عاد لذاكرتي صوته الدافئ ومنظره وهو يربت بيده على كتفي، استعجلت في مشاهدة صوره كان أغلبها «للقائد المفدى» لكنني كنت ابحث عن شخصه لأدقق في تفاصيله هل أصبحت أكثر قساوة بعدما أخبرتني أمي بأنه خاض اشتباكات وبأنه وقف على أحد الحواجز على أطراف دمشق أم أنه مازال يحتفظ بطيبته المعهودة .. وهاهي تظهر صورة له يصوب ببندقيته على سبيل التدريب … نظرته جافة لكن أمي قالت لي بأنه لم يسرق أبدا وكان يتكلم بحسرة عن أصدقائه السارقين، كما قالت لي أنه روى لها مرة حادثة عندما كان هناك شاب يقف خلف عامود بعيد في حي القدم على ما أذكر وطلب منه أحد أصدقائه أن يصوب عليه ويرديه قتيلا لأنهم شكّوا بأمره لكنه أبى، استعيد دائما هذه القصص لكي أحتفظ بذاكرة جميلة عن «خالي» الطيب، وأحاول أن أبعثر الأفكار الأخرى التي قد تأتي لرأسي.
ثلاثة أعوام مرت على انطلاق الثورة في سوريا وعاما كاملا منها قضيته في تركيا، ومازلت مؤمنة بأنها «ثورة» لأنني مازلت أعتقد أننا خرجنا ضد القهر والظلم والتسلط من أجل الحريات والعدالة والمساواة، وعندما جادلني صديقي قبل أيام بأنها ثورة «السنة» المظلومين في العالم العربي على الحلف «الشيعي» الذي يقتل ويستبيح كل شيء وأنني أنا كـ»علوية» من الحالات الشاذة لاندماج الأقليات في الثورة غضبت جدا، لكنني شعرت بشيء ما ينخزني بداخلي ويقول لي ربما كلامه صحيح.
في هذه اللحظة تذكرت لهاث صديقي على «الموبايل» عندما كان يتصل بي دائما قبل عامين ليخبرني «بطريقة مشفرة» بأنه هارب من الأمن بعد انتهاء مظاهرة ليلية في إحدى شوارع دمشق، ومن سوء حظي أنني لم أخرج إلا في اثنتين بسبب خوف أهلي الدائم عليّ وخوفي عليهم، كما تذكرت أغنية القاشوش «يللا إرحل يا بشار» التي كنت أنشدها مع أصدقائي الدروز والسنة والمسيحية، تذكرت فرحي الكبير بخروج أول مظاهرة في درعا والتي كنت أترقبها بفارغ الصبر، ومناقشاتي الدائمة مع أبي الذي كان يعترف لي في نهايتها دائما بفساد النظام لكنه يخاف من شبح الإسلام الذي يقطع الرؤوس على حد قوله، وأخيرا تذكرت مالم أنساه وهو حبيبي «السني» السابق والذي أمضيت معه 6 سنوات لم أشعر خلالها بأنني «علوية» على الرغم من أنه كان يتكلم معي دائما مازحا بحرف «القاف»، بعدما تماهينا مع بعضنا بالمطلق لدرجة أننا لم نعد نرى أي اختلاف بيننا.
كنت حينها أرى خوف العلويين من «بعبع» الإسلام ظاهريا و»السنة» باطنيا غير مبرر وأكثر عبارة كنت أسمعها من أقاربي بأنهم في إشارة إلى السنة «سيقطعون رؤوسنا»، وحينها قررت قراءة تاريخ العلويين في المنطقة لأعرف منبت هذه العبارة، أكثر ما فاجأني هو تولي محمد سليمان الأحمد «بدوي الجبل» عام 1937 منصب نائب في مجلس الشعب وفي عام 1954 تولى رئاسة عدة وزارات من بينها وزارة الصحة والدعاية والأنباء، ولم أقرأ عن أي مجزرة ارتكبها السوريون «السنة» بحق العلويين في التاريخ الحديث إلا ماسمعته عن المجازر التي ارتكبها السلطان العثماني سليمان الأول والفتاوي التي أصدرها بحقهم في القرن السادس عشر وغيرها من الحوادث التي حصلت فيما بعد، وأقر بأنني لم أبحث بتفاصيل تاريخهم قبل عام 1918 الذي يعد بداية الثورة السورية على الإحتلال الفرنسي وانتشار مبدأ المواطنة والأحزاب السياسية على اساس الإنتماء القومي العربي أكثر منها الديني.
