كيفما يعرف إنسان ما وجه عملة ما.. ولكنه لا يعرف وجهها الآخر على الإطلاق.. وكنت أنا ذلك الوجه الآخر، لقد صارعت في داخلي بكل قواي كي أستطيع أن أقول لك، أو ألهث أمامك، قراري.. ولكن كل شيء كان يرفض أن يصل على حلقي.. كنت لا اقدر أن أقف كما يقف أي بطل شكسبيري ليزف مأساته بجرأة القرون الماضية.. وكنت ابحث جاهداً عن نافذة ادخل منها.. عن كلمة أتعلق بها.. عن أي شيء اتكئ عليه.. ولكنني أعطيتك في ترددي فرصة نادرة لتهدمي مكل شيء..
لقد كنت أجرأ مني في أن تعترفي بان هنالك رجلاً أخر.. وبأنك مضطرة لأن ترضخي للفرص التي منحها لك.. والتي لم امنحها أنا.. ولكن هل قلت لي أنت بأن هنالك رجلا آخر حقيقة ؟ كلا.. انك لم تلفظي الكلمات.. قلتها بصراحة أقسى من أي كلمة واضحة.. وصفعتني بها قبل أن أجد الكلمة التي أحملها مأساتي، واشحنها بنبأ مرضي الحزين.. لقد قلت كل شيء بجرأة تليق بامرأة تريد أن تستقر.. وحينما غيبك الباب، غيبتك الأيام. وذهبت إلى حيث لا ادري، ولكنني أحس.. ولقد عذبتك اللحظة، هذا شيء واضح ولكنك تركت كل شيء معي، بين الجدران العارية، وذهبت.. بدأت.. نسيت.. ولم تسمعي مني ابدأ الكلمات التي زرعتها بكل ما تبقى من كرامتي. الكلمات التي جمعتها ليلة بعد ليلة من لهاثي.. وشجاعتي.. وخوفي.. والتي لم يتيسر لي أن أقولها لك..
وكنت أحدق إلى الباب العتيق بعدما أغلقته.. كان يخيل إلي أنني مازلت أراك تدقين أرصفة دمشق، وكنت اسمع خفقات خطواتك بكل وضوح، ولكنني كنت في القاع.. في آخر الدوامة.. لقد شعرت فوراً أي شيء فقدت.. وفقدته رغم أنفي.. أنت لا تعرفين أنك أضعت علي فرصتي الأخيرة في أن استعيد إنسانيتي التي امتصها المرض حتى آخرها.. أنت لا تعرفين كم حرمتني من وسيلتي الوحيدة التي كنت أريد أن أقنع نفسي بأنني ما زالت أستطيع أن أكون شجاعاً.. وبدت لي كل حياتي صدفة فارغة لم يكن لها أي معنى.. وأن أخطاء العالم كلها تلتقي عندي..
لماذا تسرعت في الاعتراف ؟ لماذا ؟ لماذا لم تتركي لي فرصتي الخاصة في أن أمثل آخر أدواري ؟ .. ولكنك لا تعرفين.. لقد حدث كل شيء بسرعة، وأنت الآن هناك، في حديقة ما، أن لك كل الحق في أن تفعلي، وفي أن يفعل، ولكن من يستطيع أن يمنعني، أنا الآخر، من أن أحقد عليكما.. على الجميع.. وعلى نفسي ؟ من يستطيع أن يحرمني من أن أكرهكم جميعاً.. وأتمنى الموت لكم.. ولي.. ولكل شيء؟القيم والمثل ؟ كلا، أنها قيمكم ومثلكم انتم.. الناس الأصحاء السعداء.. أما قيمي ومثلي فهي شيء آخر.. شيء خاص مختلف يتناسب وأكوام المرارة التي أعيش فوقها.
أرأيت ؟ لقد كان الفرق لحظة واحدة فحسب.. لو تأخرت في اعترافك، لكان تغير كل شيء. ولكن الفرصة قد ضاعت الآن.. وابتدأت أنت تماماً من حيث انتهيت أنا..