وفي ظل السخط والاستياء الشعبي العام الواسع من النظام الحاكم في طهران، ودخول محادثات جنيف النووية مع مجموعة الدول 5+1 جولاتها السادسة، والصراع العسكري الذي تقوده إيران باستخدام وكلائها وميليشياتها في خمس دول عربية؛ أثار تنصيب شخصية متشددة، كانت قد تدرّجت من سنّ التاسعة عشر عامًا في المناصب الحكومية الحساسة المسؤولة عن العمل الميداني لقمع المعارضين والمنتقدين الإيرانيين، ومتورطة في آلاف عمليات الإعدام بحق المعارضين الإيرانيين، العديدَ من التكهنات حول تداعيات وآثار هذه الخطوة على الساحة الداخلية والسياسة الخارجية.
التداعيات على السياسية الخارجية
خلافًا لما يعتقده البعض أن حكومة رئيسي لن تختلف كثيرًا عن حكومة روحاني “الإصلاحية”، لن تكتفي حكومة رئيسي بأن تكون التابع المطيع والمُبَرِر والداعم لسياسة الميدان، بل ستسعى لتوفير مزيد من الموارد المالية والبشرية والدبلوماسية بكل شغف وحبّ، خدمة لسياسة الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس التابع له.
على سبيل المثال، لن تتلكأ وزارة الخارجية في حكومة رئيسي الجديدة عن افتتاح قنصليات إيرانية جديدة في مدنٍ سورية، مستخدمة كل الطاقات الموجودة لتحويل سورية إلى جبهة متقدمة لحلفها، كما تلكأ سابقًا ظريف بافتتاح القنصلية الإيرانية في حلب، بعد أن أتمت جميع ترتيباتها اللوجستية منذ سنتين ماضيتين، بانتظار قدومه لافتتاحها رسميًا. أي إن الدبلوماسية والسياسة ستكون في خدمة الميدان طواعيةً، وفي المقابل سيكون الميدان البوصلة والموجه لهما.
وعلى ما يبدو، سيكون الهدف الأكثر الأهمية الذي ستسعى وراءه حكومة رئيسي الجديدة في المجال الاقتصادي، حيث سيتم توفير مزيد من الدعم والميزانية العسكرية، لتطوير البرنامج الصاروخي والنووي والمضيّ قدمًا بالمخططات الإقليمية، في ظل علم المرشد الإيراني أن المفاوضات النووية الجارية حاليًا في فيينا قد لا تُفضي إلى رفع كامل للعقوبات المفروضة.
لذلك، في ظلّ الثقل الاستراتيجي الكبير والتكاليف الباهظة التي تتحمّلها طهران، لتطوير برنامجها الصاروخي والنووي والتمدد أكثر في عمقها الاستراتيجي، يجب أن تكون أوليات حكومة خامنئي المفضلة جعل العقوبات غير مؤثرة، من خلال التحايل عليها بمختلف الطرق والوسائل، وتقديم مزيد من الفرص الاستثمارية المجانية للحرس الثوري، ليقع الاقتصاد الإيراني بالكامل فريسة لهذه القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية الكبرى.
وفي الحقيقة، لن تجد في حكومة رئيسي شخصًا مثل جواد ظريف، يحاول تبرير سياسة إيران التوسعية بلغةٍ دبلوماسية منمّقة، ويطالب دائمًا قادة الحرس الثوري خلف الكواليس بالامتناع عن إبداء التصريحات المحرجة لوزارته، حول سياسة التدخل الإيراني السافر وتجنيد المرتزقة في المنطقة، بل ستكون كلّ توجهات الحكومة الجديدة انعكاسًا لسياسة الميدان التي يقودها فيلق القدس. لذلك، مع قدوم رئيسي، لن نجد صعوبة في تأويل التصريحات وفهم التوجهات العامة للنظام الإيراني في السياسة الخارجية، بسبب توافقها ودعمها التام والصريح لمتطلبات الميدان.
وبناء على ذلك -كما يظهر جليًا في تصريحات الرئيس الإيراني الجديد الذي سيتسلّم زمام الرئاسة في آب/ أغسطس القادم- لن تتوقف إيران عن دعم الميليشيات العميلة التي تقاتل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولن تكبح جماح برنامجها الصاروخي. بمعنى آخر: سيكون الاختلاف بين حكومة رئيسي وحكومة روحاني أن أعضاء الحكومة الجديدة لن يتدخلوا في العمليات العسكرية والأمنية للحرس الثوري الإيراني، لكنهم سيدخلون الميدان معهم موحدين وداعمين لهم بقرار وهدف مشترك.