خلال العام الأخير من الثورة حاولت التفكير بمبدأ الأقطاب الدينية في الإسلام «الشيعي – السني» وبأنه من الممكن أن يكون لكل منهما مصالح في المنطقة لزيادة الأتباع ونشر الدعوة، لكن حافظ الأسد قضى في الساحل السوري على السلطة الدينية الروحية لشيوخ الطائفة هناك، حيث أصبحت شهرة القرى تعود للضباط ذوي الرتب العالية وهم «سارقون ومجرمون» بدلا من «العلامين» من الطائفة، كماجنّد العلويون لحماية كرسيه في الوقت الذي أبعد فيه كل الأصوات العاقلة وطاردهم واعتقل العديد منهم وهو ما أكمله الإبن من بعده هذا غير الأعداد الكبيرة للقتلى من الطائفة والتي تصل جثامينهم إلى القرى كل يوم.
لم أستطع الاقتناع أن ايران يهمها الحسين وعلي ولا الدول الأخرى يهمها الخلفاء الراشدين الآخرين أو معاوية لأنه على مدى التاريخ استخدم السياسيون الدين كوسيلة لحشد الشعوب في الحروب، أو رجال الدين استخدموا السياسة لنصرة الدين، ولم أستطيع الوصول إلى نتيجة في هذا الموضوع على مبدأ «البيضة مين باضا والجاجة مين جابا»، لكنني أعلم أن أوروبا وبعد تاريخ طويل من الحروب التي تم استغلال الدين فيها لأغراض سياسية لم تسلم إلا بعد أن علت فيها سلطة القانون على «تقديس القادة» وهذا ما يحتاج ربما إلى تاريخ كبير من الوعي خاصة بعد أن أفرغ الأسد الأب والابن وغيرهم من الرؤساء الديكتاتوريين البلدان العربية من المؤسسات السياسية، وعندما يشعر الإنسان بالخوف يحتاج غريزيا للإنتماء إلى «قطيع» أو لقوة لكي يشعر بالأمان وهذا ما جعل العديد من الشباب السوريين يتعاطفون مع «داعش» التي أصبحت قطب قوة بالنسبة لهم لمواجهة قطب بنفس القوة يقتل ويستبيح وهو مدعوم من العديد من الدول.
تذكرت كلام أحد الاصقاء اللبنانيين لي عندما كنت أنا وأصدقائي في زيارة لقريته التي يسكنها «الدروز والمسيحية والإسلام» بعد أن دعانا إلى حفلة خيرية يقيمونها كل عام، كان الجميع فيها يمسكون بأيدي بعضهم في «الدبكة» حيث قال لي «قبل عشرين عاما كان أجداد هؤلاء الشباب يقتلون بعضهم بالسلاح لكن الزمن يشفي، وفي الإنتخابات تذهب كل طائفة وتنتخب زعيمها وهي تعلم كم هو وسخة»، كما تذكرت كلام مزارع سوري لاجئ في لبنان وهو من إدلب عندما قال لي «الرئيس يذهب دائما ولكن هل نستطيع أن نبيد بعضنا بالكامل، لا أدري؟». وأنا أيضا لا أدري التركيبة الجديدة التي ستؤول إليها سوريا، فقبل «سايكس بيكو» لم يكن هناك سوريا الحالية، ونحن بانتظار خطط الدول الممولة نفسها التي رسمت حدود سوريا قبل عقود، ولا شيء يوقف دورة السلاح في الوقت الذي يستخدم فيه النظام أسلحته المتطورة ويقتل المدنيين فلكل فعل رد فعل مساو بالقوة ومعاكس بالإتجاه، لكن في حال اعتبرنا أن هناك «مظلومية علوية» تشكلت عبر التاريخ، فما يحصل الآن هو تكوين «مظلومية سنية» وربما يحتاج رد هذه المظلومية وقت طويل لتستمر هذه الجدلية التاريخية.
كتب خالي على صفحته على «الفيسبوك» قَوَاعِد الْسَّعَادَة الْسَّبْع للإمام علي بن أبي طالب، أولها «لا تُكْرَه أَحَدا مهما أَخْطَأ فِي حَقِّك»، وآخرها «لا تَقْطَع دُعَاءَك لأخِيْك الْمُسْلِم بِظَهْر الْغَيب»، لا أصدق أن خالي «علوي» حتى، كما لا أصدق أن نقيضه المتطرف على سنة محمد، وأبقى اتساءل كم من الزمن نحتاج لنحل مشكلة علي ومعاوية؟ أو كم من الوقت تحتاج الدول والرؤساء ليكفوا عن اللعب على وتر هذه المشكلة التي يعود تاريخها لمئات الأعوام؟.
---------------- القدس العربي