تغيرت الأمور عام 2002 مع وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة في تركيا بوجه إسلامي معتدل وتحقيقه إنجازات اقتصادية كبيرة ورغبته في فتح صفحة جديدة مع العالم العربي باعتباره الامتداد الثقافي والاقتصادي لتركيا يوازي بأهميته العلاقة التركية الأوروبية.
شهدت تلك الفترة تطور العلاقات التركية العربية بشكل كبير وازداد التبادل الثقافي والاقتصادي والسياسي، ولكن ذلك لم يلغ عدم الثقة بين الطرفين، خصوصاً أن القيادة التركية كانت اكثر تحمساً وسرعة في التواصل مع الدول العربية بطريقة لا تتناسب مع طريقة العمل العربي السياسي الذي يمتاز بالحذر وبالبطء في اتخاذ القرار.
زادت الأزمات التي شهدتها المنطقة العربية من حالة الشك بين الطرفين مثل عدم تأييد تركيا غزو أميركا العراق، وتوافق تركيا والبرازيل مع إيران على آلية للحل الملف النووي الإيراني من طريق تبادل الوقود النووي الإيراني عام 2010 والذي وافقت بموجبه إيران على تبادل 1200 كيلوغرام من الوقود النووي منخفض التخصيب مقابل كمية مماثلة عالي التخصيب للاستخدامات الطبية من دون إعطاء إيران أي امتيازات إقليمية. ثم إرسال تركيا سفينة "مافي مرمرة" لكسر حصار غزة وانخراطها في الوساطة بين إسرائيل وسوريا في مفاوضات السلام غير المباشرة الدائرة بينهما.
لا شك في أن الشارع العربي تعاطف مع المواقف السياسية التركية، إلا أن الشعور أن تركيا تريد قيادة هذا الجزء من العالم والعودة به الى الزمن العثماني بطريقة جديدة لم يفارق العقل العربي ولم تبذل أنقرة جهوداً إضافية لتبديد هذه المخاوف.
كانت بداية الربيع العربي 2011 النقطة المفصلية في حدوث الخلاف العربي - التركي، إذ اختلفت الرؤية التركية عن نظيرتها العربية / الإماراتية والسعودية - على وجه التحديد - في ما يخص كيفية التعاطي مع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن. ففي حين أيدت كل هذه الدول تطلعات الشعوب نحو الحرية والكرامة والتنمية دعمت تركيا التيار الإسلامي في هذه الدول المتمثل بـ"الاخوان المسلمين" ليكون امتداداً أو نسخة عربية من حكم حزب "العدالة و التنمية" التركي، وبالتالي تعاملت بعض العواصم العربية مع الثورات العربية بعد الدعم التركي لها باعتبارها خطراً محدقاً وتهديداً وجوديا، خصوصاً إذا نجحت الثورات في إقامة حكومات جديدة تحت الرعاية التركية.
الاختلاف في التعامل مع الثورات العربية لم يكن هو العامل الوحيد الذي سبب هذا الخلاف في العلاقة بين تركيا وبعض الدول العربية، لا سيما دول الخليج، بل إن هناك عوامل أخرى عمقت هذا الصدع، قد يكون أهمها انحياز تركيا الكامل لسيطرة "الاخوان المسلمين" على الحكم في مصر التي تعتبر الامتداد الاستراتيجي لدول الخليج ثم لاحقاً استقبال تركيا قادة "الاخوان المسلمين" المصريين واعتبار الحكم في مصر غير شرعي ثم التدخل التركي في ليبيا الذي رأت مصر انه يهدف بشكل رئيسي الى زعزعة استقرارها، والدعم التركي لقطر عام 2017 بعد فرض الحصار عليها الذي رأته السعودية تهديداً مباشراً لها.
البعد التاريخي للعلاقات العربية التركية وعدم الثقة وعدم القدرة على التواصل لتقليص الفجوات في وجهات النظر أدت الى حالة من القطيعة السياسية بين تركيا و الدول العربية المستقرة مثل السعودية ومصر. وبغض النظر عن التفسير التركي لكل هذه الأحداث إلا انه أصبحت تركيا تمثل هاجساً لا يقل خطورة عن إيران لهذه الدول.
يعني فوز الإدارة الديموقراطية في الانتخابات الأميركية وتركيزها على مواجهة الصين واحتواء روسيا والانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط والتوصل الى اتفاق مع إيران حول مشروعها النووي الذي تعتقد أنه سيكون مفتاحاً لحل أزمات الشرق الأوسط، خصوصاً في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، يعني إعطاء إيران الدور الأكبر في إعادة تشكيل الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
ستدفع الدول العربية وتركيا ثمن هذه السياسة التي لن تجلب الاستقرار للمنطقة في حال لم يدرك الأميركيون رفض المنطقة سياسات إيران المتطرفة التي لم تجلب إلا الدمار والخراب في أي مكان تواجدت فيه.
ومن هنا قد تكون إعادة تفعيل العلاقات التركية - المصرية - السعودية - الخليجية حجر الزاوية لطرح أفكار بديلة تحقق أمن دول المنطقة والولايات المتحدة ومصالحها من دون أي ضرر باستقرار المنطقة او مستقبلها.
ولتحقيق عمل فعال لهذه المجموعة، على هذه الدول الانخراط في حوار جدي ومعمق لمناقشة أسباب كل المشاكل السابقة بكل صراحة وإيجاد آليات حقيقية لبناء الثقة المتبادلة لتأسيس علاقة طويلة الأمد وتطوير أفكار متناسقة وواقعية تحفظ سيادة هذه الدول وأمنها وتحقق مصالحها من دون التدخل في شؤونها الداخلية واحترام خصوصيات كل الدول جميعاً، ويمكن تركيا أن تبدأ بهذا المسار، إعلامياً وسياسياً، علماً أن الآليات المؤسساتية موجودة ولكنها تحتاج الى قرار سياسي لتفعيلها.
----------
النهار العربي والدولي
----------
النهار العربي والدولي