إلى الجنوب الشرقي للجمهورية التركية، وقعت بلاد فارس خلال الحقبة المذكورة تحت نفوذ روسيا في الشمال وبريطانيا في الجنوب، مع هامش بسيط لسلطة الشاه في العاصمة وما حولها، كما تم تكبيل هذه السلطة بمعاهدتَي "كلستان وتركمان تشاي" اللتين انتقصتا من السيادة الوطنية، إضافة للتقسيم الفعلي للبلاد نتيجة نفوذ الدولتين المذكورتين، ولعلَّ ذكر نسبة الأمية والوفيات خلال الفترة المذكورة تعطيان صورة واضحة عن الواقع الإيراني آنذاك، إذ تجاوزت نسبة الأمية ٨٠٪ ونسبة وفيات الأطفال ٥٠٪، وبذلك يبدو أي حديث عن الاقتصاد أو مقومات الدولة الحديثة حديثاً فارغاً. ثمَّ بلغ التدخل أشده من قبل الحلفاء، بعزل الشاه رضا بهلوي (الذي أعطى البلاد اسمها الحالي: إيران)؛ نتيجة ميوله لجانب ألمانيا مع بداية الحرب العالمية الثانية.
أمَّا ثالثة الأثافي فلم تكن موجودة حينها، رغم ظهور جنينها على لسان وزير الخارجية البريطانية، آرثر جيمس بلفور، هذا الجنين الذي تم الاعتراف بولادته في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ذي الرقم ١٨١ لعام ١٩٤٧، بعد عَقدين من هذا التاريخ استطاع الجنين المذكور هزيمة ثلاثة جيوش عربية وتدمير قواه الجوية، وفي خروج عن التفكير النمطي المعروف والملقن، كانت تلك الحرب بداية التحول الأمريكي لإدارة نيكسون وما بعدها من الإدارات الأمريكية المتلاحقة لفتح باب الدعم على مصراعيه للدولة الوليدة التي نجحت في المعركة، بينما نجح العرب في التحول لظاهرة صوتية لا محلَّ لها من الإعراب إلا الجر الدائم خلف أحد المشاريع الثلاثة التي بلورتها الدول الثلاث المذكورة بدايةً!
وما يزال العرب يرفعون شماعة "سايكس بيكو" و"بلفور" و"سان ريمون" لتكريس فرقتهم مصرين على تغييب أي مشروع عربي مثمر لمنطقتهم! وإلى جانب النظرة البريطانية " بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي" كانت هناك نظرة بريطانية أخرى صرَّح عنها وزير الخارجية انتوني إيدين بقوله " إنَّ الحكومة البريطانية ستنظر بعين العطف إلى أي محاولة من جانب أصدقائنا العرب لتحقيق وحدة اقتصادية واجتماعية، بل وسياسية أيضاً" بيدَ أنَّ الزعماء العرب الذين بدؤوا مشاوراتهم لبلورة هذا الاتحاد، انقسموا إلى فريقين: أحدهم يدعو لاتحاد فدرالي ذي سلطة عليا يمكنها فرض إرادتها على الدول، فيما يرى الفريق الآخر إنشاء اتحاد يهدف للتعاون والتنسيق بين الدول العربية. كما اختلفوا على اسم الكيان الوليد بين "التحالف العربي" و"الاتحاد العربي" إلى أن توافقوا على مسمَّى الجامعة العربية، وما لبث أن طال الاسمَ تعديلٌ طفيف بإضافة كلمة الدول ليصبح: جامعة الدول العربية، فيما يبدو التعديل الطفيف تكريساً للفرقة، ضاعف من حدَّته التنافس التاريخي بين الهاشميين والسعوديين، إضافة لإصرار الملك فاروق ورئيس وزرائه، مصطفى النحاس، على تولي مصر قيادة الوحدة العربية، ونتج عن ذلك محاربة وإسقاط مشروع سوريا الكبرى الذي حمله الأمير عبدالله ملك الأردن، طوّره لاحقاً إلى وحدة بين سوريا الكبرى والعراق، عزز قيامها وجود هاشمييَن على عرشي العراق والأردن، كما سقطت معها كل دعوات الفدرلة كشكل من أشكال الوحدة العربية.
في مرحلةٍ لاحقة، تمَّ قتل الآمال التي وُلِدت مع وحدة مصر وسوريا؛ نتيجة الانفصال الذي شكل انتكاسة للمشروع العربي، وضاعفت الأحداث والسنون اللاحقة انتكاسته إلى أن تم دفنه تحت أقدام الجنود العراقيين في عملية غزو الكويت، تلك العملية التي زادت في التمزق العربي، كما كان من مضاعفاتها تمدد المشروع الإيراني إلى العراق بعد الغزو الأمريكي، وقبله أوجد الإيرانيون موطئ قدم لهم في لبنان خلال الحرب الأهلية التي جعلت لبنان ساحة لتصفية الحسابات العربية- العربية، دون الالتفات للمخاطر التي تهددهم جميعاً.
يعيش العرب اليوم أسوأ أيامهم؛ بعد أن فقدوا التأثير في السياسة الإقليمية الخاصة بمحيطهم، وباتوا مشدودين للحاق بمشاريع المنطقة الثلاثة، التركية والإيرانية والإسرائيلية، التي تتنازع المنطقة، دون أن تظهر بوادر مشروع عربي تنقلهم إلى دور الفاعل على الساحة الإقليمية ثمَّ إلى دور الفاعل على الساحة الدولية، علماً أنَّ أغلب مقومات وحوامل هذا المشروع موجودة لديهم، إن تمَّ التخلي عن نزعة الاستئثار بالسلطة والتخلي عن النزعة السلطوية على المجتمع والحكومة، حال ولادة المشروع السياسي العربي المستقطب لكل القوميات المكونة للدول العربية، التي كان لها دور فاعل ومؤثر في مشاريع الماضي الأقرب؛ ككتيبتي الكرد المركزيتين في جيش صلاح الدين الأيوبي ومشروعه الوحدوي، ودور الأمازيغ في الماضي الأبعد، بما شكلوه من حامل في توسيع حدود الدولة الأموية، كذلك الدور الذي تصدروه في الدفاع عن الولايات والممالك العربية زمن الضعف العباسي من خلال الدول التي أقاموها في المغرب العربي، والتي بقيت محتفظة بقوتها خلال فترة الانحدار العباسي.
يرتبط مصير الدول العربية اليوم بمخلفات الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥ والمحاولات الحالية لإنعاشه، أو بمخططات الوطن الأزرق التركي وتوافقات الدولة التركية مع الفاعلين الإقليميين والدوليين على النفوذ في الجغرافية العربية، أو بالعنجهية الإسرائيلية التي لم تصطدم حتى الآن بمشروع عربي يمكن أن يعقلنها.
---------
الطريق