يقول هذا الشاب: تعبت من حياة المنتصر، أهلكتني حياة النصر.. تعبت من العيش في هذا البلد المنتصر.. أطلب منكم مساعدتي في الخروج من سورية إلى إحدى الدول التي انتصرنا عليها، إلى أتفه دولة بين الدول التي هزمناها، أنا اشتقت إلى حياة المهزوم الساقط.. أريد الذهاب حصرًا إلى الدول التي انتصرنا عليها... لا إلى دولة شقيقة من الدول التي شاركتنا في انتصارنا، لأن هذه الدول تعيش مثلنا حالة النصر.. لا أريد دولة منتصرة.. أريد دولة مهزومة... أريد أن أعيش عيشة الذليل...
ملَّ هذا الشاب من الانتصار على طول الخط، بعد أن أصبح يتسرّب من مسامات جلده، ويظهر في كل حركة ونفس وتعبير. يسير في الشارع هائمًا، مثل أغلبية السوريين، من كثرة الانتصارات التي قد تصيب المرء بالضجر أو الجنون، تخمة الانتصار توجع الروح والعقل فعلًا. يحلم أغلبية السوريين بتجريب حياة المهزومين، التغيير جيد، فليس معقولًا أن يعيش المرء في انتصار دائم.. منذ أن وُلد، وفتح عينيه في هذه الدنيا وهو منتصر؛ ينتصر النظام الذي يحكمنا قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها، ينتصر من دون الدخول في معركة، ومن دون أن يعرف الخصم أنه هُزم، لا أحد يعرف بانتصارنا سوانا.
ذكرني نداء الشاب السوري الذي يطمح إلى مغادرة بلده المنتصر بمسرحيتين شهيرتين. الأولى مسرحية (ناطورة المفاتيح) 1972 لفيروز والرحابنة. في هذه المسرحية يعلن الملك (غيبون) ملك مملكة سيرا، يؤدي دوره أنطوان كرباج، عن ضريبة جديدة، أطلق عليها اسم "حصة الملك"، تسمح له بالحصول على نصف ممتلكات كل فرد من رعيته، ومن لا يستطيع يُؤخذ للعمل بالسخرة. لا تملك زاد الخير (فيروز) المال، فاضطرت إلى العمل بالسخرة بعد أن رفض حراس الملك عرضها بأن يأخذ الملك دجاجتين ونصف من الدجاجات الخمس التي تملكها، ونصف العنزة الوحيدة في حوزتها. حاول مستشار الملك جاد الحكيم (وليم حسواني) أن يحذر الملك من العواقب الوخيمة لقراراته التي باتت ثقيلة جدًا على الناس، لكنه لم يقتنع، بل كان عنيدًا، وعازمًا على فرض سيطرته، ولجأ إلى القتل والتعذيب، وتصرف بطريقة بعيدة عن المنطق، وأقرب إلى الجنون، مثل سائر الطغاة.
عادت زاد الخير بعد أن أنهت عمل السخرة، لتجد الناس المثقلين بالأعباء قد تجمعوا بقيادة بربر (نصري شمس الدين) وقرروا ترك بيوتهم والرحيل عن المملكة. يقول بربر في حواره مع صبية (لإيمتى بدنا نضل ساكتين، لإيمتى بدو ينهبنا الخوف، صرنا متل الحيطان، بيضربونا ما منتحرك، بيحكونا ما منسمع، تخمين انكتبلنا ننحبس بسكوتنا، ليش ما منرفع صوتنا ومنصرّخ، لازم البرج العالي يوقع، لازم الرماح القاسية تتكسر، شو بنا مكومين على حالنا متل الحصر العتيقة وعيونا صوب الأرض، قوموا، صرخوا، احتجوا، اهجروا، الحالة ما بقا تنطاق" ويتابع "إذا في ناس عندون كرامة، بليلة ما فيها ضو قمر، متل رفوف الطير بيهاجروا عن هالمملكة، وبيتركولو البيوت الفاضية وأصوات الدياب".
قرّرت زاد الخير أن تبقى وحدها بعد رحيلهم، فترك الأهالي معها مفاتيح بيوتهم، ومن هنا جاء عنوان المسرحية. يصدر الملك قرارًا بتزيين الشوارع والساحات وبمشاركة جميع الناس بلا استثناء في استقبال الملكة (هدى) العائدة بعد غياب شهر عن المملكة. وصلت الملكة، لكنها حظيت باستقبال رسمي من الحراس فحسب، فوبّخت الملك بسبب هذا الاستقبال الهزيل.
بعد أن أصبحت المملكة مهجورة وشملها الصمت، ولم يبقَ فيها إلا زاد الخير وخيالات الحرس، يُفاجأ الملك مخاطبًا جاد الحكيم: آلاف الناس، المدن، الشوارع، الجماهير الغفيرة اللي كانت تهتف عاش الملك كلون هربوا معقول!؟... عوض ما يروح الملك راح الشعب، سكروا عليي المملكة وراحوا نفيوني بحالي وراحوا.. أنا صرت ملك المنفى، ملك البيوت الفاضية والساحات المهجورة، هربوا وانتصروا..
