فبمراقبة بسيطة للسلوك الجمعي في ما يحصل في التظاهرات والتجمعات منذ بداية الثورة على نظام بشار الأسد وحتى اندلاعها في الأيام الأخيرة على تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية، داعش، وكذلك على ما جرى ويجري في ساحات القتال تجد أدلة صارخة تثبت ذكاء المجتمعات الأهلية السورية وفهمهم وظرفهم والحس السياسي العالي والتضحية والتضامن، انظر مثلا الى المجتمع الأهلي في كفرنبل... ولكن كمقارنة انظر ما الذي يفعله السوريون كأفراد!؟
دعوني أوضح بعد النقاط. كان عام 2013 قاسياً على الشعب السوري ليس بالمعارك والخسائر، فحسب، لا بل حتى على مستوى الطموحات والتطلعات السياسية التي بدورها انكفأت كثيراً وسببت إحباطاً ليس على المستوى الشعبي فحسب بل وحتى على مستوى النخب المنخرطة في الثورة، وذلك لأسباب عدة أهمها: تقاعس المجتمع الدولي عن لعب دوره المناط به كحارس للسلم العالمي وداعم لتطلعات المجتمعات نحو الحرية والخلاص من الدكتاتوريات وتلاعبه على آمال وآلام السوريين على مدى ثلاثة أعوام، وكذلك اكتساح قوى ظلامية منبته، داعش، لا علاقة لها بآمال الشعب السوري في المناطق المحررة من سلطة النظام، وخصوصا في شمال وشرق سوريا، وإخضاعها السكان إلى قوانين صدئة وقتلهم كثيراً من الناشطين والإعلاميين والمتنورين، وسحقهم للجيش الحرّ الذي اعتبره السوريون الثائرون الأمل بوقوفه بوجه المليشيات الطائفية النصيرية والشيعية وأتباعهم، ساعدها في ذلك تخدير السكان بخطاب إسلامي جارف في لحظة خاصة من حياتهم، وكذلك خوف السكان والناشطين والثوار من التقاتل الداخلي لما له عميق الأثر السلبي برأيهم على سيرورة الثورة، ولأن نظام بشار سيفرح بهذا الاقتتال وهم بالمطلق غير راغبين بإعطائه وأتباعه أي احساس بالفرح.
لكن الأخطر أن كل هذا حصل في ظل غياب كامل للشعب السوري، حيث شهد 2013 شبه غياب للحراك الشعبي من خلال التظاهرات، ولم ندرك أن هذا التوقف سببه تطبيق النظام السوري للطريقة الأمنية التي اتبعها النظام الإيراني في القضاء على الثورة الخضراء في إيران، وهي تقسيم المدن والأحياء والقرى بالحواجز ومنع التواصل بينهم، ثم مساهمة بعض الكتائب المحسوبة على الثورة بتعزيز الحواجز، الى أن جاءت داعش وكثفت هي الأخرى حواجز مضاعفة أكثر دموية من مثيلاتها، بحيث بات من الصعب التواصل بين عدة بيوت في حيّ واحد وليس حيّا بحيّ آخر، الى أن اندلعت بطريقة خاطفة مظاهرة حاشدة في معرة النعمان كسرت صمت الساحات العامة عاما كاملا، فأعقبها مظاهرات في أحياء وقرى أخرى في ريف ادلب ثم انتقلت إلى ريف حلب والرقة ودير الزور... طردت هذه الحواجز خارج القرى والأحياء لنرى خلال الأسبوع الماضي مؤشر عودة السوريين إلى الساحات العامة للتظاهر في ارتفاع واضح.
