نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


المؤتلف والمختلف ...محيي الدين اللاذقاني يودع الطيب صالح




هل للغياب طعم ...؟هل للفقدان رائحة... ؟ أسأل النفس لأشاغلها وأنا أقف على باب الطيب صالح ،لأول مرة أدخل بيته في غيابه وهذه المرة سيطول الغياب نعرف ذلك دون أن تنبأنا العرافات فالغياب كالفقدان كالرحيل يترك خلفه دمعة أسى ووعد بلقاء ،الغياب ليس بعدا والرحيل ليس هجرة وعلى وفرة ما تنادمناه من أشعار تهرب كل القصائد من الذاكرة ويخلو ديسكها الممسوح الا من بيت واحد قاله أعرابي مجهول متخيلا لحظة دفنه .
يقولون لاتبعد وهم يدفنوني
الا كل من تحت التراب بعيد


على باب الطيب صالح أقف ،لون الباب الخارجي تغير ،الأزرق أصبح بنيا ،ولا عويل نساء يسافر في الريح دون تأشيرات ليشهد أمام الصحراء العربية بأن فقيدهن لن تلد النساء مثله ، الباكيات والباكية الأولى والأخرى التي تهيج البواكيا لسن هنا انهن ينتظر ن في أم درمان التي سيصلها اليوم محمولا على أكف المحبة لينام قرير العين الى الأبد في مملكة مولانا البكري ،فقد جاء الوقت ليسعد بصحبة من دوما أحبهم من أولياء الله الصالحين .
على باب جاري الصالح أقف ولا أعترف حتى للهدهد - لنفسي بأني لن اراه مرة أخرى يفتح الباب ،فلطالما مازحناه محمد بن عيسى وأنا بأنه من أصحاب الكرامات وهؤلاء قادرون على الاتيان بالعجائب واختراق الحجب لكن ليس عندهم القدرة في هذه اللحظة على محو الندم الذي احسه عميقا على رحلة روحانية فاتتني معهما لصاحب كرامات في شمال افريقيا فقد خططنا ذات يوم من أصيلة التي تحبنا ونحبها للذهاب الى سيدي عبد السلام بن مشيش شمال المغرب وفي اللحظة الأخيرة اضطررت للاسراع في العودة الى لندن لامر طرأ وتركتهما يذهبان معا ليحكيا لاحقا عما فاتني في ذاك المكان الذي تمد منه يدك لتداعب غيمة أو تمسك نجمة
على باب الطيب صالح أقف وفجأة بتكثف عمر من المحبة في ملف مضغوط عمره لحظة برق رحيم ،أذكر كيف قابلته لأول مرة في القطار وكنت حديث عهد بالقدوم الى لندن ومن كلمة تتبع أختها بتلقائية نيل يهاجر في كل الاتجاهات أعلم أنه جاري في (رينزبارك) جنوب لندن وقبل أن اقول يا للقدر السعيد يبادرني ذاك الذي كان حضوره قافلة من الحميمية المقطرة : أتعرف أيضا من جارنا هنا ؟ ودون أن تخرج اللا التي استبدلتها بهزة رأس للأعلى يتابع : أنه ناجي العلي .واليوم فقط أسأل نفسي ما الفرق بين أن ترحل حين يحين موعد قطارك وبين أن يأتي من يجبرك على الرحيل مبكرا على متن رصاصة أو خنجر ، لماذا يستعجل بعضنا بعضا طالما أن لكل منا في لوحه المحفوظ في محرك البحث الاكبر موعده وقطاره .
على باب جاري أقف ويومها في أحاديث القطارات - وما اكثرها من واترلولرينزبارك - لم نقحم امرأ القيس في حديثنا فمع الطيب صالح يحضر دوما ابو الطيب المتنبي ولم يكن في لندن من يحفظ قصائده مثله ومثل عبدالله الناصر لكن أباالطيب يغيب اليوم مع الطيب ويأتي امرؤ القيس من ذات الدار وقد عرف مكانه فتدللا وأطل براسه مختالا كقطعة جيكسو أخيرة لابد منها لتكتمل اللوحة ،بلى أنه يأتي مسلحا بكل طاقته على تكثيف الفقدان الطيب وهل يملك الانسان الا أن يكون طيبا حين يغترب أو يموت :
يا جارتا انا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
على باب صديق عمر أقف كأني على ضفة نهرذكريات كلها عذبة بصحبة ذاك العذب النقي الصافي الذي عرفته بود واحترام قبل أن اراه فلما رأيته وتعرفت اليه اكثر في السفر والاقامة ازددت له حبا ،فقد كان في لندن الباردة عنصر دفء لنا جميعا صعاليكها ورسمييها وكان في جلسات سمرنا الاسطوانة الاثيرة التي لا نريدها أن تتوقف فالطيب في سمره مع اخوانه وخلانه كجلساته مع قلمه نهر عميق يروي الضفتبين وتظل عينه على افق بعيد هل تراه أدرك البارحة ذاك الأفق ؟ .
لماذا يقفز هذا الشريط المضغوط الى شاشة العمر وأنا امام باب لن يفتحه الطيب بعد الآن أبدا ، أنه يدور من تلقاء نفسه ويقف كما يليق بصديق عمر أليف عند المزهر والبهي والمثمر وما أكثر ه بين ذكريات فتية دان الزمان لهم ودانت الثقافة ومعها نبل المقصد واللغة ففي لندن وخصوصا عند غازي القصيبي حين كان سفيرا لمملكة الرب فيها كنا نجتمع بصفة تكاد تكون دورية علامتها قدوم يوسف الشيراوي الى عاصمة الضباب وهناك ومع غازي ويوسف وعثمان العمير وبلند الحيدري والحقيل والقشطيني ونجدة صفوت وثلة من أصفياء الفكر المتسامح الأصيل كان للحوار طعم آخر وللافكار أجنحة .
على باب مصطفى سعيد أقف جوليا تفتح الباب وقد أحمرت عيناها الخضراوان من دموع اليوم التي تزاحم دمع البارحة وعلى باب المطبخ البسيط تقف سميرة بنت الطيب الصغرى فأسأل عن زينب أختها الكبرى لأعلم أنها في الطريق ومعها عمهما البشير الذي يقطر طيب كأخيه ،وفي لحظة يجهش معنا فيها كل من في الكون لفقدان تلك الموجة الهادئة من المحبة تخبرني زوجة صديقي الطيب أنه أغمض عينيه بهدوء وهاجر كما عاش بسلام وفي حضور طيف الأسطورة الكونية كان لا بد أن تقولها بالانجليزية (بيسفولي )
على الأرض السلام اذن وفي السماء المحبة يا جوليا الحزينة فصديقنا الطيب الصالح الذكي اللماح الودود المحب الأصيل المهاجر الذي هاجر في كل الاتجاهات ولم يهاجرأم درمان ومروى سيغادر هيثرو اليوم للمرة الأخيرة بجواز سفره السوداني الذي لم يستبدله أبدا فقد كان يعلم أنه عائد الى أم درمان ولن ينتظر مع بقية غرباء لندن - كناجي العلي وبلند الحيدري - من يقر له بحق العودة .

محيي الدين اللاذقاني
الخميس 19 فبراير 2009