وليس من المصادفة بمكان، أن يمر القرار بهذه السهولة من دون حدوث فيتو روسي كما في مرّات سابقة، وأن يهلل له الروس والأميركيون بطريقةٍ بدت لافتة للانتباه، بل إن أخطر وأهم ما قيل في القرار الدولي جاء على لسان وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، "قرار تمديد دخول المساعدات الإنسانية بصيغته الحالية يعد إنجازا، لأنه تضمن كل الجوانب التي كانت الدول الغربية ترفض تناولها.. القرار ينصّ على إيصال المساعدات الإنسانية من الداخل السوري، وليس فقط من المعبر، ويعني ذلك أن المعابر الخارجية لم تعد الأساسية، وما حصلت عليه الدول الغربية من هذا القرار هو نصف معبر فقط".
أولا، يؤكد نص القرار 2585 لأول مرة على إيصال المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس الداخلية، أي وصولها إلى مناطق النظام، إما عبر منظمات تابعة للنظام، أو تحت إشراف روسي مباشر. وأهمية هذه الخطوة في أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أصبحا ينظران إلى الأزمة الإنسانية داخل سورية من منظور جغرافي واحد يشمل جميع أراضي البلاد، من دون تمييز بين مناطق المعارضة ومناطق النظام. كما تكمن مخاطر هذا التحوّل في المناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية"، حيث إدخال المساعدات إلى مناطقها سيكون محصورا بأيدي النظام، كونه يفصل بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة المعارضة.
ثانيا، ليست الانعطافة الكبرى في هذه التفاصيل، بل في إمكانية إنهاء الآلية الأممية لإدخال المساعدات على الجملة، وهو ما عبر عنه سفير روسيا في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، حين قال "لقد منح أعضاء المجلس الضوء الأخضر لتعزيز الآلية عبر الحدود بشكل تدريجي ثم استبدالها في نهاية المطاف بعمليات تسليم عبر الخطوط". وجاء هذا التصريح بعد أيام من البيان الختامي لـ "أستانة 16" الذي لم يشر إلى صيغة "عبر الحدود"، مكتفيا بالتأكيد على ضرورة إيصال المساعدات إلى جميع السوريين في جميع أنحاء البلاد من دون تمييز وتسييس. .. ووفقا للموقف الروسي، الذي لم يقابله أي تعقيب أميركي، ستتوقف الآلية الأممية بعد عام، ليصبح إدخال المساعدات عبر النظام السوري وحده.
ثالثا، يدعو القرار الأممي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى الاستجابة بخطوات عملية لتلبية الاحتياجات الملحّة للشعب السوري في ضوء الآثار الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية العميقة لوباء كوفيد 19 على سورية، كدولة في حال طوارئ إنسانية معقدة، ويرحب بجميع الجهود والمبادرات لتوسيع الأنشطة الإنسانية في سورية. واعتمد نصر القرار الأممي صيغة "الإنعاش المبكر" مقاربة جديدة لإعادة إحياء وبناء البنى التحتية المتعلقة بالمياه والصرف الصحي والصحة والتعليم والمأوى، إضافة إلى مشاريع التعافي المبكر، مع ما يعني ذلك من سماح الإدارة الأميركية بإعادة الإعمار في هذه القطاعات، وطبعا عبر بوابة النظام.
كيف يمكن تفسير التنازلات الأميركية هذه؟ وهل هي مجرد تنازلات أحادية الجانب، أم أنها مرتبطة بصفقة يقدم الروس من خلالها تنازلات ليست معلومة بعد؟ بغض النظر عن التنازلات الروسية إن وجدت، وهي ليست ذات أهمية، فما يهمنا هو الرؤية الأميركية للمسألة السورية.
منذ سنوات، تقوم المقاربة الأميركية في سورية على إدارة الأزمة من دون الوصول إلى امتلاك رؤية وإرادة للحل النهائي، وقد موضعت الإدارات الأميركية مقاربتها بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والحيلولة دون عودتها، استمرار الدعم الإنساني الدولي إلى سورية، تثبيت موازين القوى العسكرية في الداخل.
ولكن أزمة كورونا من جهة، والانهيار الاقتصادي الحاصل في البلاد من جهة ثانية، دفعا واشنطن إلى الاقتراب من رؤية المبعوث الأممي، غير بيدرسون، والرؤية الروسية، المتعلقة بضرورة تخفيف الأعباء الاقتصادية عن الشعب السوري وضرورة مكافحة كورونا، لأن من شأن الانهيار الاقتصادي أن يُحدث نوعا من المخاوف الجديدة حول احتمال ازدياد حالات التطرّف المنظم، والخوف من انفجارات اجتماعية.
يفهم من هذه الأهداف أن الدور الأميركي اقتصر على ما يمكن تسميته التدخل السلبي، القائم على مقاربة إبقاء الوضع على ما هو عليه، لمنع حدوث انفجاراتٍ إنسانية أو عسكرية، من شأنها أن تعيد الأزمة السورية إلى مربّعها الأول. ولذلك، يكمن أقصى اهتمامات واشنطن حيال سورية في حصر الأزمة داخل البلاد، والعمل على تأمين
عودة اللاجئين وفق حمايةٍ يتم التفاهم حولها، مع ترك الإصلاحات السياسية إلى اعتبارات المصالح الدولية، والقبول بتنازلات البسيطة من النظام
------------
العربي الجديد