لكن بنظرة أخرى على "التيارات" السياسية التي انبثقت خلال الثورة وخصوصا الائتلاف الوطني سنلاحظ أنها والائتلاف مجرد تجمع لأفراد، فشل في التحول لمؤسسة، وهنا يظهر للعيان أسوء ما في الفرد السوري! فهم مجموعة أفراد منقطعو الجذور عن مجتمعاتهم المحلية بسبب وجودهم في المهاجر، أو بسبب بحثهم الدائم عن المغانم مما جعل ظهورهم ركيكاً ويتسمون بالسخف وظهور الشللية بينهم بشكل فجٍ وملموسٍ للجمهور... لماذا هذه هي الحال رغم أنهم أحرار في الحركة والتجمع عالمياً ولديهم تمويلٌ يمكّنهم من ذلك وبعض الرعايات الدولية؟ الجواب: لأن نظام البعث أفسد الأفراد لكنه لم يستطع افساد التجمعات الاهلية, مثلا: تعامل النظام الأمني مع فرد من قرية سورية وجعل منه مخبراً غبياً ولئيما ومعاديا لأهله ومجتمعه، لكنه لم ينجح في افساد قريته التي بقي مجتمع التضامن الأهلي وأخلاقياته حية غير قابلة للمساومة. النظام الأمني البعثي أيضا، أحضر شخص من بيئته الأولية وحوّله إلى كائن بعثي، نمطي ببغائي عديم التفكير عديم القيمة... وجعل له قيمة يتحصلها من خلال كتابة التقارير أو ما يبذله من ماء وجه عبر استعداده لارتكاب كل الموبقات لأجل هذه القيمة!
نظام البعث وأمن النظام لم يستطع مجاراة النازية والفاشية في إفساد المجتمع ككتل، لأنه نفسه غير مترابط مما أفقده التاثير على المجتمعات السورية التي بقيت محافظة على روابطها الأهلية والأخلاقية وسلم القيم المتوارثة. فالبعث مثلا أفسد أفراداً مسلمين ومسيحيين ولكنه لم يستطع أن يفسد أخلاقيات الإسلام والمسيحية، أفسد تاجراً أو رجل دين من دمشق وحلب وغيرها، لكن بقيت الجماعة الأهلية الدمشقية والحلبية تحتفظ بأخلاقها.
في حين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية أدانت المجتمعات الأوروبية نفسها تكفيرا عن خطئها، ألمانيا مثلا: مازالت تشعر بالذنب كيف انساقت كمجتمع وراء العنصرية، وكذلك اليابان مازال المجتمع يلوم نفسه لانسياقه وراء الهمجية العسكرية الإمبراطورية اليابانية، كذلك الحال في الولايات المتحدة تجاه مسألة الملونين والسود... لذلك لجأت المجتمعات الغربية الى التركيز كثيرا على الفرد واعتبرت دوره هام جدا لوقف الجماعة عند حدها عندما يسودها الشطط حتى في الحالات الرائعة للتضامن مع الضحايا التي هي نتاج مجتمعي عادةً ما تنسب لفرد ذكي أو مُخْلِص، لذلك تبنى الأساطير حول الأم تيريزا أو نيلسون مانديلا... هوليوود على سبيل المثال تُصَوّر القصة ذاتها دائما، مجموعة تكون خاطئة بخياراتها وفرد محدد ذكي يستطيع عبر فهمه أو تضحيته اعادة المنطق أو كشف الفساد او انقاذ أمريكا او البشرية كلها ربما!؟ في حين في العالم العربي لايشعر العراقي العادي بأنه مسؤول كفرد أو كمجتمع عن احتلال الكويت أو ارتكاب الجرائم ضد الاكراد، ولا الفرد الليبي أو المجتمع الليبي يشعر بمسؤوليته عن غرابة سلوك القذافي، ولا المجتمع السوري يشعر بنوع من المسؤولية تجاه سلوك "الجيش" السوري في لبنان أيام عهد الوصاية، لأن الجميع يعتبر أنّ ما قامت به هذه الأنظمة يُعبّر عن حكامها والأفراد الذين ارتضوا لأنفسهم أنْ يكونوا جزءاً من ماكينة الشرّ. أما المجتمعات الأهلية فقد بقيت بعيدة عن تبني هذه المعايير.
في سوريا مابعد البعث وعائلة أسد الغريبة الأطوار يجب التركيز على إعادة بناء الفرد الذي خربه النظام وتخليصه من البهلوانيات البقائية التي تحكم سلوكه، لأنه إذا واصلنا الاستنتاج أنّ الجماعة هي أحسن من الفرد وضامن للأخلاق، سنبقى دائماً في البطريركية والمجتمعات والأنظمة الأبوية والأفكار التقليدية المأخوذة من الأسرة، صحيح أنّهُ أثناء الثورة أنقذتنا الجماعة أو الجماعات الأهلية مثل الأسرة والحارة والقرية بفضل قيمها من الفناء ولكن هذه الحقيقة بالذات لا تبشر بخير في المستقبل، إن بقيت الحامل المجتمعي الوحيد.
-----------------------
• مالك تلفزيون الأورينت
13/1/2014