على سبيل المثال، إذا كانت وزارة الخارجية الإيرانية في عهد روحاني قد وظّفت إمكاناتها لخدمة مخابرات الحرس الثوري وفيلق القدس، للتغطية على عملياتهم الإرهابية في الخارج، وعيّنت بعض سفرائها من أعضاء هذه الأجهزة، فسيتم تقديم كلّ التسهيلات وتوظيف كل الإمكانات، في وزارة خارجية رئيسي الجديدة التي ستختار كلّ سفرائها من أعضاء وضباط فيلق القدس، وهو ما قد يُنهي بطبيعة الحال تمثيل السفير الإيراني الجديد في سورية، الذي لم يمضِ على تعيينه أشهر عدة. وفي خضمّ هذه التغييرات الجذرية، من المرجح أن تزداد العمليات الإرهابية الإيرانية ضد قادة وناشطي المعارضة الإيرانية في المنفى، خاصة الموجودين على الأراضي الأوروبية.
إنّ صعود شخصية مجرمة، كإبراهيم رئيسي، يعني أن خامنئي لا يهتمّ بالرأي العام الدولي، وبنظرة الحكومات الغربية إلى الحكومة الإيرانية أهي معتدلة أم راديكالية متشددة، عندما يكون الهدف توسيع دائرة النفوذ الإيراني وتصفية الأعداء المزعجين، وبالتالي سيخلع النظام الإيراني قناعَه المعتدل المزيّف، ويتوقف عن التظاهر بالوسطية خلال السنوات القادمة.
التداعيات على الساحة الداخلية
عامًا بعد عام، يصل الإيرانيون، ومعهم المجتمع الدولي، إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن إصلاح النظام الحاكم في طهران، من خلال صناديق الاقتراع. ولذلك، يشكل صعود “رئيسي” على رأس السلطة التنفيذية في إيران استكمالًا للهوة الكبيرة الحاصلة بين الشعب الإيراني والحكومة، ويعدّ هذا الحدث بمنزلة تذكير بأن تطلعات الإيرانيين إلى حياة حرة وكريمة تتعارض مع وجود نظام قمعي لا يقبل التغيير وغير قابل للكسر.
مع قدوم رئيسي، ستكون أولويات الحكومة القصوى رعاية ودعم المخططات الإقليمية، لا تلبية متطلبات الشعب الإيراني وحاجاته الأساسية. لهذا السبب، يحصل وكلاء وميليشيات النظام الإيراني في المنطقة، من “حزب الله” والحوثيين و”الحشد الشعبي”، على العديد من الميزات والخدمات العامة أكثر مما يحصل عليه الإيرانيون أنفسهم. لذلك، من المؤكد أن يؤدي صعود “رئيسي” المتشدد إلى نهج أمنيّ أكثر صرامة لخنق وقمع النقاد والانتفاضات والناشطين المعارضين على الصعيد المحلي، من أجل التأكد من هدوء الجبهة الداخلية والتفرغ للمخططات الإقليمية.
على سبيل المثال، إذا سقط أكثر من 1500 قتيل في انتفاضة تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، في عهد روحاني، من المتوقع أن تواجه الانتفاضات المحلية القادمة بوحشية أكبر، وتواجه خسائر بشرية عالية في عهد رئيسي المعروف في الأوساط الداخلية الإيرانية بالقاتل الجماعي وجلاد مجزرة عام 1988، التي راح ضحيّتها أكثر من 30 ألف سجين سياسي، أغلبهم من أعضاء وناشطي منظمة مجاهدي (خلق) الإيرانية. وبهذه الاستراتيجية والتوجّه، ستكون العلاقة الوحيدة المتبقية بين الحكومة والشعب الإيراني هي سياسة العصا، وهذا يعني أن القوى القهرية للنظام يجب أن تستمر في إعمال سياسة القمع الداخلي، حتى لا تتحول الانتفاضات القادمة إلى ثورات تهدد حياة النظام الحاكم.
على سبيل المثال، إذا تم تضمين وإلحاق السياسات الأمنية بجميع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الحكومات السابقة، فستكون السياسات الأمنية هي العنوان والمفتاح لكل السياسات الأخرى. حتى إن السياسات الاقتصادية ستُصاغ للتعامل مع التهديدات العامة لحياة النظام.  ونتيجة لذلك، ستلقى كل وعود مرشحي النظام الإيراني، وعلى رأسهم رئيسي، في سلة المهملات.
خلاصة: بشكل عام، يُعدّ قدوم “رئيسي” إلى رأس السلطة التنفيذية في إيران نذيرَ شؤمٍ على الساحة الداخلية الإيرانية، ولا تقلّ أهميّة هذا الحدث وتداعياته الخطيرة، على الساحة الإقليمية والعالمية التي قد تشهد فترات توتّر غير مسبوقة، خاصة مع دول الجوار الإيراني، وزيادة في التمدد والدعم الخارجي للعمق الاستراتيجي الإيراني في المنطقة. ومن الثابت أن الحكومات الإيرانية المتعاقبة لم تأتِ بأيّ نفع على المنطقة، ولن تختلفَ حكومة “رئيسي” عن سابقاتها، إلا أنها قد تنتقل بالظروف والأوضاع الإقليمية والداخلية، من مرحلة السيئ إلى الأسوأ.
--------------
مركز حرمون