يأمر الملك بإطلاق سراح جميع المعتقلين، لأنه في حاجة إلى مواطنين يحكمهم، لكنهم يهربون أيضًا بعد إطلاق سراحهم، وحدها زاد الخير ترفض الرحيل. حين تلتقي زاد الخير بالملك، ويكتشف أنها الوحيدة الباقية من الشعب يخاطبها قائلًا "زاد الخير يا شعبي العظيم المحبوب"! عندما يتحدث الحكام الطغاة عن عظمة الشعوب فإنما يتحدثون عن أنفسهم.
بدلًا من أن يغادر الملك غادر الشعب. اليوم، غادر نصف الشعب السوري البلد، فيما يفكر معظم الباقين في مغادرته أيضًا. أكثر من عشرة ملايين نازح ولاجئ في الداخل والخارج، ومئات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين والمختفين. هذه واحدة من دلائل الانتصار على "المؤامرة الكونية". لماذا يكون المنتصرون لدينا مقهورين وبائسين وجوعى ومشردين؟! لماذا يكون الانتصار عندنا مترافقًا بتدمير نصف البلد، وخسارة الأرض، والسيادة، والبشر، وتعطيل ما يزيد على 75 في المئة من طاقة سورية البشرية والاقتصادية؟! لماذا يتزامن الانتصار بعجزنا عن تأمين حياة آدمية بأبسط مقوماتها، وبطوابير البنزين، والمازوت، والخبز؟ لماذا تستفحل الانقسامات الدينية والطائفية والقومية، والعراك بين المدينة والريف، وخطابات الكراهية، مع كل انتصار؟! لماذا يتساوى الموت والحياة عند المنتصرين؟!
من هي سورية المنتصرة اليوم؟ ما حدودها؟ وأين اقتصادها؟ وسيادتها بيد من؟ وأين شعبها قبل كل شيء؟ لماذا يكون المنتصرون في مأزق أكبر كثيرًا من مأزق المهزومين؟ الإجابة الوحيدة الصحيحة عن الانتصار الذي ضجر منه ذلك الشاب هي بقاء نظام الحكم؛ فلتتدمر سورية وليتشرد شعبها، المهم أنني بقيت، حتى لو على كومة من الحجارة. يتساءل مواطن سوري إذا كانت هذه حالتنا نحن المنتصرين، فما حالة المهزومين؟! كان الله في عونهم.
أما المسرحية الثانية فهي (مسرحية غربة) لمحمد الماغوط ودريد لحام التي تتناول ظاهرة الكذب والنفاق المرافقة بالضرورة لكل نظام استبدادي. يعلن بيك الضيعة (دريد لحام) عن الاحتفال بعيد الكذب، وتبدأ مراسم الاحتفال، فيطلب البيك من وجهاء الكذابين أن يصطفوا إلى جانب الحكومة، ويقترح على الجمهور مسابقة العيد: أكذب واحد بينكم سينال كأس الكذب الدوري، فيردِّد الجمهور "الكاس للحكومة"، فيجيبهم البيك "الكاس مخصّص لنا طوال السنة، لكنه اليوم مخصّص لكم".
يطلب البيك والجمهور من أبو ريشة (نهاد قلعي) قبل سفره أن يشاركهم في عيد الكذب، ويعرض عليهم كذبة ما، يرفض أبو ريشة معترضًا على الكذب، فيجيبونه "لما بتهاجر لبعيد انسَ الكذب وانسَ غربة". يعترض أستاذ المدرسة في غربة على إقامة عيد للكذب، ويطلب أن يكون العيد للصدق، فيجيبه البيك "الصدق بيعمل مشاكل وبيهدِّد أمن الدولة". يقتنع الجمهور بأن الكذب خير سبيل للعيش والنجاة، وأن سعادتهم هي بوجود البيك "ادعوا الله يديم البيك"!
كثير من السوريين اليوم أُتخموا بالانتصارات، وهم واقعون بين خيارين؛ الرحيل أو الاستمرار في حفل التكاذب. يعرف النظام أنه يكذب، ويعرف أنهم يعرفون أنه يكذب، ويعرفون أنه يعرف أنهم يكذبون. يُراد من جميع السوريين أن يكونوا كاذبين، ومنافقين، يتغنون بالانتصارات التي تملأ الدنيا. هذه الحال تتركهم فرادى، لا أحد منهم يصدق الآخر، ولا أحد يمدّ يده إلى الآخر، وليعيشوا حياتين في وقت واحد؛ حياة الانتصار في العلن، وحياة القهر في السر. الكذب وسيلة من وسائل احتمال قسوة الحياة، لكن الحياة في سورية، على ما يبدو، أصبحت فوق قدرة الكذب على احتمالها، والسوريون معظمهم يرغبون في الرحيل لينسوا الانتصارات والكذب، لكن على الأرجح لن ينسوا سورية.
--------المدن