الواقعية السياسية والواقعية العددية: تعريفات وأثرها على الوضع السوري
الواقعية السياسية تُعرّف على أنها الاعتراف بالحقائق القائمة على الأرض، بما في ذلك التوازنات السياسية والاجتماعية، والعمل ضمن هذه الحقائق لتحقيق أهداف ممكنة ومجدية. في السياق السوري، يتجلى هذا الأمر في الاعتراف بالقوى الفاعلة على الأرض، بما في ذلك التوزيع الديموغرافي والطائفي والقبول بأن أي حل سياسي يجب أن يراعي هذه التوازنات لضمان الاستقرار.
من ناحية أخرى، الواقعية العددية تعني الاعتراف بتوزيع القوى السكانية، والتي في الحالة السورية تبرز فيها الأغلبية السنية كمكون أساسي لا يمكن تجاهله. هذه الواقعية العددية تفرض على الفاعلين السياسيين التفاوض مع الأغلبية في أي عملية سياسية، لضمان نجاح أي اتفاق أو ترتيب سياسي جديد.
هل تفرض الواقعية العددية قبول الواقع السياسي؟
الواقعية العددية تفرض التعامل بجدية مع الأغلبية العددية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة قبول الوضع السياسي القائم كما هو. على العكس، يمكن أن تكون الواقعية العددية دافعاً للتغيير من خلال البحث عن حلول توافقية تحقق التوازن بين مصالح الأغلبية والمكونات الأخرى في المجتمع.
في هذا السياق، الواقعية السياسية لا تعني الاستسلام للواقع القائم، بل تتطلب التكيف مع الظروف الحالية والعمل بذكاء لإيجاد حلول تدريجية تتماشى مع الأهداف بعيدة المدى. قد يكون من الضروري في بعض الأحيان تقديم تنازلات تكتيكية لضمان التقدم نحو الهدف الأكبر، مثل إرساء نظام سياسي أكثر عدالة وشمولية.
التحديات في سوريا: الواقعية السياسية بين القبول والرفض
بعد مرور أكثر من عقد على الثورة السورية، نجد أن النقاش حول الواقعية السياسية يثير العديد من التساؤلات. هل يجب قبول الحلول القائمة على التوازنات الحالية حتى وإن كانت لا تلبي طموحات جميع الفئات؟ أم أن هذا القبول يمثل تنازلاً عن الأهداف الأساسية التي قامت من أجلها الثورة؟
هناك من يرى أن الواقعية السياسية، في ظل الظروف الحالية، تعني خسارة الزخم الثوري والابتعاد عن الأهداف الحقيقية للتغيير. هؤلاء يعارضون أي حلول توافقية يرونها تثبيتاً للوضع القائم أو تكريساً للهيمنة الطائفية أو الدينية. ومن وجهة نظرهم، يجب أن تستمر الثورة حتى تحقيق أهدافها الحقيقية، حتى لو تطلب ذلك وقتاً أطول وصعوبات أكبر.
الرؤية البديلة: التغيير التدريجي والتوازن بين الواقعية والطموح
على الجانب الآخر، هناك من يرى أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يحدث بشكل فجائي أو جذري، خاصة في مجتمع معقد مثل سوريا. هؤلاء يدعون إلى الواقعية السياسية كسبيل لتحقيق التغيير التدريجي، الذي يمكن من خلاله بناء نظام جديد يراعي توازنات القوى الحالية ولكنه يسعى إلى إرساء أسس جديدة للعدالة والمساواة.
هذا النهج يدعو إلى المرونة دون التنازل، حيث يتم التعامل مع الواقع الحالي كمرحلة انتقالية، يمكن من خلالها بناء أسس جديدة للمستقبل. التفاوض مع الأغلبية العددية في العملية السياسية يصبح أمراً ضرورياً، لكن دون التنازل عن المبادئ الأساسية التي تدعو إلى الحرية والمساواة والعدالة.
في النهاية، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية التوازن بين الواقعية العددية التي تفرضها التركيبة السكانية في سوريا، وبين الطموحات الثورية التي تسعى إلى إحداث تغيير حقيقي وجذري في بنية المجتمع، ويمكن أن يتنوع بين تعزيز المبادئ الديمقراطية والعلمانية أو تبني الأيديولوجيات الدينية. الواقعية السياسية ليست بالضرورة عدواً للتغيير، بل يمكن أن تكون أداة لتحقيقه إذا ما استخدمت بحكمة. والتعامل مع القوى المختلفة بعقلانية وتفاوض يمكن أن يؤدي إلى بناء تحالفات جديدة وإيجاد حلول توافقية تضمن استقرار البلاد وتحقيق العدالة لجميع مكوناتها.
إن فهم الديناميات السياسية والاجتماعية في سوريا، والتعامل معها بمرونة وذكاء، قد يكون السبيل الوحيد لإيجاد مخرج من الأزمة الحالية، وبناء مستقبل أفضل يتماشى مع طموحات كل السوريين.
----------
نينار برس